دكتور عبد العظيم رمضان - قصة عبد الناصر والشيوعيين (الجزء الأول) دراسة تاريخية (1)

1-

محتويات

١ تقديــم
٢ تجربة الوفد الديمقراطية في الدفاع عن حقوق الإنسان (الوفد في 19/8/1996)
٣ مبدأ ثورة يوليو الأوحد هو الحكم والسلطة ! (الوفد في 26/8/1996)
٤ احتقار عبد الناصر للشيوعيين ! (الوفد في 2/9/1996)
٥ قصة عبد الناصر ومحمد نجيب ! (الوفد في 9/9/1996)
٦ قصة إسماعيل المهدوي (الوفد في 16/9/1996)
٧ زنازين عبد النصر في سجن الواحات ! (الوفد في 23 سبتمبر 1996)
٨ الرحلة إلى الأوردي ! (الوفد في 30 سبتمبر 1996)
٩ تشريفة أوردي أبو زعبل ! (الوفد في 7/10/1996)
١٠ ولأصحاب النظارات في الأوردي تنظيف البكابورتات ! (الوفد في 14/11/1996)
١١ وفي يوم الأربعاء الدامي : رفض المعتقلون غناء أغنية : « يا جمال يا مثال الوطنية » (الوفد في 23/10/1996)
١٢ "الزحف المقدس" في الأوردي .. وطرق تعذيب أخرى ! (الوفد في 28/10/1996)
١٣ الطاحونة الدموية في جبل أبو زعبل ! (الوفد في 4/11/1996)
١٤ وعلى أيدي هكسوس عبد الناصر تبدلت أجساد المعتقلين ! (الوفد في 11/12/1996)
١٥ حتى النظام النازي كان يعتبر نفسه نظاماً اشتراكياً ! (الوفد في 18/11/1996)
١٦ رحلة في القرون الوسطى ! (الوفد في 25/11/1997)
١٧ عجلة التعذيب في وادي العقارب (الوفد في 2/12/1996)
١٨ وسجينات الرأي أيضاً ! (الوفد في 9/12/1996)
١٩ من معتقل العزب إلى معتقل المحاريق ! (الوفد في 16/12/1996)
٢٠ لقاء الموتى في معتقل المحاريق (الوفد في 23/12/1996)
٢١ هدية عبد الناصر للمعتقلين في عيد رأس السنة ! (الوفد في 30/12/1996)
٢٢ من التعذيب البدني ! إلى التعذيب النفسي (الوفد في 6/1/1997)
٢٣ وعقاب الرفض : استئصال العين ! (الوفد في 20 / 1 / 1997)
٢٤ تناقضات د . عبد العظيم أنيس (الوفد في 27 / 1 / 1997)
٢٥ اعترافات : د . عبد العظيم أنيس! (الوفد في 3 / 2 / 1997)
٢٦ ضرب سجناء الرأي عرايا كما ولدتهم أمهاتهم (الوفد في 10 / 2 / 1997)
٢٧ إنسانية عبد الناصر : قتل المعتقلين وتشريد الزوجات ! (الوفد في 17 / 2 / 1997)
٢٨ وقتلوا شهدي عطية ! (الوفد في 24 / 2 / 1997)
٢٩ والضرب بالشوم " لفتح الشهية " ! (الوفد في 3 مارس 1997)
٣٠ لم تكن أبداً ثورة تقدمية وإنما كانت انقلاباً عسكرياً فاشياً (الوفد في 3/10/1997)
٣١ د . لويس عوض .. وفوازير عبد الناصر ! (الوفد في 17 / 3 / 1997)
٣٢ عندما وقعت مصر في قبضة الحكومة الخفية والمخابرات والاتحاد السوفيتي ! الوفد في 24 / 3 / 1997
٣٣ د . لويس عوض وفاتورة حساب التجربة الناصرية ! (الوفد في 31 / 3 / 1997)
٣٤ رسالة مصطفى أمين إلى عبد الناصر (الوفد في 7 / 4 / 1997)
٣٥ وفي عهد عبد الناصر تحسر الشيوعيون على أيام إسماعيل صدقي ! (الوفد في 14 / 4 / 1997)
٣٦ عندما انتهت المحاكمة بالقبض على القاضي والمحامي !! (الوفد في 21 / 4 / 1996)
٣٧ سجناء الرأي في موكب العبيد ! (الوفد في 28 إبريل 1997)
٣٨ رحلة إلى ما وراء الشمس ! (الوفد في 5 مايو 1997)
٣٩ الحياة بين ليمان طره وسجن "جناح" ! (الوفد في 12 / 5 / 1997)
٤٠ هل كان نظام عبد الناصر فاشياً أو دكتاتورياً يستخدم أدوات فاشية ؟ (الوفد في 19 / 5 / 1997)
٤١ الرحلة الجهنمية من سجن جناح إلى سجن المحـــاريق (الوفد في 26 / 5 / 1997)
٤٢ سجناء الرأي وظهورهم الدامية ! (الوفد في 2 / 6 / 1997)
٤٣ مذكرات سعد زهران عن نظام التعذيب في الأوردي ! (الوفد في 9 / 6 / 1997)
٤٤ فلسفة تعذيب المعوقين ! (الوفد في 16 / 6 / 1997)
٤٥ فن إهدار آدمية المعوقيــن ! (الوفد في 23 / 6 / 1997)
٤٦ برنامج غذاء الأوردي ! (الوفد في 30 / 6 / 1997)
٤٧ برنامج التعذيب الليلي ! (الوفد في 7 / 7 / 1997)
٤٨ وفي سجون عبد الناصر كان للجواسيس الإنجليز الرعاية ولسجناء الرأي التعذيب والإهانة ! (الوفد في 14 / 7 / 1997)

1- تقديــم

يضم هذا الكتاب الدراسة التي نشرت تباعاً في جريدة الوفد في الفترة من 19 أغسطس 1996 إلى 29 يونيه 1998، واشتملت على 95 مقالاً، تحت عنوان رئيسي هو: ثورة يوليو وحقوق الإنسان.

وقد آثرت أن يصدر الكتاب في الشكل الذي قرأه القراء، أي في شكل المقالات التي شدت القراء على مدى 95 أسبوعاً، أي قرابة عامين كاملين. وهي مدة قياسية لا أظن أنه تفوقها مدة أطول لأية دراسة تاريخية من هذا النوع في تاريخ الصحافة، كما أنها أطول من المدة التي نشرت فيها دراستي عن حرب يونيه 1967 والتي نشرت في مجلة أكتوبر تباعاً تحت عنوان: "تحطيم الآلهة" وتجاوزت حلقاتها سبعين حلقة، استغرقت أكثر من سبعين أسبوعاً.

وعندما بدأت في كتابة هذه الدراسة كان تصوري أنها سوف لا تتجاوز عدداً قليلاً من الحلقات، فقد كان هدفي الأول هو ضرب نماذج من امتهان الرئيس عبد الناصر لحرية الرأي واعتدائه على حقوق الإنسان، وكنت أهدف بذلك الرد على المحاولة الفجة التي قام بها الناصريون في ذلك الحين لإثبات اعتداء الرئيس السادات على حقوق الإنسان عن طريق الاحتفال بمن أسموهم سجناء الرأي الذين اعتقلهم السادات في 3 – 5 سبتمبر 1981.

فقد أثارتني هذه المحاولة التي أغفلت سجناء الرأي في عهد عبد الناصر ولم تذكر غير سجناء السادات! مع ما هو معروف من أن سجناء عبد الناصر ألقى بهم في معتقلات تعذيب لا تفترق كثيراً عن معتقلات هتلر في "بوخنفالد" و "داخاو" و "أوشفيتز" وغيرها، في حين لقي سجناء السادات من المعاملة الإنسانية ما لا يقارن، وما جعل الكثيرين منهم يعترفون به في كتاباتهم.

ومع إدانتي الشديدة لأي اعتقال لصاحب رأي سواء كان في عهد عبد الناصر أو في عهد السادات، وسواء لقي معاملة وحشية أو معاملة إنسانية، فإن تجاهل الناصريين لمعتقلات التعذيب في عهد عبد الناصر كان ظلماً للتاريخ وتزييفاً له، ونفاقاً لا يتحمله ضمير مؤرخ.

ومن هنا قررت أن أكتب تاريخ معتقلات التعذيب في عهد عبد الناصر، وأن ألقي الضوء على هذه الصفحة الخفية التي لا تعرفها أغلبية الشعب المصري والشعوب العربية، من واقع الوثائق اصلية ومن واقع اعترافات الشيوعيين الذين لا يفترض فيهم مبالغة أو تزييف، إذ تنتفي عنهم شبهة التلفيق والتزييف وتشويه عبد الناصر وعصره، وهم اليوم أكبر المدافعين عنه وعن عصره، بل أكبر حلفاء الناصريين، ولم يكفوا – حتى في أثناء وقوع التعذيب عليهم – عن تأييد نظام عبد الناصر تحت وهم أنه نظام تقدمي، مع أن أي تحليل علمي وأيديولوجي سليم لا يتردد في التأكيد على أنه نظاماً عسكرياً فاشياً خالصاً.

وقد كان غرضي في البداية - كما ذكرت - هو مجرد ضرب نماذج، ولكني سرعان ما رأيت أنه ما دام أنني قد فتحت ملف التعذيب في عهد عبد الناصر، فعلي أن أمضي فيه إلى النهاية، حتى تكتمل الصور، وحتى لا يتصور أحد أن النماذج التي أوردتها هي نماذج طارئة وليست سياسة مقررة اتبعها عبد الناصر واتسم بها عهده من البداية.

فوق ذلك فإن الاكتفاء بضرب نماذج، فيه إجهاض للملف كله، ولن يتيسر فتحه مرة أخرى، كما أنه ظلم لتاريخ مصر، وظلم لتلك الصفحة التي يجهلها شعبنا وجميع الشعوب العربية التي خدعتها اشتراكية عبد الناصر دون أن تعلم أنها اشتراكية نارية لا تفترق كثيراً عن اشتراكية النظام النازي، فهذه الشعوب لا تذكر من عهد عبد الناصر سوى شعاره: "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد"، ولا تذكر أبداً أن عبد الناصر كان يدوس بقدمه على كل رأس يرتفع بالمعارضة لسياسته ويزج به في المعتقلات والسجون.

وقد كان عليّ حين قررت أن أقدم دراسة متكاملة عن معتقلات التعذيب في عهد عبد الناصر أن أستكمل ما لدي من وثائق كتبها المفكرون الشيوعيون في شكل كتب أو أوراق مطبوعة أو غير مطبوعة. وقد استغرق ذلك مني وقتاً وجهداً، وعاونني فيه كثير من الأصداء اليساريين الذين أدركوا أهمية استكمال هذه الصفحة من تاريخ مصر التي لم يجرؤ على كتابتها أحد من المؤرخين إلى اليوم، وأدركوا أكثر من ذلك أنني لا أستهدف من وراء هذه الدراسة سوى تسجيل الحقيقة التاريخية عن عصر عصف بمصر عصفاً شديداً، وغير تربتها الاجتماعية وأفكارها واتجاهاتها السياسية، ومضى بخيره وشره.

وعلى هذا النحو أخذت هذه الدراسة تتضخم أسبوعاً بعد أسبوع، وتتخذ الشكل الذي اتخذته، وهو شكل كان متعذراً لو أنني قصدت من البداية تقديمها في شكل دراسة متكاملة! فقد اختلط في هذا الشكل التأمل والتحليل والمراجعة والتصحيح والحوار.

وعلى سبيل المثال فقد نشرت وثيقة بخط اليد تحت عنوان: "ماذا حدث في أوردي أبو زعبل بدءاً من 7 نوفمبر 1959 إلى أواخر يونيه 1960 بقلم محمود شندي". وقد زارني في أعقابها المفكر اليساري المعروف سعد زهران، وأخبرني بأنه كاتب هذه الوثيقة وليس محمود شندي، وأبدى دهشته من وصولها إلى يدي. وقد قمت بتصحيح ذلك أثناء نشر الدراسة، وهو ما كان متعذراً لو كانت الدراسة قد صدرت قبل ذلك.

كذلك فلم أكن أعلم بمذكرات الأستاذ محمود السعدني التي نشرها تحت عنوان: "الطريق إلى زمش"، حتى تقابلت معه صدفة في حفل منح الدكتور الدكتور حسين كامل بهاء الدين الدكتوراة الفخرية من جامعة اسكتلندية، وبعث بها إليَ لأكشف أهميتها التاريخية القصوى، لأن محمود السعدني إلى اليوم مازال ناصرياً على الرغم مما تعرض له من تعذيب في عهد عبد الناصر، دون أن يكون شيوعياً! وتنتفي - بذلك - عنه شبهة التزييف والتشويه.

لذلك أردت بنشري هذه الدراسة في شكل المقالات التي صدرت بها، أن يخوض القارئ معها نفس التجربة التي خاضها قارئ صحيفة الوفد كل يوم اثنين على مدى 95 أسبوعاً، متابعاً لأحداث هذه الدراسة.

ومن الطبيعية أنني عندما قمت بإعداد هذه الدراسة للنشر ككتاب، قمت بإدخال ما يلزم من التعديلات التي تناسب دراسة علمية من هذا النوع، من ناحية ضبط العبارات والمعاني، وإضافة ما تحتاج إليه من إضافات. كما غيرت عناوين بعض المقالات التي صدرت بها في الأصل. وعند تعرضي لأسماء معتقلات التعذيب في ألمانيا النازية قمت بضبط نطق هذه الأسماء، وأضفت إليه أسماءها باللغة الإنجليزية، نظراً لأن تعريب هذه الأسماء الأفرنجية دون إرفاقها بحروفها اللاتينية يكون دائماً على حساب النطق الصحيح.

كذلك فإن نشر هذه الدراسة في صورة المقالات الأسبوعية التي صدرت بها أصلاً كان لابد أن يحمل معه ما يصحب عادة المقالات الأسبوعية من تلخيص سريع لما سبق ذكره لمساعدة القارئ على المتابعة ولتذكيره بما يكون قد نسيه. وقد طرأ لي حذف هذا التلخيص من مقدمة كل مقال، ولكني بعد أن أعدت قراءته تبينت فائدته في التذكير والتأكيد، ذلك أن القارئ لا يقرأ الكتاب في يوم واحد، وإنما يقرؤه على أيام قد تكون متباعدة، وهو بالتالي في حاجة إلى التذكير بما سبق له قراءته.

وقد يرى البعض ممن يقرءون هذه الدراسة أنها اتخذت موقفاً معادياً لعبد الناصر ولحكمه، مما يتنافى مع الحياد التاريخي الواجب توافره في المؤرخ الأكاديمي، وهؤلاء يتصورون أن الحياد التاريخي في شكل حياد الحق والباطل، وينسون أن المؤرخ الحق إنما هو موقف، ومن هذا الموقف يسترد أهميته.

وموقف المؤرخ الصحيح - في رأيي - يجب أن ينطلق من فكر تقدمي ورؤية تقدمية في صف الجماهير الشعبية وضد ما تتعرض له من استبداد او استعمار. فالتاريخ يكوّن الذاكرة القومية للشعوب، وهو الذي يكوّن الوعي القومي والوطني، وهو ضمير الشعب، فإذا كتبه مؤرخ يفتقد إلى الرؤية التقدمية لتطور المجتمع البشري، فإن التاريخ الذي يكتبه يفقد رسالته الحقيقية التي تقوم بها الدراسات التاريخية الحقة.

كذلك فإن الذين يتحدثون عن الحياد التاريخي بمعناه الرياضي ينسون أنه لا يمكن الفصل بين التاريخ والمؤرخ.

فالمؤرخ هو الذي يفسر التاريخ، وهو الذي يبث فيه من روحه، وهو الذي يبعثه من رقاد، ويحوله من رفات إلى كائن حي يتحرك ويؤثر. وبدون المؤرخ تبقى الأحداث التاريخية في قبرها في حالة موات!

وفي هذا الضوء، ومن هذا المفهوم، كتبت هذه الدراسة.

د. عبد العظيم رمضان

الهرم في أول نوفمبر 1998



2- تجربة الوفد الديمقراطية في الدفاع عن حقوق الإنسان (الوفد في 19/8/1996)

ربما كان خير ما نحتفل به بذكرى ثورة يوليو 1952، هو أن نقوم بدراسة جوانبها المختلفة دراسة تاريخية معمقة، حتى يمكن تقييمها التقييم الصحيح، وتحديد موقعها بين الثورات الوطنية المتعاقبة في تاريخ مصر ضد الاستبداد والاستعمار.

ولما كانت قضية حقوق الإنسان هي القضية التي تحدد مكان كل دولة على ظهر الأرض اليوم، ويقاس بها مدى تحضرها وتمدنها، وهي المعيار الذي حدده المجتمع الدولي للتعامل مع هذه الدولة أو تلك، بل هي الشرط الأساسي الذي حددته الدول الليبرالية لتقديم معوناتها المادية والمعنوية للدول، فقد رأينا أن نتخذ هذا المحور الهام للدراسة، عله يفيد في تكوين صورة متكاملة عن هذه الثورة، وأيضاً لموازنة الزفة الرئيسية التي تسوقها وسائل الإعلام المصرية بمناسبة ذكرى الثورة، والتي من شأنها أن تغمط حق الشعب في معرفة تاريخه معرفة مجردة من الهوى والأهداف السياسية، وهو ما تعمد إليه الدول المتحضرة التي تحترم شعوبها وتعرف أن من حقها أن تعرف التجارب السياسية التاريخية التي مرت بها معرفة أمينة. وهذا هو واجب المؤرخين الأول، فإذا كان من حق السياسيين الدفاع عن نظمهم السياسية بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، فإنه من حق المؤرخين الجفاع عن تاريخهم الوطني بالوسيلة المشروعة الوحيدة، وهي الحقيقة التاريخية!

وأعتقد أن الناصريين وحواريي ثورة يوليو سوف يرحبون باهتمامنا بموضوع حوق الإنسان، خصوصاً بعد أن أصبح هذا الموضوع شاغلهم الشاغل السياسي الأول، وأصبحت تتكون منهم معظم جمعيات حقوق الإنسان في العالم ظاهرة من ظواهر حياتنا السياسية والحزبية في مصر، الأمر الذي نخشى أن يفهمه شعبنا على غير حقيقته.

فمن المهم لشعبنا في حياته السياسية أن يعرف جيداً هوية الأصوات التي ترفع علم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وهل تنطلق من مبادئ أصيلة راسخة تسندها مواقف تاريخية ثابتة في الدفاع عن حقوق الإنسان، أو هي أصوات تتاجر بسلعة الحرية وحقوق الإنسان الرائجة في هذه الأيام؟ ذلك أن المعرفة الصحيحةلهوية هذه الأصوات هي التي تحدد موقف الصوت الانتخابي في أية اتخابات قادمة!

وعلى سبيل المثال، فإذا وضعنا تجربة الوفد التاريخية في الدفاع عن حوق الإنسان تحت الفحص التاريخي، فسوف نجد شواهد وأمثلة ونماذج تزدحم بها صفحات تاريخ مصر المعاصر، وسوف نعجز تماماً إذا حاولنا العثور على موف واحد للوفد اعتدى فيه على حقوق الإنسان المصري، بل إنه في كل الأوقات التي كان خصوم الوفد من أحزاب الأقلية والقصر الملكي يستخدمون في محاربة الوفد كل الأسلحة غير المشروعة من سباب في الصحف وافتراء وتشهير وتآمر على الحياة الدستورية في البلاد، كان الوفد يستفتي دائماً الدستور، قبل أن يتخذ أي خطوة في محاسبة هؤلاء الخصوم، ولم يمنع أبداً صوتاً عن مهاجمته حتى لو كانت هذه المهاجمة قائمة على تضليل وافتراءات وأكاذيب، ولم يصادر صحيفة مهما اشتطت في تجريحه وسبه!

ففي سنة 1928 عندما أحرز مصطفى النحاس الفوز في معركة قانون الاجتماعات مع الإنجليز انتهز القصر الفرصة لتدبير مؤامرة سيف الدين الشهيرة من أجل إقالة حكومة الوفد. وكان الأمير سيف الدين قد اعتدى على الملك فؤاد حينما كان لايزال أميراً في 7 مايو 1898 بأن أطلق عليه الرصاص في الكلوب الخديوي، وقد حكم على الأمير بالسجن سبع سنوات، ثم خففت إلى خمس، ثم وضع الأمير في مصحة في إنجلترا على أساس أنه مختل الشعور، وبقي في هذه المصحة سبعة وعشرين عاماً لم يتمتع فيها بشيء من أملاكه الواسعة وأطيانه الكثيرة، التي كان يعبث فيها الملك فؤاد. ثم هرب الأمير من المصحة في عام 1927 بعد مغامرات، وسعى في استرداد حقوقه في إدارة أملاكه ورفع الحجر عليه. ولما كانت خصومته الأساسية مع الملك فؤاد، فقد لجأ إلى مصطفى النحاس وويصا واصف وجعفر فخريبك، لاتخاذ الإجراءات القضائية لرفع الحجر عنه وإعادة جميع أملاكه إليه. وكان مصطفى النحاس في المعارضة في ذلك الحين.

وقد كان اختيار محامين من رجال الوفد مقصوداً في حد ذاته لمواجهة الملك فؤاد، الأمر الذي أكسب القضية بعداً سياسياً. وقد فهم الملك فؤاد هذا البعد وأدرك خطورته على مصالحه، وعول على الانتقام ولذلك فعلى الرغم من أن النحاس كان قد تنازل عن توكيله في القضية بعد أن تولى رياسة الوزارة في 17 مارس 1928 بعد استقالة ثروت باشا من رياسة وزارة الائتلاف، إلا أنه لم يمض في الحكم أكثر من ثلاثة أشهر حتى كان القصر يدبر مؤامرة سيف الدين، لتشويه الاتفاق الذي كان قد تم مع مصطفى النحاس على تولي الدفاع في قضية رفع الحجر عن الأمير سيف الدين.

ولذلك فعلى الرغم من أن تاريخ الاتفاق على الدفاع كان في فبراير 1927 ولك يكن النحاس قد تولى بعد رياسة الوفد، وعلى الرغم من أن النحاس كان قد تنازل عن توكيله في القضية عند توليه رياسة الوزارة، فإن صحف القصر صدرت، في أثناء تولي النحاس رياسة الوزارة، وعلى صدرها وثيقة محرفة للاتفاق على الأتعاب الذي عقده النحاس وزميليه، ووجهت إلى النحاس وهو رئيس الوزارة أقذر ما شهدته الصحافة المصرية من سباب حتى ذلك الحين، وقذفته بأقذع الإهانات، حتى إن جريدة الأخبار، وهي جريدة الحزب الوطني المتواطئ مع القصر، كتبت تقول: "ألا إنه لشرف النعال، وإنها لكرامة الأوحال، وإنها لأمانة المحتال، وإنها لصيانة دستور الدجال، ألا تخشى أن يتلطف معك صاحب الجلالة ويسألك أين استقالتك؟ فبماذا تجيب أيها النتن القذر ؟".

ومع ذلك لم يصادر مصطفى النحاس وهو رئيس الوزراء الجريدة التي ساقت هذه الاذورات، وإنما ترك للقانون أن يأخذ مجراه! وقد كان في يوم 7 فبراير 1959 حين أصدر مجلس تأديب المحامين ببراءة النحاس وويصا واصف وجعفر فخري مما حاول القصر إلصاقه بهم من تهم استغلال النفوذ السياسي وغيرها مما يمس شرف مهنتهم، وزاد فوصف عملهم بأنه "عمل محمود لا يُفهم كيف يكون محل مؤاخذة؟".

وقد كان إصرار مصطفى النحاس على تحكيم الدستور والقانون وهو في الحكم في معاملة المعارضة التي كانت تتآمر على الحياة الدستورية مع القصر، مما يثير ثائرة الكثيرين من رجال الوفد، الذين كان بعضهم يتوق إلى أن يحمي النحاس الدستور بوسائل أكثر فاعلية من اللجوء إلى المحاكم ورفع القضايا!

ففي عام 1937، عندما كان القصر يدبر المؤامرات لهذه الحياة الدستورية وإقالة حكومة الوفد، وكان رجال الوفد يعرفون ان الإقالة آتية لا ريب فيها، مع ما سوف يعقب هذه الإقالة من نضال طويل قد يستغرق سنوات طوال لإعادة الحياة الدستورية! كتب الصحفي الوفدي الشهير محمد التابعي مقالاً افتتحاياً شهيراً يقطر مرارة لتمسك النحاس بالدستور، يقول فيه:

"يحز في نفوسنا ـ نحن الوفديين ـ أن زعيمنا حاكم ضعيف! وأنه وضع الدستور عن يمينه، والقانون عن يساره، وعمامة ابن حنبل فوق رأسه، ثم أقسم على المصحف ليحترمن أحكام الدستور والقانون ولو شنقوه؟

"قيد مصطفى النحاس باشا نفسه، واختار أن يكون حاكماً ضعيفاً، في وقت ان يحل فيه شيء من الاستبداد، والعاجز من لا يستبد!

"مصطفى النحاس، الدكتاتور الطاغية ـ كما يصفه المعارضون ـ كل عيبه عندنا، نحن أنصاره، أنه لا طاغية ولا دكتاتور ولا يحزنون ـ كل عيبه انه، وهو يستند إلى أغلبية قل أن يفوز بها زعيم من قبله، قد اختار أن يترك أقلية قل أن يوجد مثلها في هزالها وضعفها، تتحكم فيه، وأن تشغله بصخبها وصياحها وضجيجها عن الاهتمام بشئون الدولة. وهو ـ لو شاء ـ ليستطيع أن يبطش بها ويمسحها من اللوح ويذرو ترابها الرياح!

"ولكنه ـ مصطفى النحاس الطاغية! ـ ليستغفر ويحوقل، ويهز عمامة ابن حنبل ويمد يده إلى الدستور والقانون ليرى حكم الدستور والقانون!

"وما أفلح حاكم، ولن يفلح حاكم يختار لنفسه هذه الطريق الضيقة!

"ليت مصطفى النحاس أدنى شيئاً من بطش صدقي، أو "عنطزة" محمد محمود! ليته كان طاغية بحق وحقيق، إذن لاسترحنا واستراح البلد، بل لاستراح الدستور والقانون، واستقرت الأمور وانتظم الحكم ومشت أسباب الإصلاح في هذا البلد.

"صحفي منا كان يحك قصبة أنفسه لحر دستوري لا في العير ولا في النفير، فكانت تقوم وزارة الداخلية، تقوم على قدم واحدة ولا تقعد. وكانت إدارة الأمن العام تقوم على قدم واحدة ولا تقعد، حتى تتعطل الصحيفة، وتصادر أعدادها، ويزج بالصحفي في السجن تحت إذن المحقق بضعة أيام!

"وصحفي يقول اليوم لمصطفى النحاس أنه يتاجر بالوطنية، وإنه يهدر كرامة البلد، وإنه يبيع الوطن للإنجليز، وإنه يشترك مع زملائه الوزراء في نهب أموال المصريين ـ فيستشير مصطفى النحاس الدستور والقانون، وتتحرك النيابة بعد بضعة أيام، ويصدر الحكم بعد عام، وتقدم عن الحكم معارضة أو استئناف، هذا والصحفي وزملاؤه جادين في اللطم واللطش وحملة التجريح!

"أو يستشير مصطفى النحاس نبي الرحمة والصفح عيسى بن مريم، ومن ثم يدير بعدها خده الأيسر بعد خده الأيمن!

"ما هكذا الحكم يا زعيم الأغلبية، يا دكتاتور!

"أحكم كما يحكم الحاكمون الأقوياء! أحكم، أو لتترك الحكم للأقوياء القادرين!

"ما ذنب هذا البلد الذي بايعك على الزعامة، وما ذنب هذا الشعب الذي التف حواليك؟ وما ذنب الدستور الذي أريقت في سبيله دماء زكية؟

"اغضب مرة لهذا الدستور الذي يبيَّت له، ويُدس له، وينادى علناً من فوق منابر الصحف بأنه لا خير فيه!

"اغضب مرة لهذه الزعامة التي تقذف كل يوم بالوحول، وانس حكم الدستور والقانون، وافرح قلوبنا ولو ساعة واحدة، وكن طاغية، واستبد، وأشهدهم كيف يكون حكم الطغاة، وإلا فالويل لهذه الأمة يوم تتم سلسلة الدسائس، وتختتم الحلقات، يوم يضيع الدستور، وتتحكم الأقلية في الأغلبية، وتعود أنت إلى البلد تطلب منه استئناف الجهاد، فيقول لك هذا البلد المتعب المنهوك: عني يا من أضعت بضعفك ثمرات الجهاد!

"ولكن مصطفى النحاس لن يرضى بديلاً عن الدستور والقانون وعمامة ابن حنبل!

"والسلام عليكم يوم نمسي ويوم نصبح، فإذا مصطفى النحاس قد أضاع الدستور، من فرط حرصه على الدستور!".

وقد تحققت نبوءة محمد التابعي، فقد سقط الدستور على يد ثورة يوليو، وتحكمت أقلية من ضباط الجيش في الأغلبية، وفرضت ديكتاتوريتها، وارتكبت أشد الهزائم العسكرية نكراً في تاريخ مصر العسكري. ومع ذلك فما زال أنصارها يروجون لها، ويرفعون أعلامها، ويضللون الجماهير المصرية بأمجاد، ويقومون بعملية غسيل مخ للشعب المصري حتى ينسى ما ذاقه وعاناه في عهد عبد الناصر، ويخرجون له الأفلام التي تقلب الهزائم إلى انتصارات، والأكثر من ذلك والأغرب، أنهم أصبحوا من دعاة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأصبحوا أكثر المتشدقين بحقوق الإنسان!

ومن هنا حق في أن يعرف تاريخه بعيداً عن التضلي والتلفيق، ويعرف قصة ثورة يوليو مع حقوق الإنسان، حتى يكون لنفسه ما يراه من رأي، وأهم من ذلك بكثير حتى لا يدع لهذه التجربة الأليمة أن تتكرر في مصر مرة أخرى وهي تدخل القرن الواحد والعشرين.


3- مبدأ ثورة يوليو الأوحد هو الحكم والسلطة ! (الوفد في 26/8/1996)

قبل أن نتحدث عن موقف ثورة يوليو من حوق الإنسان، نود أن نذكّر أولاً بأن الثورة عندما أعلنت وجهها للشعب المصري، أعلنته من زاوية حقو الإنسان! وبمعنى آخر من زاوية احترام الدستور الذي يحمي حقو الإنسان، ولم تكشف عن وجهها إلا بعد أن استقرت قبضتها حول عنق الشعب المصري!

فقد قالت في أمرها اليومي الأول: إن حركة الجيش "ترمي إلى احترام الدستور، وإعادة الحياة الدستورية السليمة، وإطلاق الحريات العامة التي طال حبسها عن الشعب، حتى يستطيع التعبير عن رأيه والاشتراك بحكم نفسه بنفسه".

على أنه قبل مضي ثلاثة أيام فقط على هذا البيان، الذي من المفروض فيه أنه يعد التزاماً من الثورة بالدستور والديموقراطية لا تستطيع النزول عنه، ولم يكد الملك فاروق يدير ظهره لمصر في طريقه إلى المنفى،وتطمئن الثورة إلى تأييد الشعب الكاسح وجميع القوى السياسية في مصر، حتى كانت تنكص على عقبيها.

ففي يوم 27 يوليو 1952 طرح عبد الناصر على الهيئة التأسيسية للضباط قضية مستقبل الحكم في البلاد، وهل يكون عن طريق الدكتاتورية او عن الطريق الديموقراطية؟

وهو طرح غريب، لأن الثورة كانت قد حددت مسبقاً مستقبل الحكم في مصر في بيانه الأول، وأعلنت بعبارة صريحة ان حركة الجيش ترمي إلى احترام الدستور وإعادة الحياة الدستورية السليمة، فما هو ـ إذن ـ الذي أثار قضية الدكتاتورية؟

على كل حال، فإن الأمانة التاريخية تقتضي منا أن نقول إن رأي عبد الناصر الذي طرحه في هذا الاجتماع، كان إعادة البرلمان الوفدي المنحل، وتسليم مقاليد البلاد له. وهذا الرأي ثابت في مذكرات أنور السادات في كتابيه: "يا ولدي هذا عمك جمال"، و "البحث عن الذات". كما انه ثابت من رواية خالد محي الدين، وما قاله في الحوار الذي نظمته مجلة الطليعة في عددها الصادر في يناير 1975.

على ان هذا الرأي وجد معارضة إجماعية من الضباط! فعندما أخذت الأصوات، كانت النتيجة سبعة ضد واحد! أي سبعة مع حكم البلاد حكماً دكتاتورياً، وواحد فقط هو عبد الناصر، مع الديمقراطية! ويقول السادات إنه عند ذلك وقف عبد الناصر محتجاً، وقال إن الدكتاتورية طريق خطر على الثورة وعلى البلاد، وأنا مستقيل من جميع مناصبي!

وقد تأكد هذا الموقف من عبد الناصر عندما وافق على رأي الدكتور وحيد رأفت الذي أدلى به في مجلس الدولة، عند نظر مسألة دعوة البرلمان الوفدي المنحل للانعقاد لمناقشة مشكلة الأوصياء على العرش، وكان هذا الرأي يقضي بدعوة البرلمان الوفدي، على أساس أن حالة التنازل عن العرش التي لم ينص عليها الدستور تماثل حالة الوفاة التي النص عليها الدستور. وكان وحيد رأفت قد وقف وحيداً في هذا الرأي بسبب مؤامرات الدكتور عبد الرازق السنهوري وسليمان حافظ، فصوت ضده تسعة أصوات!

فما الذي حمل عبد الناصر على العدولعن رأيه واتباع طريق الدكتاتورية الذي وصفه بنفسه بأنه "طريق خطر على الثورة وعلى البلاد"؟

يقول خالد محي الدين، الذي لم يكن قد حضر الاجتماع السالف الذكر، وإنما كان في الإسكندرية، غن عبد الاصر روى له ما جرى فيه، وعندما سأله عن سبب عدوله عن الاستقالة، أجابه عبد الناصر بأنه وجد الموقف منقسماً على نفسه في الجيش، ووجد الموقف يفلت، فرضخ!

ولكن من الواضح أن السبب الحقيقي هو أن عبد الناصر أدرك أن استالته لن تقدم ولن تؤخر، وأن الثورة وقعت في يد زملائه، فعاد لكي يقف موقف المسيطر على الأمور، ولكي يستولي على السلطات التي كادت تسقط في يد هؤلاء الرفاق.

وهذا ما تؤكده الوقائع التاريخية، لأن عبد الناصر أخذ بعد ذلك يتخلص من زملائه بالتدريج، بعد أن وضع عبد الحكيم عامر في قيادة الجيش، وأصبح يعتمد على الجيش في حكم البلاد.

ومعنى ذلك أن البلاد وقعت بالفعل في يد "عصابة" من الضباط لا تحفظ وعداً ولا عهداً، وقد ابتلعت وعدها في بيانها الأول قبل أن يجف مداد الورق الذي كتب به! وبدلاً من إعادة الأمر إلى الأمة المصرية تدير أمورها بنفسها وفقاً لإرادتها الحرة الطليقة، فرضت نفسها على البلاد وعلى إرادة الشعب، وأخذت تقود السفينة دون أن يكون لديها أية خبرة مسبقة بقيادة السفينة.

والمهم هو أن هذه العصابة لم يكن يجمعها فكر أيديولوجي موحد، وإنما كان يجمعها شيء واحد هو البقاء في السلطة. فقد كان فيها من اليسار يوسف صديق وخالد محي الدين، وكان هناك من اليمين عبد المنعم أمين الذي كان يقف إلى جانب الفكر الرأسمالي الخالص، وكان عبد المنعم أمين هو رئيس المحكمة العسكرية التي عقدت في كفر الدوار لمحاكمة مصطفى خميس ومحمد البقري، وأصدرت قرارها بإعدامهما. كما كان من الضباط الإسلاميين حسين الشافعي وكمال الدين حسين اللذين كانا يريان الحكم بالقرآن، وبأن خلاص مصر في الدين .. وهكذا!

ولعل التاريخ لم يشهد ثورة منقسمة أيديولوجياً على هذا النحو، فقد كانت الثورة الروسية في أكتوبر 1917 ملتزمة بالفكر الاشتراكي، وكانت الثورة الفرنسية ملتزمة بالفكر البورجوازي، وكانت ثورة 1919 في مصر ملتزمة بالفكر الديموقراطي الليبرالي، وقد طبقت هذا الفكر كما تطبقه إنجلترا والدول الليبرالية في الغرب.

أما ثورة يوليو فقد كان مبدؤها الأوحد هو الحكم والسلطة! وفي سبيل ذلك اصطدمت باليمين واليسار على حد سواء وبدرجة متساوية، وإذا كانت قد اختلفت نتائج هذا الصدام فلأن اليمين الإسلامي كان يميناً انقلابياً، بمعنى أنه يملك ميليشياته وكوادره المدربة والمسلحة وتنظيماته العلنية والسرية، أما اليسار فكان تياراً فكرياً أكثر منه حركة ثورية تحرك الجماهير البروليتارية، كما أن البروليتاريا المصرية كانت على الدوام متأثرة بالدين وكانت ممتنعة في غالبيتها العظمى على الفكر الشيوعي.

ومن هنا، ففي حين اتخذ صدام الثورة مع اليمين الإسلامي شكلاً عنيفاً وصدامات واعتقالات ومحاولات اغتيال لضباط الثورة، اختتمت بمحاولة اغتيال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية يوم 26 أكتوبر 1954 ـ فإن الصدام مع اليسار المصري كان صداماً صامتاً تمثل فقط في اعتقال القيادات اليسارية بسهولة والزج بهم في المعتقلات والسجون.

وهذا ينقلنا إلى قضية حقوق الإنسان التي أصبح يتشدق بها الناصريون – فلم يكن اليسار يمثل في أي وقت تهديداً للثورة كما هو الحال بالنسبة للإخوان المسلين، ولم يعمد أبداً إلى القيام بأية حركة انقلابية ضد الثورة كما فعل الإخوان المسلمون في عامي 1954 و 1965، وإنما كانت معارضة اليسار تتخذ شكل التعبير عن الرأي فقط لا غير – أي التعبير عن الرأي المجرد من السلاح والذي لا تسنده أية قوة شعبية أو عسكرية أو أي وسيلة من وسائل القوة التي تشكل خطراً على الثورة.

ومع ذلك فقد اعتبرت الثورة أن مجرد التعبير عن هذا الرأي يمثل خطراً عليها! وأخذت تتعامل بوحشية، ونكلت بقياداته تنكيلاً! وفيما يبدو أن اليسار أصيب بعدها بالسادية ـ أي حب التعذيب ـ لأنه اليوم هو الذي يقف دفاعاً عن الثورة بعد أن غفر لها ما تقدم من ذنبها وما تأخر، ونسي الكثيرون منهم السياط التي ما تزال محفورة علاماتها على ظهورهم، والتي حرمت الكثيرين منهم من الظهور بملابس الاستحمام على الشواطئ!

وقد كان من الممكن أن تظل هذه الصحيفة البشعة سرية في طي الكتمان، لولا شجاعة البعض الذي كتب ذكرياته عن سجون ومعتقلات عبد الناصر، وروى كيف كانت تمتهن حقوق الإنسان المصري بينما كانت أبوا الثورة تتحدث عن الديموقراطية الاجتماعية والديموقراطية السياسية!

ونظراً لأن هذه الكتب اليوم قد نفدت من المكتبات، ولم يعد لها وجود، فإننا سنقدم عرضاً لها نهديه إلى دعاة حقو الإنسان من الناصريين، ليعرفوا أي نفاق يمارسون، وأي خداع وتضليل للشعب يقومون به عندما يظهرون أنفسهم قس مظهر دعاة الحرية، وينسون أن أيديهم كانت مخضبة بدماء الضحايا في عهد عبد الناصر دون أن يجرءوا على إثارة قضية حقوق الإنسان!

وفي الوقت نفسه، فإن اختيارنا لكتب اليسار إنما هو لإقحام من ينتسبون إلى اليسار من الناصريين، ولنسمع آراءهم في مدى احترام ثورة يوليو لحقوق الإنسان، ولنقضي على الخرافة التي روج لها الناصريون طويلاً، وهي أن ثورة يوليو كانت ثورة تقدمية ! ولنثبت أنها كانت في حقيقتها مجرد ثورة ناصرية لا تنتمي لفكر، وإنما تنتقي من كل فكر ما يخدم بقاءها في الحكم.

بل إنه عندما أصدرت الثورة قرارات التأميم، لم يكن هدفها تطبيق أي فكر اشتراكي، وإنما كان هدفها الأوحد تصفية الرأسمالية المصرية تصفية اقتصادية وسياسثية، وإفساح الفرصة لزحف العسكريين على الإدارات المدنية لوسائل الإنتاج، لمساندة نظام الحكم على المستوى المدني.

وبالفعل، فقد حل العسكريون محل الرأسماليين في إدارة الشركات التجارية والصناعية والمالية، دون أن تسبقهم أية خبرة في هذا المجال، الأمر الذي عرض وسائل الإنتاج لاختلالات كبيرة في الإنتاج، وأدى إلى إضرابات عمالية عندما وجدت الطبقة العمالية نفسها تنتقل من يد الطبقة الرأسمالية إلى يد طبقة عسكرية، وتتحول المصانع من مراكز إنتاج مدني إلى ثكنات عسكرية!

وعلى سبيل المثال لا الحصر، ففي مرفق مثل مرفق النقل العام، تعاقب على إدارته منذ التأميم كل من اللواء حسن شاكر ـ وكان المرفق وقتها يتبع محافظ القاهرة اليوزباشي صلاح دسوقي، ولكن عبد الناصر اكتشف فيما بعد أنه عميل أمريكي للمخابرات المركزية الأمريكية، ففصله، ولكن أمريكا عينته في منصب كبير في الأمم المتحدة رغم عدم موافقة مصر!

وقد أعقب اللواء حسن شاكر، بعد فترة قصيرة تولاها الدكتور البربري، العميد جمال صدقي، ثم الفريق عبد العزيز الجمل بعد استيلاء الجيش على مرفق النقل العام، وفي عهد العميد جمال صدقي والفريق عبد العزيز الجمل أصبحت الإدارة العليا والإدارة المتوسطة في يد الضباط – الأمر الذي يوضح أن التأميم كان أحد أسبابه الأساسية فتح الإدارة المدنية للضباط! وخدمة الجيش الذي يستند إليه نظام عبد الناصر!


4- احتقار عبد الناصر للشيوعيين ! (الوفد في 2/9/1996)

في مقالنا السابق ناقشنا الأسطورة الشائعة بأن ثورة يوليو ثورة تقدمية، وقلنا إنها كانت مجرد ثورة ناصرية لا تنتمي لأي فكر، وإنما معناه أنها في إنجازاتها جميعاً كانت تستهدف غرضاً وحيداً هو بقاؤها في الحكم، ولا شأن لها بما إذا كان هذا الإنجاز ينتمي إلى الفكر الاشتراكي أو ينتمي إلى الفكر الرأسمالي!

وقد قلنا إنه عندما أممت ثورة يوليو وسائل الإنتاج في يوليه 1961 لم يكن عشقاً في الفكر الاشتراكي، أو انتماء له، وإنما كان أحد أسبابه الرئيسية هو فتح مغانم الإدارة المدنية للعسكريين، يغترفون منا ما يدعم نظام عبد الناصر ويخدم ضباط الثورة وأقاربهم وأقارب أاربهم! وبمعنى آخر كان أحد هذه الأهداف الأساسية احتلال الإدارة المدنية، ووضع وسائل الإنتاج في يد الجيش. وقد ضربنا الأمثلة على ذلك في مقالنا السابق.

وربما كان أكبر دليل على أن قرارات التأميم لم تكن بسبب انتماء فجائي للفكر الاشتراكي، هو أنه لم يشترك في صياغتها أحد من الاشتراكيين، وإنما رتبها عبد الناصر مع كل من الدكتور عبد المنعم القيسوني وحسن عباس زكي، وكلاهما بعيد كل البعد عن الإشتراكية! بل إنه لم يستشر فيها اشتراكياً قديماً احتفظ بعلاقته مع عبد الناصر، وهو أحمد فؤاد الذي أصبح رئيساً لمجلس إدارة بنك مصر.

وأهم من ذلك بكثير، هو أن قرارات التأميم صدرت في وقت كان عبد الناصر يضع الاشتراكيين في السجون منذ أول فجر في عام 1959، وينزل بهم أشد ألوان التعذيب – كما سوف نرى! ولقد شعر عبد الناصر بالتناقض في هذا الموقف، فأفرج عن بعض الاشتراكين ذراً للرماد في العيون، مثل لطفي الخولي وسعيد خيال والدكتور لويس عوض، ولكنه لم يذهب إلى حد إطلاق سراح جميع الشيوعيين!

وقد توهم الشيوعيون في معتقلات عبد الناصر وقتذاك أنهم أمام ثورة اشتراكية كتلك التي قامت في روسيا في أكتوبر 1917، وسارعوا إلى إرسال برقيات التأييد لعبد الناصر على خطوته الثورية التدمية! ولم يدركوا أن ما فعلته الثورة ليس له صلة بالثورة الروسية أو فكرها، وإنما هو مجرد انتقال من رأسمالية الفرد إلى رأسمالية الدولة، ونقل وسائل الإنتاج من يد الرأسماليين إلى يد ضباط الجيش!

والطريف، والمؤسف معاً، أن الاشتراكيين ما زالوا يتوهمون إلى اليوم ـ سواء في حزب التجمع أو في الحزب الناصري ـ أن ما حدث في يوليه 1916 كان اشتراكية! وهم يصفون بالرجعية كل من يوجه نداً لثورة يوليو، على الرغم من أنهم يعرفون جيداً أن المستفيد الأكبر من تأميم وسائل الإنتاج كان ضباط الجيش ومن يلوذ بهم، وأن هؤلاء الضباط، وليس الطبقة العاملة، كانوا هم الورثة الحقيقيين لوسائل الإنتاج!

فقد فتح التأميم أمام ضباط الجيش باباً واسعاً للتعيين والترقية لم يكونوا يحملون به، ونظراً لافتقارهم إلى الخبرة أصلا بإدارة وسائل الإنتاج المدنية، فقد كان في وسعهم أن يخطئوا ويسيئوا إدارة ما بأيديهم من المصانع والشركات والبنوك دون أن يخشوا مساءلة أو نقداً في غياب صحافة حرة تراقب وتنقد، بل في وجود حماية مطلقة من جانب الثورة لتلك الأخطاء! فلقد كانت أقصى عقوبة توقع على الفاشل منهم هو نقله إلى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة أخرى! وقد تحول هؤلاء جميعاً إلى اشتراكيين بحكم النعة، دون أن يعرفوا معنى الكلمة!

والغريب أن هذا التأييد اليساري المطلق لثورة يوليو، والذي استمر إلى اليوم باعتبارها ثورة تقدمية، لم يخفف منه احتقار عبد الناصر للشيوعيين وتجاهله لهم، ودأبه المتواصل على تشويه نضالهم وماضيهم، حتى بعد التأميم الذي أسماه الشيوعيون ثورة اشتراكية!

ففي جلسة 29 نوفمبر 1961، وفي أثناء عقد اجتماعات اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني، اتهم عبد الناصر الشيوعيين في الحزب الشيوعي المصري بأنهم عملاء، وأنهم يأخذون تعليماتهم من رياستهم الموجودة في صوفيا، وأنهم من قبل كانوا يأخذون تعليماتهم من روما، وقبلها كانوا يأخذون تعليماتهم من فرنسا، وإبان الحرب كانوا يأخذون تعليماتهم من إنجلترا، "وأنا أعرف كثيراً منهم، وهذا كلام صريح وواضح ومعروف، وطالما أن شخصاً يأخذ تعليماته من الخارج، لا يمكن أن يعتبر وطنياً بأي حال من الأحوال!".

ولهذا السبب فإنه عندما أراد عبد الناصر تغيير لافتة الاتحاد القومي لتصبح الإتحاد الإشتراكي، بعد انفصال سوريا عن مصر، شكل لجنة تحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية من 260 عضواً، لم يعين فيها شيوعياً واحداً! وعندما فتح باب الدخول إلى الإتحاد الإشتراكي في أول يناير 1963، حرص على استبعاد الشيوعيين مع كل أفراد القوى السياسية القديمة!

والطريف أنه حين عين عبد الناصر أميناً عاماً للاتحاد الاشتراكي لم يعين اشتراكياً، وإنما عين حسين الشافعي الذي لم يعرف عنه في يوم ميلاً للاشتراكية، بل كان ـ كما وصفه لي خالد محي الدين ـ يرى الحكم بالقرآن وبأن خلاص مصر في الدين. كذلك لم يعرف عن أحد من أعضاء الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي اهتماماً بالمبادئ الإشتراكية، غير كمال الدين رفعت. وكان الاتحاد الاشتراي الذي هو تنظيم شعبي، أشبه بثكنة عسكرية، إذ كان يسيطر عليه الضباط، وكانت نسبة الضباط في تشكيل الأمانة العامة إلى الأعضاء المدنيين 19 إلى 3 ! ومعنى ذلك أن الأعضاء المدنيين كانوا بمثابة ديكور لتخفيف الصبغة العسكرية الفاقعة.

والمهم هو ما ترتب على التأميم من نتائج فادحة على العملية الإنتاجية، اضطرت نظامنا السياسي الحالي إلى خصخصة القطاع العام بعد 35 عاماً!

فلقد كان كل ما حققته اشتراكية عبد الناصر هو أنها قضت على طبقة منتجة، هي الطبقة الرأسمالية بأجنحتها الصناعية والتجارية والمالية والزراعية، وهي التي كانت تحمي وتصون وسائل الإنتاج التي تملكها، وأحلت محلها طبقة عسكرية طفيلية تثري على حساب العملية الإنتاجية، ولا تشعر بأي انتماء لوسائل الإنتاج، وإنما تدين بانتمائها لمراكز القوى التي عينتها في مناصبها، والتي كانت تحميها من المحسبة الشعبية.

ولم يكن غلا بعد انقضاء عصر عبد الناصر عندما أخذت العناصر المدنية تحل تدريجياً محل العناصر العسكرية.

فلم يكن السادات يخشى كما كان يخشاه عبد الناصر، وكان المشير عامر قد اغتيل، وبدأت وسائل الإنتاج تتخلص تدريجياً من سيطرة ضباط ثورة يوليو.

وفي كل هذه الرحلة الطويلة كانت ثورة يوليو تدوس حقوق الإنسان المصري بقدميها ـ وبمعنى آخر بأقدام الناصريين الحاليين الذين يتشدقون بحقوق الإنسان ويضللون باسم حقوق الإنسان!

فعندما أرادت القوى الوطنية والتقدمية التخلص من حكم الجيش في أزمة مارس 1954، وكانت تتكون من حزب الوفد الليبرالي، والشيوعيين بتنظيماتهم المختلفة، وحزب أحمد حسين الاشتراكي، فضلا عن الإخوان المسلمين، دبر الصف الثاني من الضباط حركة إضرابات للعمال تطالب ببقاء الثور، وفي ظل هذه الإضرابات انقضت الثورة على القوى الوطنية والتقدمية بالاعتقال، بينما كانت تسخر دار الإذاعة المصرية لإذاعة قرارات النقابات بالإضراب، من قبل أن تتخذ هذه النقابات القرارات بالفعل! بينما كان مجدي حسنين يحرك عمال مديرية التحرير، التي كان يديرها، إلى القاهرة، ويعد البكباشي أحمد أنور مدير البوليس الحربي ومساعده حسين عرفة مظاهرة إلى مجلس الدولة لتأديب الدكتور السنهوري رئيس مجلس الدولة! وعندما طلب السنهوري النجدة من أمن الجيزة، اقتحمت مظاهرة، مكنة من جنود البوليس الحربي المتخفين في الملابس المدنية، الأبواب، واندفعت إلى السنهوري وأعضاء الجمعية العمومية لمجلس الدولة، وأوسعوهم ضرباً، ونقل السنهوري إلى المستشفى!

ويعلق أحمد حمروش على هذه الواقعة بقوله: "كان الاعتداء على مجلس الدولة والدكتور عبد الرازق السنهوري نهاية لقدسية القضاء، وإطلاقاً لقوى العنف".

وسرعان ما وجهت الثورة ضربة قاصمة لحقوق الإنسان عندما حرمت من الحقوق السياسية جميع وزراء العهد القديم، واستدارت إلى الصحافة، فاعتقلت وشردت عشرات الكتاب والصحفيين الشرفاء وقادة الفكر، وأصدر مجلس قيادة الثورة في 5 إبريل 1954 قرار بما أسماه تطهير الصحافة!

وقام بحل نقابة الصحفيين بدعوى أن سبعة من أعضاء المجلس البالغ عددهم اثنى عشر قد تقاضوا مصروفات سرية! وكان هؤلاء الأعضاء هم الذين تصدوا لدكتاتورية الثورة وطالبوا بعودة الجيش إلى ثكناته.

كذلك استدارت الثورة إلى الجامعة "لضمان انتظام الدراسة فيها"! وقامت بفصل نحو خمسين أستاذاً جامعياً، وفرضت أحد الضباط أميناً عاماً للجامعة! فقضت بذلك على استقلال الجامعة وحرية الفكر والبحث العلمي، وتحولت الجامعة إلى إدارة من إدارات الدولة! ولكي تحكم رقابتها وسيطرتها على الجامعة عينت ضابطاً من ضباط الثورة وزيراً للمعارف، وهو السيد كمال الدين حسين لمدة أربع سنوات كاملة من أول سبتمبر 1954 إلى 6 أكتوبر 1958. وأصبحت جميع مدارس الجمهورية في مراحلها التعليمية المختلفة تحت سيطرة الثورة، وصار على مدرسي مصر أن يلهجوا بذكر الثورة ومناقبها كل صباح حتى لا يفقدوا وظائفهم!

ولضرب الوفد، أغلقت الثورة جريدة المصري، وحاكمت السيدة زينب الوكيل، وحُكم على حسين أبو الفتح بالسجن 15 سنة مع إيقاف التنفيذ، وعلى محمود أبو الفتح بالسجن عشر سنوات، وحكم على أبو الخير نجيب بالسجن 15 سنة "أشغال شاقة"! مع تجريده من شرف المواطن!

وهذا الحكم الأخير نهديه للناصريين الذين كانوا أشد المتحمسين ضد قانون الصحافة، وضد حبس الصحفيين حبساً احتياطياً، في حين كانوا يحكمون على الصحفيين "بالأشغال الشاقة"! وكان أولى بهم أن يدعوا النضال ضد قانون 92 للأحرار من السحفيين الذين كرسوا حياتهم للدفاع عن حرية الصحافة بدلا من انتحال شرف لم يرشحهم له تاريخهم في العدوان على الصحافة والصحفيين!

فعندما دافع المرحوم جلال السيد الصحفي بالجمهورية عن قضية المعلمين، فصل من وظيفته من الجريدة، وحرمه من مرتبه، وأمضى شهوراً طويلة في الشتات! مع أنه كان ـ وظل ـ من أشد أنصار ثورة يوليو حتى آخر رمق! وهو ما يوضح ما قلناه من أن الثورة لم تكن تنتمي لأي فكر إلا ما يحقق ويضمن بقاءها في الحكم.

وفي 31 مايو 1955 كانت الثورة تعتقل 252 شيوعياً، وصدرت الأحكام على كل من محمد شطا والدكتور شريف حتاتة، وحليم طوسون "بالأشغال الشاقة" عشر سنوات. وعلى زكي مراد المحامي، ومحمد خليل قاسم بثماني سنوات أشغال شاقة، وبالسجن خمس سنوات على أحمد طه، ومحسن محمد حسن، وسعد كامل وزوجته، وزوجة الشارع كمال عبد الحليم. وحكم بالسجن ثلاث سنوات على إبراهيم حسن، وسيد البكار (وهما وفديان) وبالسجن سنتين على بكر سيف النصر (وهو وفدي أيضاً). كما حكم على اليوزباشي مصطفى كمال صدقي بخمس سنوات.

وكان اعتقال خصوم الثورة يصحبه عادة الضرب والتعذيب! وهي العادة التي انتقلت من الجيش، حيث كان الضرب أسلوباً متداولاً فيه يهين به الضباط كرامة الجنود رغم أنه ممنوع قانوناً! وقد عامل ضباط الثورة الكتاب والمفكرين والصحفيين والسياسيين معاملة الجنود الصغار! وقد بدأ الأمر عندما اعتقلت الثورة أحمد حسين رئيس مصر الفتاة والصحفي أبو الخير نجيب. فقد ظل الضباط يضربونهما حتى الصباح! وقد كان كان هذا الضرب في المرحلة الأولى عملاً هيناً، قبل أن تطور الثورة أساليبها وتكون كوادر من زبانية التعذيب الذين ظلوا يؤدبون مفكري مصر وكتابها وسياسييها طوال عهد الثورة المجيد وحتى وفاة عبد الناصر رحمه الله!


5- قصة عبد الناصر ومحمد نجيب ! (الوفد في 9/9/1996)

أود أن أقول في بداية هذا المقال عن "ثورة يوليو وحقوق الإنسان" أن هدفي من هذه السلسلة من المقالات هو إعادة التوازن التاريخي في تقييم ثورة يوليو، الذي اختل بالحملة الإعلامية الغريبة التي برزت هذا العام، وأعادت ذكرى العهد الناصري، وأظهرت ثورة يوليو في صورة الإنجازات الضخمة، وأخفت السلبيات الضخمة، بما يؤثر سلبياً على الصورة الشاملة للثورة، والتي يجب أن تستند إلى الموضوعية وحدها، ولا تتأثر بأية دعاية مغرضة كان لها ما يبررها في نظر أصحابها في عصر عبد الناصر، ولم يعد لها أي مبرر في عهد الرئيس مبارك الذي يمثل وحدة تاريخية قائمة بذاتها، بعيدة كل البعد فكرياً وعملياً عن ثورة يوليو.

كذلك فإن المقصود بهذه المقالات الرد على التضليل الذي يمارسه الناصريون في الحياة السياسية المصرية وإظهار انفسهم في صورة أنصار الديموقراطية ودعاتها، وأكبر المدافعين عن حرية الصحافة والديموقراطية وحقوق الإنسان! حتى لا ينعكس تأثير هذه الصورة المضللة على ثورة يوليو، فيتصور شبابنا الجديد أن ما يقوم به الناصريون من دور هو استمرار لدورهم في عهد عبد الناصر! مع ما يعرفه الذين عاشوا ثورة يوليو ودارسو التاريخ من تناقض هذه الصورة تماماً مع صورة ثورة يوليو الحقيقية، التي خلت تماماً من حرية الصحافة والديموقراطية وحقوق الإنسان، وحفلت بألوان القهر وإهدار كرامة الإنسان المعارض، حتى لو كان هذا الإنسان المعارض من ضباط الثورة!

لقد كانت دولة عبد الناصر هي دولة المخابرات، وكان تعاملها مع معارضيها السياسيين تعاملاً فاشياً بحتاً لا يفترق كثيراً عن تعامل النازيين مع خصومهم. وهذا الكلام ليس كلامي وإنما هو كلام التقدميين الحقيقيين واليساريين الذين خاضوا تجربة ثورة يوليو، والتي نسوها للأسف الشديد وأصبحوا من حواريي ثورة يوليو، والتي نسوها للأسف الشديد وأصبحوا من حواريي ثورة يوليو، وبعضهم أصبح عضواً في الحزب الناصري ناسياً تجربة السجن والاعتقال والتعذيب، وكلهم أصبحوا على رأس جمعيات حقوق الإنسان في مصر تضليلاً!

وربما كانت تجربة اللواء محمد نجيب مع ثورة يوليو مؤشراً جيداً على مدى احترامها لحقو الإنسان. وسوف نتجاوز هنا عن الخلافات التي دارت حول دور محمد نجيب في ثورة يوليو، ولكن هناك حقيقة خالدة لا تقبل أي نقض، وهي أنه بدون محمد نجيب فإن ثورة يوليو كان مقدراً لها الفشل منذ اللحظات الأولى، فلم يكن لواءات الجيش المصري وقتذاك ليقبلوا بتزعم بكباشي وعدد من ضباط الجيش الصغار ثورة تخلعهم من مكانتهم، وإنما كانوا يقمعونها على الفور، ولكن وجود ضابط منهم برتبة لواء مثل محمد نجيب فاز برئاسة مجلس إدارة نادي الضباط قبل نصف عام، كان له تأثيره في تقبل الشعب والجيش للثورة ونجاحها.

كذلك سوف نتجاوز عن الخلافات التي ثارت بين محمد نجيب وضباط الثورة حول عودة الجيش إلى ثكناته وقضية الديموقراطية، ولكنا سوف نتعرض فقط لمعاملة الثورة لهذا الرجل الذين تدين له بنجاحها، والذي تقبل بشجاعة مسئولية تصدر قائمة الثوار، وتحمل المخاطرة بفشل الثورة ومحاكمته وإعدامه.

فلقد كان في وسع عبد الناصر أن يعامل محمد نجيب كما عامل الرئيس التونسي زين الدين بن علي الرئيس السابق الحبيب بورقيبة عندما قام بانقلاب عليه، ولكنه اهانه ونكل به تنكيلاً على الرغم من أن اللواء محمد نجيب لم يكن يمثل خطراً على نظام عبد الناصر في أية صورة من الصور!

فقد صادر أوراقه وكتبه وتحفه وتذكاراته ونياشينه وقلاداته وسيوفه ونقوده وكل شيء يخصه، وحذف اسمه من كتب التاريخ والمطالعة التي زورت التاريخ وعلمت التلاميذ أن جمال عبد الناصر كان أول رئيس لجمهورية مصر! وحدد إقامته في فيلا زينب الوكيل التي صادرتها الثورة، لمدة 29 عاماً، وأهين وضرب.

وفي ذلك يقول محمد نجيب في مذكراته: "لست أدري ماذا فعل ليفعلوا بي كل هذا؟ إنني يوم ودعت الملك، الذي انتهك الحرمات، وأحل الفساد محل النقاء، وجلب الخراب والهزيمة على البلاد، كنت حريصاً على وداعه وداعاً رسمياً، مشمولاً بكل مظاهر التكريم ورعاية والاحترام! وسمحت له بأن يأخذ أشياءه الخاصة والشخصية، وتركت السفراء والوزراء والحاشية يود عونه، وأمرت أن تطلق المدفعية 21 طلقة، وأن تعزف الموسيقى نوبة مساء والعلم ينزل من على السارية، ليحتفظ به الملك ـ حافظت على الأصول والتقاليد، ولكن لم يحافظ عبد الناصر لا على الأصول ولا على التقاليد ... تعاملوا معي كأنني لص مجرم أو شريز، لم يحترموا سني ولا رتبتي ولا مركزي ولا دوري، وألقوا بي في النهاية في أيد لا ترحم، وقلوب لا تحس، وبشر تتعفف الحيوانات عن الانتساب إليهم"!

ثم يقول اللواء محمد نجيب: "إنني لا أكتب عن قضية خاصة، وإنما أكتب عن أسلوب الثورة في التعامل مع رجالها، وفي التعامل مع الناس الآخرين، وأكتب عن قضية ضرب الحريات، وإهدار الحقوق، وتحطيم كرامة الإنسان المصري. لقد قلبت الثورة كل معايير التعامل مع البشر، فالذين قاموا بها طحنتهم، والذين نافقوها رفعتهم!".

"لقد شطبوا إسمي من التاريخ، وزوروا التاريخ. ولم أكن على كل حال أول من فعلوا به ذلك، فقد سبقني على الأقل سعد زغلول، الذي وصفوه بأنه قفز على ثورة 1919، وأنه نصب نفسه عليها دون وجه حق! وفعلوا نفس الشيء بمصطفى النحاس، الذي عندما مات قبضوا على من مشى في جنازته، وظل محرما على المصريين أن يذكروه أو يتحدثوا عنه.

ثم يروي أول رئيس لجمهورية مصر كيف نكلت ثورة يوليو بأولاده، فقد قبضت على ابنه فاروق، ودخل ليمان طره، وبقي هناك خمسة شهور ونص، خرج بعدها محطماً ومنهاراً ومريضاً بالقلب، وبعد فترة مات! وفي ألمانياً قتلت مخابرات الثورة ابنه الآخر بسبب نشاطه السياسي، فقد جرت وراءه سيارة جيب حشرته بينها وبين الحائط ونزل ثلاثة رجال أخذوا يضربونه حتى خارت قواه ونزف حتى الموت! وأما ابنه الثالث يوسف الذي تخرج من معهد العلوم السياسية، واشتغل في إحدى شركات الدولة، فقد فصل، ولم يجد من عمل أمامه إلا العمل كسائق تاكسي! ومع ذلك ظل عبد الناصر يخشى محمد نجيب، وبلغ الخوف منه ذروته عندما وقعت هزيمة يونيو 1967 وخشي أن ينقلب الشعب عليه بسبب تلك الهزيمة المخزية، وتطالب بعودة محمد نجيب. يقول محمد نجيب إنه نقل إلى نجع حمادي، وبعد 48 ساعة قضاها في الاستراحة فوجئ بحضور ضابطين من البوليس الحربي، هما جمال القاضي ومحمد عبد الرحمن نصير، جاءا لينقلاه إلى مكان آخر. وعندما سألهما عن هذا المكان، "كان الرد بشعاً، أعتذر عن ذكره، وأشعر بالقيء كلما تذكرته! كان الجواب سيلاً من الشتائم حاولت وقفه بصرخة احتجاج، فإذا بضابط منهما يدفع يده في صدري ويلكزني فيه، ودارت بي الدنيا، وهانت عليّ الحياة".

"وساعتها أردكت ماذا فعلت حركة يوليو في مصر: كيف أزالت الاحترام بدلا من إزالة الفوارق بين الطبقات! وكيف أطاحت بالكرامة في الوقت الذي كانت تقول فيه: "ارفع رأسك يا أخي!". أي تغيير وقع في مصر؟ أي انهيار حدث في تاليد الجيش؟ كيف تتجرأ رتبة صغيرة على سب رتبة أكبر منها وضربها؟ وقد بقيت هناك في إحدى الغرف 59 يوماً كاملاً، في حجرة رطبة، لا تدخلها الشمس. وعند النوم أنام ومعي حراسة مشددة داخل الحجرة! وعرفت أن إامتي كانت سرية حتى على رجال وزارة الداخلية!".

هذه سطور مما كتبه أول رئيس جمهورية لمصر، ولعلها نموذج واضح عن مدى احترام ثورة يوليو لحقوق الإنسان، نهديها للناصريين ولأصحاب الحملة الدعائية التي تصور ثورة يوليو في صورة الثورة التحررية الكبرى التي حررت الإنسان المصري وحررت الفكر المصري!

في ذلك الحين كانت ثورة يوليو تتحول إلى دولة مخابرات ومعتقلات! وكانت هذه المعتقلات لا تخلو على الدوام من نزلاء تتغير ألوانهم السياسية، وكان الاعتقال بلا تحقيق أمراً إدارياً بسيطاً كاد من تكراره لبعض الشخصيات أن يصبح روتين حياتهم! ـ كما يقول الأستاذ أحمد حمروش.

أما أجهزة الأمن فكانت تنمو وتزدهر، وكان أول من تولى مسئوليتها زكريا محي الدين، الذي أطلق عليه اسم "بيريا" رئيس جهاز المخابرات الروسي الشهير الذي كان اسمه يبعث الرعب في القلوب، ويقول أحمد حمروش إن الأمريكيين سارعوا منذ اللحظة الأولى إلى تقديم خبرتهم لتنظيم المخابرات، بعد ان كانت في عهد الملك فاروق محدودة الأثر ومحصورة في البوليس السياسي!

ففي عهد فاروق لم يكن هناك جهاز أمن يعرف باسم المخابرات العامة، وكان عدد ضباط المخابرات الحربية في الجيش 15 ضابطاً فقط، وعدد ضباط القسم المخصوص بالبوليس السياسي 24 ضابطاً. ولكن لم يكد زكريا محي الدين يتولى مسئولية المخابرات حتى استعان بعدد من الخبراء الألمان إلى جانب تقارير المخابرات الأمريكية التي تقترح توحيد أجهزة الأمن. وقد أعد زكريا محي الدين مشروعا لتوحيد كافة المخابرات في إدارة واحدة لسهولة الهيمنة عليها. وكان زكريا محي الدين هو المشرف على كافة أجهزة الأمن الائمة في ذلك الوقت، وهي: المخابرات العامة، ومخابرات الجيش، والمباحث العامة بالداخلية.

كان النموذج الأمريكي هو المثال الذي تهتدي به أجهزة المباحث والمخابرات في ذلك الوقت! وقد أنشئ لهذا الغرض المعهد الإستراتيجي بجوار برج القاهرة، وكانت تدرس فيه محاضرات المخابرات الأمريكية المركزية لضباط المخابرات والمباحث وضباط أمن الوزارات. وكان بعض ضباط المخابرات المصرية عملاء للمخابرات الأمريكية! والغريب أن جمال عبد الناصر، على الرغم من إحاطته نفسه بهذه الأجهزة من المخابرات، لم يكن يطمئن إليه وإلى إخلاصها للثورة، ويشك في وجود صلة بين بعض ضباطها وأجهزة المخابرات الأجنبية. وقد دفعته هذه الشكوك إلى الموفقة على تعدد الأجهزة والمخابرات بقيادات مختلفة، بحيث تصب كافة معلوماتها عنده وحده. بل إنه أنشأ في مكتبه جهازاً خاصاً للمخابرات والعمليات والاتصالات كان يشرف عليه سامي شرف سكرتيره الخاص، وهو منقطع الصلة بأي جهاز آخر من أجهزة الأمن، الأمر الذي خلق ازدواجية متكررة وكبد الدولة تكاليف باهظة.

وبمرور الوقت، كما يقول أحمد حمروش، "نمت هذه الأجهزة، واتسع نفوذها بفكرها الجامد المتخلف ووسائلها الوحشية وأطماعها الذاتية"!


6- قصة إسماعيل المهدوي (الوفد في 16/9/1996)

في رأيي أن فضح موقف ثورة يوليو من قضية حقوق الإنسان هو أمر مهم جداًن وذلك للتصدي للتضليل الذي يقوم به الناصريون ويحاولون به إيهام الرأي العام المصري بأنهم حماة حقوق الإنسان، وتصدرهم الصفوف الأولى فيها، وعقدهم المؤتمرات في مصر وفي الخارج، وإصدارهم النشرات والمطبوعات التي يفبركون فيها ما يشاءون من أخبار!

إن هذا التضليل إذا أضيف إلى ما يجري في هذه الأيام من حملة دعائية لصالح ثورة يوليو، يقف على قمتها فيلم "ناصر 56" الذي يقول نصف الحقيقة في قرار تأميم شركة قناة السويس، على طريقة إخفاء نصف الآية الكريمة من كتاب الله: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"! ـ معناه تزوير تاريخ مصر في الماضي والحاضر، وتبرئة من ولغت أيديهم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم وأملاكهم، وإظهارهم في صورة دعاة الحرية وأبطالها!

ولقد عرضنا في مقالاتنا الماضية جانباً من قصة هذه الثورة مع حقوق الإنسان، وكيف تجاهلتها منذ اليوم التالي مباشرة لقيامها، ثم قامت بالاعتداء عليها طوال وجودها في الحكم، وأخفت ذلك كله تحت زفة هائلة من وسائل إعلام الثورة تفصل ما بين الحرية السياسية والاجتماعية، وتزعم أن الحرية الاجتماعية يمكن أن تكون بديلاً للحرية السياسية! وعن طريق هذا الزعم انقضت على الجميع ـ أي على اليسار واليمين ـ تقذف بهم في غياهب السجون، وتوسعهم ضرباً وتعذيباًن بحجة أنه يكفيهم الحرية الاجتماعية التي تحققت بتأميم وسائل الإنتاج في يوليو 1961.

ولم يكن هدف التأميم ـ كما ذكرنا ـ توفير الحرية الاجتماعية، وإنما كان الهدف ضرب الطبقة الرأسمالية التجارية والصناعية والمالية، وتصفية قوتها الاقتصادية التي تهدد حكم عبد الناصر، وفتح مجال التوظيف لجحافل ضباط الجيش من أقارب ضباط الثورة وأقارب أقاربهم وأصدقائهم ومعارفهم، وتكوين بيروقراطية عسكرية موالية للثورة، تأتمر بأوامرها، وتضع موارد وسائل الإنتاج الهائلة تحت تصرف قيادتها.

وهو ما تم بالفعل! ففي الفترة من 1961 إلى 1967، كانت كل موارد القطاع العام في خدمة المغامرة العسكرية التي تمت في يونيه 1967، وتمخضت عن ترك ما تبلغ قيمته مليارات الجنيهات من الأسلحة على رمال سيناء دون استخدام! حتى لقد أثار هذا الفشل الزعيم السوفيتي كسيجن فقال مؤنباً: "لو أطلق كل مدفع من المدافع التي تركت في سيناء طلقة واحدة ضد إسرائيل لخفف ذلك من ثقل الهزيمة".

وفي الفترة من 1967 كانت كل موارد القطاع العام في خدمة المجهود الحربي الذي أريق في حرب الاستنزاف، التي قصد بها شغل الشعب المصري بالمعركة على الحدود، بعد أن هددت مظاهرات فبراير 1968 التي قامت على أثر أحكام الطيران، الثورة بأوخم العواقب، إذ كانت أول مظاهرات تقوم منذ أحدث أزمة مارس 1954.

حتى إذا ما وصلت البلاد إلى عشية حرب أكتوبر 1973 كان الاقتصاد المصري قد انهار تماماً، وتدمرت البنية التحتية والمرافق جميعها، وتراجعت مصر إلى الوراء أكثر من نصف قرن!

وهكذا كانت ذريعة الحرية الاجتماعية، التي بررت بها الثورة التأميم، كارثة على الحرية السياسية وعلى حقوق الإنسان وعلى مرافق البلاد واقتصادها، واتخذت أداة لضرب القوى التقدمية وإخضاعها بحجة أن الثورة قامت بالثورة الإشتراكية نيابة عن هذه القوى ولم يعد ثم مبرر لوجودها!

ففي ذروة إدعاءات ثورة يوليو بأنها ثورة اشتراكية، كان الاشتراكيون يلقون على يديها الذل والهوان والسجن إذا أبدوا الاستقلالية والتمرد وكشفوا زيف الشعار الاشتراكي للثورة!

وربما كانت قصة إسماعيل المهدوي أنموذجاً نهديه لجماعات حقوق الإنسان الناصرية وقياداتها الحالية، لأنه يكشف تورطها في انتهاكات حقوق الإنسان، ويفضح أسماء من تصدروا هذه الجماعات، ويكشف تاريخهم المخضب بدماء هذه الحقوق. كما نهديه لحزب التجمع اليساري الذي يزايد على الناصريين!

وإسماعيل المهدوي صحفي مصري كان يعمل في صحيفة المساء منذ 1956، فلما قام عبد الناصر بحملته الهتلرية منذ يناير عام 1959 على الشيوعيين واعتقلهم جميعاً، كان إسماعيل المهدوي من بين المعتقلين، ونزل ضيفاً على معتقل الواحات مع المعتقلين الآخرين!

وعندما أفرج عنه في يونيه 1964 ـ أي بعد أن ظل لمدة خمس سنوات معتقلاً ـ أعيده مع غيره من محرري جريدة المساء إلى صحيفة الجمهورية، واستمر عمله فيها إلى عام 1967، حيث نقل إلى جريدة المساء مرة أخرى وظل بها إلى فبراير 1968.

على أن طول لسانه وانتقاده للنظام الناصري عرضه للفصل في أغسطس 1968! ولم تكتف إدارة عبد الناصر بذلك، بل لفقت له التهمة الشائعة في دوائر المخابرات في لك العصر، وهي تهمة التخابر مع الولايات المتحدة! ففي إبريل 1970 أبلغت إدارة المباحث العامة أنه التقى بصحفية أمريكية تدعى مارجريت بالاس، وسلمها بعض مخطوطاته بالعربية والإنجليزية التي طعن فيها على نظام حكم عبد الناصر، وفيها عبارات ماسة بعبد الناصر شخصياً، طالباً منها العمل على نشرها بالخارج، ولكن الصحيفة الأمريكية أبلغت عن ذلك وسلمت المخطوطات آنفة الذكر للمباحث العامة (هكذاّ).

كانت الخطة هي إدخال إسماعيل المهدوي مستشفى المجاذيب! فقد أوردت نيابة أمن الدولة أنه عندما دعي لإبداء أقواله، "أخذ في ترديد بعض العبارات غير المترابطة! مما دعا إلى فحص حالته العلية. فأحيل إلى مستشفى الأمراض العقلية والنفسية لبيان مدى مسئوليته عما وقع منه. وجاء تقرير المستشفى الطبي بأنه مصاب بعاهة في العقل تجعله غير مسئول عما وقع منه! وبناء على ذلك قررت النيابة امتناع المسئولية الجنائية عنه، وحجزه في أحد المحال المعدة للأمراض العقلية إلى أن تأمر بإخلاء سبيله!

على هذا النحو اتفق مصر إسماعيل المهدوي مع مصير غيره من المفكرين وةالكتاب والمثقفين المصريين الذي عارضوا نظام عبد الناصر، مع فارق كبير، هو أن الآخرين كانوا في معتقلات عقلاء أصحاء، أما إسماعيل المهدوي فكان في معتقلات مجانين!

وقد تصور إسماعيل المهدوي أن محنته الرهيبة سوف تنتهي عما قليل، ولكنه استمر معتقلاً في مستشفى المجانين على مدى سبعة عشر سنة كاملة وثلاثة أشهر! وقد قضاها منكباً على كتابة شكاوى وتظلمات كان ينسخ منها العشرات والمئات ليرسلها إلى الكتاب والمفكرين في العالم الخارجي، يشرح فيها محنته الرهيبة، ويطلب العون، ويبين ما يتعرض له في مستشفى المجاذيب من ضرب وإهانات وتهديدات، ويستصرخ الضمائر الحية.

وقد وصلني شخصياً من هذه الخطابات الكثير، ولكني لم أستطع أن أفعل شيئاً وهو بين تلك القوى الباطشة، وقد ذكر أنه نسخ من نص إيداعه في مستشفى المجانين 150 منسوخاً! أرسلها إلى مختلف الجهات، ومنها إلى الأستاذ أحمد شنن نقيب فرع القاهرة للمحامين و90 منسوخاً من خطابه إلى السيد فتحي رضوان، و 140 منسوخاً إلى الكاتب الكبير المرحوم صلاح حافظ .

وقد نجحت الجهود أخيراً في إطلاق سراحه بعد سبعة عشر عاماً. ففي مارس 1987 أصدر النائب العام السيد محمد عبد العزيز الجندي، بياناً بحفظ التحقيق مع إسماعيل المهدوي، وبعد ثلاثة أشهر، أي في أول يوليه 1987 أفرج عنه.

وقد سخر إسماعيل المهدوي من بيان حفظ التحقيق معه، حيث لم يحدث تحقيق معه أصلا حتى يحفظ! وكتب إلى النائب العام يتساءل قائلاً: "كيف يحفظ النائب العام تحقيقاً بدون أن يحدث أصلاً؟ بل بدون أن يفتح طوال سبعة عشر عاماً؟ واستشهد بمحضر إيداعه مستشفى المجانين الذي ادعت فيه نيابة أمن الدولة العليا أنها لم تستطع إجراء تحقيق معه بسبب عجزه عن التعبير!

والمهم في هذه الصة هو الدور الذي لعبه زعماء الدفاع عن حقوق الإنسان اليوم، ومن يتصدرون صفوف جمعيات حقوق الإنسان من الناصريين، وقد كشف إسماعيل المهدوي من أسماء هؤلاء اسمي فتحي رضوان ومحمد فائق.

ففي الخطاب الذي أرسله إلى فتحي رضوان يوم 15 يونيه 1985 بخصوص المؤتمر الذي عقدته في القاهرة ما أسميت بـ "جمعية أنصار حقوق الإنسان"! قال إسماعيل المهدوي: "لقد أضحكني ذلك كثيراً، خصوصاً عندما عرفت أنكم توليتم رئاسته"!

وكان فتحي رضوان، الذي رأس مؤتمرات حقوق الإنسان فيما بعد، هو لاذي لعب دوراً هاماً في بداية عهد الثورة في مساعدتها على ضرب الديموقراطية وإزهاق الحياة الدستورية بسبب عدائه اللدود للوفد قبل الثورة، وكان هو الذي أهدى عبد الناصر سليمان حافظ وكيل مجلس الدولة الذي عمل مع السنهوري على عدم عودة البرلمان الوفدي الأخير للانعقاد بفتوى مجلس الدولة، واشترك مع السنهوري في إدخال ضباط الجيش في الوزارة رغم اعتراض اللواء محمد نجيب الذي رأى أن ذلك يخالف المبادي الذي اتفق عليها الضباط قبل الثورة، والتي تقضي بابتعاد الجيش عن الحكم.. ثم كان سليمان حافظ هذا هو الذي وصف مصطفى النحاس بأنه "دمل في الوفد يجب أن يفقع"! واستمر فتحي رضوان وزيراً في الحكومة لمدة ست سنوات، يساعد الضباط على امتهان حقوق الإنسان، وإرساء دكتاتورية عبد الناصر. ولم يتذكر حقوق الإنسان والديموقراطية إلا بعد طرده من الحكم في أكتوبر 1958!

أما محمد فايق، رئيس جمعيات حقوق الإنسان حالياً، وأكبر زعيم فيها، فقد أبدى إسماعيل المهدوي دهشته الفائقة لهذا الدور الجديد! ففي كتابه الهام الذي أصدره بعد خروجه من مستشفى المجانين وهو بعنوان "معنى الديموقراطية" كتب يقول: "إنه لم يعرف إلا متأخراً أن الأمين العام لجمعية أنصار حقوق الإنسان هو الضابط محمد فايق، وزير الإعلام في السنوات الأخيرة من عهد عبد الناصر، الذي أشرف إذ ذلك على ما تعرضت له من فصل تعسفي من العمل الصحفي، وحرمان من النشر، ثم إيداعي في مستشفى المجانين"!

وهكذا نصل إلى نهاية هذا الفصل من فصول "ثورة يوليو وحقوق الإنسان"، نهديه لمن يشاهدون فيلم "ناصر 56" ولمن يقرءون حملات التضليل الجبارة التي تصور الناصريين في صورة حماة حوق الإنسان، وتبشر بدورهم القادم في الحكم!


7- زنازين عبد النصر في سجن الواحات ! (الوفد في 23 سبتمبر 1996)

وعدت إلى القارئ الكريم بأنه طالما أن الناصريين قد أصبحوا في أيامنا هذه يتصدرون جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، ويصورون انفسهم في صورة حملة لواء الحرية والديموقراطية، فإن الأمانة التاريخية تقتضي كشف زيف هذه الادعاءات من واقع الوثائق التاريخية، حتى لا تختلط الأدوار التاريخية، ويتحول المعتدون إلى ضحايا والمهاجمون إلى مدافعين، ومن ولغت أيديهم في دماء الحرية إلى حراس الحرية، وتتهيأ التربة المصرية لحكم ناصري جديد يطل برأسه حالياً وسط الضلالات والأباطيل التي يطلقها الناصريون.

ولما كان اليسار هو الذي يتصدى اليوم للدفاع عن العهد الناصري، فإننا ننتقي وثائقنا من وثائق اليسار نفسه، حتى لا يتهمنا بالافتراء على عهد عبد الناصر وبأننا ننسب إليه ما لم يفعله.

والوثيقة التي بين أيدينا اليوم هي بعنوان: "في معتقل أبو زعبل"، وهي كتاب من 251 صفحة نشرته دار الثقافة الجديدة اليسارية، وقد كتبه أحد الذين اعتقلهم عبد الناصر في عام 1959 وهو إلهام سيف النصر.

وقد كان غرض إلهام سيف النصر من كتابهة مذكراته هو نفس الغرض الذي استهدفناه من كتابة سلسلة هذه المقالات، فهو يقول في صفحة 20 "بما أن فضح الجريمة، وكشف خيوطها وأركانها، هو الأسلوب الوحيد لمنع تكرارها، فإني أكتب هذه الكلمات وأحكي القصة كما حدثت بالفعل"!

وقد اختار إلهام سيف النصر للفصل الأول من كتابه عنواناً ساخراً هو: "التشريفة"! ويقصد بذلك التجربة المخيفة التي مر بها هو وزملاؤه في أوردي أبو زعبل يوم 8 نوفمبر 1959. ولكن هذا اليوم لم يكن هو البداية، وإنما البداية ـ كما يقول ـ في فجر يوم أول يناير 1959.

ففي هذا اليوم، وعلى حد قوله، "كانت مصر من أقصاها إلى أدناها تشهد حملة بوليسية واسعة، بالقبض على العشرات، ثم مع مضي الوقت وصل العدد إلى عدة مئات، وتعدى الألف بكثير"!

"سبقت الحملة البوليسية المفاجئة حملة صحفية شرسة ضارية .. ومنذ اللحظة الأولى سقط شهيد هو فرج الله الحلو، وخلالها سقط عدة شهداء آخرين قتلى من التعذيب، سواء في دار المباحث العامة أو في أبو زعبل، وكانت لحظتها الأخيرة، بعد ستة سنوات في نهاية عام 1963، دامية أيضاً، بعد إعلان العفو الشامل وصدور قرار الإفراج، كالمأساة الإغريقية والستار يسدل على الفترة السوداء، فقد كان هناك شهيد ىخر يسقط بالرصاص في معتقل الواحات، وهو لويس إسحق".

ويرسم إلهام سيف النصر خطاً بيانياً لأيام الاعتقال والتعذيب، ويرى أن هذا الخط البياني قد بلغ ذروته "أيام الأوردي بليمان أبو زعبل. والأوردي هو ذلك الليمان الصغير الذي يعد ملحقاً لليمان أبو زعبل، والذي يتسع لعدة مئات. ويقول إنه كان من حظه أن عاش ذلك الخط البياني منذ لحظته الأولى.

أما لحظة البداية فكانت يوم أول يناير 1959، وهي لحظة بداية التجربة الجديدة، تجربة ليمان أبو زعبل، ولكن سبق هذه التجربة تجارب في عهد عبد الناصر. ففي عام 1956 قضى هو والدكتور إبراهيم سعد الدين ستة أيام كاملة على كرسيين من الخشب! "عليهما ننام. ونأكل، وننتظر تحقيق النيابة"!

ولكن في التجربة الجديدة ظل مع زملائه في المباحث نهاراً كاملاً وليلة متصلة، ليبدأ التحقيق في فجر اليوم التالي! ويقول إن هذا الأسلوب لم يكن أسلوباً غريباً على المباحث العامة، وخضوع نيابة أمن الدولة لهذا الأسلوب.

وقد جرى التحقيق معه بواسطة علي نور الدين رئيس نيابة أمن الدولة حينذاك، وكان في أول مجموعة تم التحقيق معها، وكان فيها الدكتور فؤاد مرسي الأستاذ بجامعة الإسكندرية، ومحمد سيد أحمد الكاتب والمحامي، ومحمود أمين العالم المثقف المعروف، وسعد زهران أستاذ الرياضيات، والدكتور عبد العظيم أنيس أستاذ الرياضيات البحتة.

وكان التحقيق ـ كما يقول ـ شكلياً، لأن الهدف في تلك الليلة كان الاعتقال أساساً قبل التفكير في أي محاكمة. كما كان استفزازياً، لأن هذا هو اختصاص علي نور الدين الذي برع فيه أيام فاروق.

"لذلك انتهى التحقيق سريعا، لتوضع القيود الحديدية في معاصمنا، ولتحملنا سيارة كبيرة تحت حراسة مشددة إلى حيث ذهب زملاؤنا من قبل، وكان الاعتقال في معتقل القلعة.

وكان اختيار معتقل القلعة لاستكمال قوائم المعتقلين. فقد أعطيت للمعتقلين حرية نسبية كان هدفها مراقبة وضبط الخطابات والرسائل بين المعتقلين في القلعة والخارج. وبالفعل تم ضبط العديد من الخطابات والعناوين وعشرات الأسماء التي طلب المعتقلون الاتصال بهم. ويعترف إلهام سيف النصر بأن ذلك كان تهاوناً وسوء تقدير من المعتقلين، استغلته المباحث العامة التي كان معتقل القلعة خاضعاً لها، في التوصل إلى ما لم تكن قد توصلت إليه من أسماء!

ولم يكد ينتهي الغرض من معتقل القلعة حتى جاءت لحظة الانتقال منه. وكانت لحظة رهيبة يصفها إلهام سيف النصر بقوله: "فوجئنا ذات ليلة بقطع التيار الكهربائي عن المعتقل، واقتحام حرس مسلح الزنازين، وإخراجنا تحت حراسة مشددة، حيث وضعت الحلقات الحديدية والجنازير في معاصمنا لأول مرة! وسحبنا داخل سيارات مغطاة بقماش سميك حملتنا حتى محطة الجيزة، والحقيقة القاسية تتسلل إلى عقولنا، حيث أودعنا في قطار فريد من نوعه، هو عبارة عن عنبر سجن بنوافذ حديدية، ليتجه نحو المكان الذي استنتجنا مكانه أنه معتقل الواحات الخارجة بالمحاريق!

ويقول إلهام سيف النصر إن عدداً من زوجات المعتقلين دفعتهن اللهفة على نظرة واحدة يلقينها على أزواجهن، إلى أن يركبن قطار الصعيد حتى الأقصر، على أمل اللحاق بقطار السجن في محطة "المواصلة" التي ينتقل فيها المعتقلون إلى قطار الواحات، ولكن هذا الأمل لم يتحقق، فقبل سوهاج كانت كل القطارات تقف بأمر المباحث العامة، ولم تتحرك إلا بعد أن أصبح قطار السجن في بطن الصحراء!

على هذا النحو كان سجناء الرأي يعاملون في عهد عبد الناصر! ولكن ذلك كان أهون الأمور، فكما يقول إلهام سيف النصر "ظلت القيود الحديدية الثقيلة في أيدينا، والجنزير الضخم الطويل يربطنا جميعاً، حتى وصلنا إلى الواحات"!

"وقد أمضينا أكثر من عشرين ساعة في القطار الأول، ثم في قطار الواحات الصغير الذي ركبناه من المواصلة بالقرب من سوهاج، وتلك القيود الثقيلة تدمي معاصمنا لتتورم، وتحتقن، وليغمى على البعض من الألم، دون استجابة من الحراس أو الضباط. وقد أمضينا هذه العشرين ساعة حتى وصلنا ساعة الغروب إلى المحاريق ومعتقل الواحات، وذلك دون ماء أو طعام!

وهناك كان الاستقبال الذي أعده اللواء إسماعيل همت ، وكيل مصلحة السجون! فقد سار المعتقلون العزل المقيدون بالأصفاد والجنازير، بين مدافع رشاشة مصوبة إلى صدورهم، وصيحات وأوامر حادة، ليتفحصهم اللواء إسماعيل همت ، ويعلق على كل واحد منهم بالتعليق المناسب: إما بالسخرية، أو التهديد والوعيد، وليجتمع الجميع في النهاية في زنازين واسعة.

وفي سجن الواحات ـ كما يقول إلهام سيف النصر ـ التقينا بعشرات من زملاء وأصدقاء سبقونا قبل ذلك بسنوات، تعدى بعضها العشر، بعد الحكم عليهم من محاكم عبد الناصر التي كانت أغلبها عسكرية، وكانت أشهرها محكمة الدجوي، الدجوى "الذي انهار وهاجم مصر عندما أسره اليهود في حملتهم وعدوانهم، وكان وقتها حاكماً لغزة"!

"وكانت تجربة سجن الواحات فيها مرارة الوحشة في الصحراء، والإحساس بأن الدنيا كلها قد تخلت عنك ونسيتك .. فيها حرارة الشمس التي تكوي الجسد فعلاً، وصقيع الليالي الطويلة المجهدة .. فيها خلاء حياة تشبه الصحراء القفر ذاتها"!

مع ذلك فلم يكن الخط البياني لأيام الاعتقال والتعذيب قد قطع إلا مسافة قصيرة، فذات ليلة ـ كما يقول إلهام سيف النصر ـ "استيقظنا على أبواب السجن تفتح، وأصوات أقدام كثيرة، وضجة سلاح. ثم سمعنا ضابطاً ينادى على الأسماء، وبعد ساعات، وكانا لفجر يلوح في الأفق، كنت ومعي ما يقرب من ستين زميلاً نستقبل قطار الواحات الصغير، والأغلال ذاتها في معاصمنا، نتجه صوب مصر، لقد كنا نبدأ المرحلة الثالثة من فترات اعتقالنا، وهي مرحلة المحاكمة.

وكانت المحاكمة، كجميع المحاكمات التي تمت في عهد عبد الناصر، مهزلة من المهازل، لقد وضع المعتقلون في سجن الحضرة بالإسكندرية، حيث استقبلوا "مقابلة استفزازية" من جانب مأمور السجن "الحلواني"، الذي مزق أمتعتنا بحجة التفتيش! وهو يصرخ وينهر، حتى وضعنا في عنبر معزول تماماً عن النزلاء الآخرين.

وقد بدأت المحاكمة أمام مجلس عسكري يرأسه الفريق هلال عبد الله هلال، قائد المدفعية، حيث وصف ممثل النيابة علي نور الدين المعتقلين بأنهم "طغمة"! وفيهم أساتذة جامعات ومفكرون وكتاب معروفون ومحامون وأطباء ومدرسون ومهندسون خفهم تاريخ طويل من النضال السياسي من أجل الإشتراكية وضد الاستعمار.

وفد دافع عن المتهمين الأستاذ أحمد البديني المحامي، ولكن دفاعه لم يعجب زبانية عبد الناصر، فاعتقل بتهمة الشيوعية، ونقل إلى معتقل القلعة حيث اعتدى عليه بالضرب، وفرض عليه يومياً مسح بلاط المعتقل من الصباح حتى المساء. وكانت جريمته الحقيقية أنه كشف في المحكمة وفاة محمد عثمان بسبب التعذيب، أمام وكالات الأنباء العالمية التي كانت تتابع المحكمة!


8- الرحلة إلى الأوردي ! (الوفد في 30 سبتمبر 1996)

عرضنا في مقالنا السابق تجربة سجناء الرأي في عهد عبد الناصر بعد الحملة البوليسية التي سنتها إدارته في أول يناير 1959، واعتقل فيها مفكرون وكتاب وأساتذة جامعات ومحامون ومهندسون وأطباء، كان منهم الدكتور عبد العظيم أنيس، ومحمود أمين العالم، والدكتور فؤاد مرسي، والكاتب محمد سيد أحمد، وإلهام سيف النصر، وآخرون. وروينا مراحل هذه التجربة الدموية، ابتداء من سجن القلعة إلى سجن الواحات، وهم مقيدون في الأصفاد، وجنزير ضخم طويل يربطهم جميعاً، ويدمي معاصمهم، لتتورم وتحتقن ويغمي على البعض من الألم! ثم جاءت المرحلة الثالثة بنقلهم إلى سجن الحضرة لمحاكمتهم. وعندما أحسن محاميهم أحمد البديني الدفاع عنهم، اعتقلته إدارة عبد الناصر، ونقل إلى معتقل القلعة ليقوم بمسح بلاط المعتقل!

ويستمر إلهام سيف النصر في رواية مأساة الاعتقال في ذلك العهد الناصري، فيقول إن عملية المحاكمة أمام المجلس العسكري لم تستمر طويلاً، فعندما اكتشفت إدارة عبد الناصر أن المحامين عن المتهمين أخذوا يفجرون قصص سقوط بعض المعتقلين قتلى تحت التعذيب، وأولهم محمد عثمان، عدلت عن فكرة علانية المحاكمة، وقررت أن تكون سرية. وبعد ذلك جرى الإعداد للانتقام من المعتقلين لما كشفوه أمام الرأي العالمي من قصص التعذيب واستشهاد المعتلين. وكانت وسيلة الانتقام هي نقل المعتقلين إلى أوردي أبو زعبل، واستقبالهم في حفل دموي أطلق عليه إلهام سيف النصر من باب التفكه الأسود اسم: "التشريفة"! والتي خطط لها ـ كما يقول ـ حسن المصيلحي رئيس قسم مكافحة الشيوعية.

وكان حسن المصيلحي قد خدم في عهد فاروق والملكية، وهو تلميذ إبراهيم إمام الذي خلق البوليس السياسي في مصر في عهد فاروق، ولذلك اختير في عهد عبد الناصر للإشراف بنفسه على تعذيب الدكتور إسماعيل صبري عبد الله بالسجن الحربي في عام 1955، وظل يحقق معه بنفسه يوماً بعد يوم، وإسماعيل صبري مشرف على الموت دامي الجسد ممزقه!

وقد جرى الإعداد لعملية "التشريفة" بعد انتهاء محاكمة الإسكندرية، فكما يقول إلهام سيف النصر:

"رحلنا بنفس السيارات التي جئنا بها، وبنفس القيود والجنازير، وفي منتصف الليل عبر الطريق الصحراوي إلى القاهرة، فحللنا في سجن مصر عدة أيام تمهيداً لنقلنا إلى "أبو زعبل". وقد وضعنا في أقذر عنبر، وهو عنبر "ج" المخصص لمرضى الأمراض الجلدية! ولم يسبق أن دخله من قبل سجين سياسي، وحرمنا من كل المزايا التي تنص عليها اللائحة التابعة لمصلحة السجون! وهو أمر يثير السخرية ان يكون للمتهم بتسريح الغلمان والدعارة والمخدرات حقوق، وان يحرم سجين بتهمة عقائدية من أي حقوق!

حتى ذلك الحين كان المعتقلون ـ كما يقول إلهام سيف النصر ـ واقعين تحت وهم أن الخلاف بينهم وبين عبد الناصر هو "خلاف بين حلفاء يمكن أن يختفي سريعاً، وأن خلاف الحليف مع حليفه، واختلاف الصديق مع صديقه، لا يجب ولا يجوز أن يتحول إلى تناقض رئيسي يفتح الباب لضرب الوحةد الوطنية ذاتها، ويعطي جواز مرور لعملاء الاستعمار وفلول الرجعية لكي تصول وتجول"!

وسرعان ما تبين لهم مدى الوهم الذي كانوا يعيشون فيه! فقد كان النظزام في ذلك الحين يدبر لهم أبشع انتقام يتصوره بشر، هو الذي أطلق عليه إلهام سيف النصر اسم "تشريفة"!

ولندع إلهام سيف النصر يروي لنا هذه القصة البشعة بأسلوبه الخاص، لنهديها بصفة خاصة لصناع فيلم "ناصر 56"!

فهو يقول: "في فجر يوم 8 نوفمبر 1959، وهو عيد الثورة السوفيتية الذي اختاره حسن المصيلحي ، بدأت "التشريفة"، وبدأ تعذيبنا.

"في ذلك الفجر الذي لن ننساه وننسى الساعات التي تلاحقت بعده، بدأت رحلة العذاب والموت والاستشهاد، وأيضاً رحلة الصمود".

"في ذلك اليوم بدأ "الأوردي" يستقبل ضحاياه!

"حوالي الساعة الثالثة صباحاً سمعنا صوت باب عنبر "ج" بسجن مصر يفتح فجأة، وضجة أقدام كثيرة تطرق أرضه، وأصوات تأمر وتصيح، وأبواب الزنازين التي حللنا بها في الدور الأرضي تفتح واحدة بعد الأخرى . كانت الأوامر تصر بحدة غير عادية، وكان تفتيش الأمتعة يتم بدقة واستفزاز وصلا إلى حد تحطيم زجاجات الدواء على أرض العنبر! وكانت وجوه الضباط وحراس السجن منجهمة على غير العادة.

"وخرجنا كما طلب منا، والوجوم يسودنا، نصطف كما طلبوا وأمروا، ونمد معاصمنا لتدخل في الحلقات الحديدية التي لاحقتنا طيلة فترة اعتقالنا، وتحركنا صوب فناء السجن الخارجي لتصطدم أبصارنا بسيارات كبيرة بأبواب مفتوحة تنتظر ضمنا في أحشائها.

"في تلك اللحظة حدث شيء غريب أدركت منه أن أمراً خطيراً سوف يقع، وأن كارثة ما تنتظرنا! فقد اقترب مني مأمور سجن مصر، واسمه يوسف القشطة، يتفحص القيد الحديدي في يدي، أو يتظاهر بفحصه وهمس في أذني بهذه الكلمات: "هناك عاصفة خطيرة في الأفق، ومن الأفضل أن تحنوا الرؤوس حتى تمر"!. قالها وذهب.

"ولمحنا ونحن نقترب من الباب الخارجي ونتجه للسيارات ضباط سجن مصر يتوقفون في أماكنهم، ويتولى بدلهم ضباط آخرون، كنا نراهم أول مرة، مهمة حراستنا، ورأينا واحداً منهمن وهو نحيل وطويل، يبتسم ويضحك ويقهقه ويصرخ في نفس الوقت، وفي صوت هستيري وكلمات نابية، وقد عرفنا اسمه فيما بعد وهو "يونس مرعي"!

"وكان هناك آخر طويل ضخم الجثة، بارد النظرات، تصدر الأوامر من يده أكثر من فمه! يده ترفع وتهز وتلوح وتشد وتجذب. وعرفنا اسمه في بعد، وهو عبد اللطيف رشدي!

"وثالث، صوته ناعم رفيع، وحركاته ملساء مؤنثة، وبيريه كاكي يهتز على رأس حافلة بشعر طويل مجعد، وفيما بعد عرفنا أن اسمه "مرجان".

"وتأكد لي الجو الإرهابي عندما حاولت أن أحدث يونس مرعي وأطلب منه استثناء الدكتور فؤاد مرسي، الأستاذ بجامعة الإسكندرية والسماح له بالجلوس بجانب سائق السيارة تحاشياً للاهتزاز، حث إنه كان وقتها يعاني من انفصال شبكي بعينيه. ولكن يونس مرعي رفض وصرخ في وجهي، ولعنة تنطلق من فمه يذكر فيها الأب والأم والجد!

"بعدها بدقائق كنا في العربات المقفلة تماماً: عشرون في كل سيارة، ستون معتقلاً على ذمة قضية لم يصدر فيها الحكم بعد، في طريقهم إلى المجهول! وتحركت السيارات تحيط بها موتوسيكلات مسلحة وسيارات نجدة تعوي، تخترق القاهرة النائمة الساكنة.

"وشيئاً فشيئاً، ومن خلال التكهن والاستنتاج وحركة المرور وضجة الشوارع، وحتى رائحة الهواء، أدركنا أننا قد خرجنا من القاهرة، وأننا نقترب من الريف.

"وعندما وقفت بنا السيارات أخيراً، لم يحدث أي شيء لفترة طويلة، ومرت دقائقالانتظار متوترة ثقيلة، ننتظر أن يفتح الحراس الباب وتخرج من ذلك القفص الحديدي المحكم الذي كدنا نختنق فيه. وتراكمت الدقائق وامتدت لحوالي الساعة، وبدأ عدم الفهم يتحول إلى انزعاج ونحن نحس بأن شيئاً يحدث في الخارج!

"وكان من المستحيل أن نرى شيئاً أو تمتد أبصارنا خارج السيارات. فكل واحدة من السيارات الثلاث كانت مقفلة تماماً، كعلبة سردين، أو كصندوق خشبي كبير مصفح برقائق من الحديد، ليس فيه من فجوة سوى الباب المصفح الذي دخلنا منه وأغلق وراءنا بمتراس حديدي.

"وكنا وقوفاً! الستون معتقلاً موزعين في السيارات الثلاث بالتساوب، معهم أمتعتهم التي زاحمت المكان بكثرتها وقد تجمعت خلال الشهور الطويلة السابقة، والتي عاشت الرحلة تحمل من كل مكان شكرى: بعض الرمال من صحراء الواحات، وكثير من البق والقمل من سجون عديدة حلت بها، وآخرها سجن الحضرة بالإسكندرية!

"كنا وقوفاً، نكاد نختنق من الحرارة رغم أن الشهر كان نوفمبر، نتزاحم، المنكب في المنكب، والمعصم مشدود إلى المعصم في حلقات حديدية ثقيلة، كل حلقة تضم معصمي رجلين، وتصم أيضاً جنزيراً حديدياً ضخماً سميكاً وطويلاً، يربط كل عشرين منا بطريقة تذكر بقوافل العبيد عندما كانت في الدنيا تجارة العبيد.

"يكفي أن يرفع واحد منا يده ليمسح عره حتى ترتفع الأيدي كلها معه! وتئن السلسلة وتزمجر! ويكفي أن يخطئ واحد وهو يحرك يده، ليلتوي المعصم ويتورم! ومعه يتورم معصم زميله ليسري الألم معربداً، ويعجزان عن الحركة! "ومع الانتظار بدا الإنهاك يحفر بصماته على تلك الوجوه الشاحبة الباهتة، التي لم تصافح الشمس شهوراً عديدة، ويتفصد العرق ليتجمع على الجباه ويتبخر وهو يحمل في ثناياه رائحة الأجساد المتربة المتعبة، والصابون الرخيص، والأحشاء التي عاشت على طعام يسمى "اليمك"! وهو مزيج من فول خاص، حباته كبيرة، ومليئة بالسوس! غارق في زيوت داكنة اللون، لائعة المذاق! ووجبة أخرى من سوائل لا طعم لها ولا مذاق، كانت في الأصل أليافاً وعروقاً ودهوناً وشحوماً لخليط من مواد نباتية وحيوانية، على سطحها تعوم قطعة من لحم خشن!

"ولكن الإنهاك تبدد فجأة، وأخذت تتنبه العقول، وتتوتر العضلات، ويندفع الدم في العروق ومعها دقات القلب تتصاعد، عندما طرقت أسماعنا من بعيد عدة أصوات لعدة أشياء: بعض الأوامر تصدر في حدة، صهيل لعدد من الخيل، همهمات ووقع أقدام لا يمكن إلا أن يأتي بها عدد كبير من الرجال. ثم دوت طلقة نارية اخترقت جدار الصمت تعوي ثواني ثم تندثر، وأطبق بعدها سكون محشود بالتوتر، وأخذت عيوننا كلها تتجه صوب الباب وسمعنا من خلفه الترباس الحديدي ينزلق ويتحرك ويتحشرج، وغمر ضوء النهار السيارة.

"ولمحت وجه مسعود السجان النوبي الطويل المكلف بحراسة سيارتنا، يراقبنا لحظة، ثم يتقدم ويفتح القفل الحديدي الكبير الذي يقبض بفكه على نهاية الجنزير الحديدي، ويفك، في ضجة من رنين الحديد، قيودنا واحد بعد الآخر. "كانت إدارة السجن قد اختارت مسعود لأن ملفه يحوي ثمانين جنحة اعتداء على المساجين!".


9- تشريفة أوردي أبو زعبل ! (الوفد في 7/10/1996)

عرضنا في مقالنا السابق رحلة العذاب إلى أوردي أبو زعبل التي خاضها إلهام سيف النصر في عهد عبد الناصر، ومعه ستون معتقلاً من أصحاب الرأي وكبار المفكرين الوكتاب المصريين الذين وهبوا حياتهم فداء للوطن وللشعب المصري، لمجرد أنهم اختلفوا في الرأي مع عبد الناصر حول الديمقراطية والتحول الاجتماعي، ولم يحملوا سلاحاً ضده أو يتآمروا عليه أو يهددوا عهده، بل كانوا واقعين تحت وهم أنهم حلفاء له! وها نحن اليوم نقدم الفصل الأول من "تشريفة أوردي أبو زعبل" بعد أن وصل هؤلاء الكتاب والمفكرون إلى الأوردي مربوطين ـ كما يقول إلهام سيف النصر ـ في حلقات حديدية ثقيلة، كل حلقة تضم مصعمي رجلين، وتضم أيضاً جنزيراً حديدياً ضخماً وطويلاً، يربط كل عشرين بطريقة تذكّر بقوافل العبيد! يكفي أن يرفع أي واحد يده لمسح عرقه حتى ترتفع الأيدي كلها معاً! ويكفي أن يخطئ واحد وهو يحرك يده، ليلتوي المعصم ويتورم، ومعه يتورم معصم زميله"!

ولم تكن تلك هي نهاية المعاناة، بل كانت البداية! ولم يكن الفصل الأخير بل الفصل الأول! فلم تكن "التشريفة" قد بدأت بعد، وإنما بدأت عندما انزلق الترباس الحديدي الذي يغلق به أبواب السيارات، ليفاجأ السجناء بضوء النهار يكاد يعمي أعينهم بعد عتمة السيارات وظلامها.

ولندع إلهام سيف النصر يروي التجربة الرهيبة بقلمه، ونطلب من القارئ الكريم ان يحبس أنفاسه حتى تنتهي القصة كما يفعل في أثناء مشاهدة الأفلام المرعبة. فيقول:

"فتح الباب مسعود السجان النوبي الطويل، الذي اختارته إدارة عبد الناصر لأن ملفه يحوي ثمانين جنحة اعتداء على مساجين!

"ومن بعيد سمعنا الضجة من جديد تعود، ليخرج إسماعيل صبري عبد الله وأمين شرف بأمر من مسعود، لتصل الضجة إلى قمتها، ثم تخفت!

"ويفتح الباب من جديد، يونزل أحمد نبيل الهلالي، ثم أتبعه في انلزول، وعلى درجات السيارة كنت واجف القلب! وأحسست بيد مسعود تربت على كتفي، وتمتمة تخرج من شفتيه لم اتبين منها سوى كلمة "الله".

"ونزلت لأعيش" "التشريفة"!

"لقد فاجأني ضوء النهار بعد عتمة السيارة وظلامها، ولذلك وقفت في مكاني لحظة حتى تتعود عيناي على نور الشمس المبهر، ولكنها كانت لحظة فقط!

"من خفلي هجم فارسان يمتطيان جوادين، لأحس، ولأول مرة في حياتي، بالسياط وهي تنزل على كتفي ورأسي!

"ودوت الصرخات تأمر: اجري يا ابن الكلب!

"وجريت" أو أظن أن هذا ما فعلته! فعند تلك اللحظة، وحتى انتهت التشريفة بعد ذلك بحوالي نصف ساعة، كنت أعيش كابوساً دامياً مريعاً، وساعة بربرية هوجاء! أفعل ما يأمرونني به، واتحرك كالآلة دون فهم أو إدراك، وقد توقف العقل تماماً عن أي محاولة لاستيعاب ما يحدث!

"كالطفل المذعور، انسحب عقلي من ركنه، يترك للغريزة أن تقوم هي بمجابهة الموقف الذي عجز عن مجابهته وعن فهمه! "أذكر فقط أني جريت، وأن فرساناً جروا خلفي، وبالسياط ألهبوا رأسي وكتفي!

"أذكر أيضاً أني اخترقت طريقاً طويلاً مترباً وأنا أعدو، في يدي حقيبتي لا أحس بثقلها، مهمتي كلها أتفادى رجالاً وقفوا طيلة الطريق في صفين طويلين، يحملون في أيديهم عصى طويلة غليظة، ترتفع، وتزمجر، وتهوي على جسدي! "وأذكر أني كدت أن أسقط، ولكن غريزة ما تملكتني دفعت سيقاني لتعدو، لتهرب بجسدي من ذلك الجحيم الذي أحاط بي!

"ثم لأجد نفسي فجأة وقد توقفت، لا أستطيع أن ألتقط أنفاسي، وصدري يتحشرج، وحولي جمهرة من ضباط وجنود، الكل يصرخ، والكل يضرب، وواحد يصفعني بانتظام وهو يأمر:

- اسمك يابن الـ ....
- بصوت أعلى!
- اسمك وقل يا أفندم يا (...).
- بصوت أعلى يا ابن الـ .....
- اسمك يا ابن الـ ......
- قل أفندم يا (...)
- بصوت أعلى يا ابن الـ ....

"لدقائق طويلة، وصوتي يخرج مبحوحاً، والصفعات تنزل، والعصي والكرابيج، والشتائم!

"أذكر أيضاً أن صدري كان يتحشرج، والكلمات مخنوقة لا تريد أن تخرج من الإنهاك والصدمة!

"ثم تنبهت لأجد نفسي عارياً، لا يستر جسدي شيء، وأن السياط والعصى أصبحت بعد ذلك أشد إيلاماً وعنفاً!

"أذكر أيضاً أن أمامي كان يربض بناء صغير به شرفة واسعة، كان يجلس عليها بعض رجال في ملابس مدنية، وآخرون في ملابس عسكرية، وأن واحداً منهم كان يجلس في منتصفهم قال ما معناه:

- صوته غير مسموع!!

وبعدها ازداد وقع السياط والصفعات والعصي!

ولحظتها تلاقى بصري ببصره، وعرفته. ولكن لم أتذكره إلا بعد ذلك بساعات طويلة عندما انتهى كل شيء، لقد تذكرت أنه يحمل وجه اللواء إسماعيل همت !

"ثم توقف الضرب لحظة، ليقترب مني رجل وفي يده ماكينة حلاقة بيرة، أكلت شعر رأسي، ثم تحولت تأكل شعر عورتي!

"ثم عاد الضرب ثانية وبعنف، ومعه يد تمتد إليّ تحمل لفة طرية وضعت في يدي، لفة تشبه الخيش.

وأذكر أيضاً ان صوتاً من الشرفة أمر:

- يكفي هذا!

"وهنا طاردتني الكرابيج والعصي، توجهني جارياً نحو باب مفتوح، دخلته وأنا أعدو عارياً، وحولي وأمامي وخلفي كانت هناك عصي تصطادني! وأذكر أن عصاة بالذات نزلت على وسطي، لأتوقف لحظة. وقد فقدت أنفاسي، والدوار يمتلكني، وألم كالسكين من نار يخترف ظهري!

"ثم عدوت، لن الضربات ازدادت وتجمعت عندما توقفت! لأتجه صوب الباب المفتوح الذي دخلته جارياً، ولأتعثر، وضربة عصا أخيرة تنزل على رأسي، فأقع متطوحاً داخل هذا البناء!

"أذكر أخيراً أن الضرب توقف فجأة، وأني عندما رفعت بصري عن الأرض، سمعت باباً يغلق خلفي، وأن شخصاً يلبس ملابس ملابس غريبة مضحكة مهلهلة صفراء، يقترب مني، ويمد يده. تأملته في تعجب لأكتشف أنه أمين شرف!

ونهضت أسير بخطوات متعثرة حتى الحائط، وجلست على الأرض استند إلى الحائط بظهري، أحس بالألم طاغياً معربداً، وأتنفس في عمق.

"لساعات طويلة استمرت "التشريفة"! واحداً واحداً من زملائي عاشها ومر بها! ولم يرحم أحداً: محمود العسكري، العامل النقابي والمصاب بربو حاد! وسعد زهران ذو القدم الخشبية! والدكتور فؤاد مرسي المصاب بانفصال شبكي! .. كل واحد مر بنفس الروتين الذي رسم بدقة حتى العنبر!

"وفي العنبر كنا نلبس تلك اللفة الطرية التي قدموها لنا: بدلة من قماش أصفر يشبه الخيش، مكونة من بنطلون وسترة و "كاسكتة" على الرأس بلون من نفس القماش.

"وحتى وراء هذه الملابس كانت هناك خطة!: الرفيع أعطوه بذلة واسعة، والسمين بذلة ضيقة، والطويل بذلة قصيرة، والطويل بذلة فصيرة، والقصير بذلة طويلة!

"خطة لأن يكون الشكل مضحكاً وهزلياً وإهانة أخرى تضاف إلى الصفعات والضرب والشتائم، رسمها حقد هائل وعقل شيطاني!

"لعدة ساعات استمرت "التشريفة"! فد كان هذا هو اسمها كما سماها حسن منير، مأمور المعتقل بسخريته المريضة.

"ويمتلئ العنبر شيئاً فشيئاً، ضجة وصرخات وأوامر، ثم يفتح الباب، ويندفع زميل!

"لعدة ساعات امتهن شرف وكرامة وأجساد رجال من خيرة رجال هذا البلد .. رجال لم تسرق، ولم تمالئ الاستعمار، ولم تعمل بالسوق السوداء، ولم تختلس، ولم ترتش. رجال فيهم خلاصة فكر علمي، ونضال طويل، وحب متصل لوطنهم. رجال يؤمنون بحق الإنسان في حياة كريمة، ومجتمع نظيف عادل، ودنيا حرة ديمقراطية.

"على مدى ساعات، تهشمت ضلوع، وتحطمت أطراف، وحدث أكثر من نزيف داخلي، وأوشك أكثر من واحد على الموت!

"وفي الخارج يجلس بعض أفراد في شرفة عالية، يتضاحكون، ويرقبون في تشف، يستزيدون، ويحضّرون لأيام أخرى مقبلة!

"صنف آخر من الرجال، ونوع معين من البشر، فكل واحد خلفه تاريخ طويل من ريب وشبهات وقاذورات!

"لساعات جلسنا وظهورنا للحائط، نلعق جروحنا، حتى كان المساء، ليظل العنبر مغلقاً. عنبر طويل واسع كصندوق مستطيل، في أوله باب مصفح، وفي آخره دورة مياه، وفي جنباته نوافذ كبيرة بقضبان حديدية دخل منها برد الشتاء، لنلتصق وننام على أسفلت العنبر!

"وفي تلك الليلة استيقظت عند الفجر، لأسمع أنات من حولي وتأوهات! كان الكل نياماً، ولكن في الصدور كان الألم يعوي ويزفر ويتأوه!

"أصوات كنت أسمعها للمرة الأولى في حياتي، وظللت أسمعها فيما بعد وطيلة أيام أبو زعبل! ورفعت بصري أبحث عن السما بين القضبان، وأتساءل: "هل انتهى الأمر، أو أنها البداية؟"

"شيء في قلبي حدثني بأنها البداية!".


10- ولأصحاب النظارات في الأوردي تنظيف البكابورتات ! (الوفد في 14/11/1996)

قلنا في مقدمة هذه المقالات إن تصدى الناصريين لقيادة حركة الدفاع عن حقوق الإنسان، هو أكبر تضليل يمارس في حياتنا السياسية المعاصرة، لسبب بسيط هو أن النظام الناصري منذ قيام ثورة يوليو 1952 حتى وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 كان يمارس أبشع الانتهاكات لحقوق الإنسان، وكان عدواً لدود لحرية الرأي ولأصحاب الرأي على اختلاف آرائهم ومعتقداتهم. فقد نكل بهم تنكيلاً، وأنزل بهم عذاباً فظيعاً، حتى ولو لم يمثلوا بالنسبة له أي تهديد، ولم يرفعوا في وجهه أي سلاح. فقد اعتبر النظام الناصري الرأي الآخر بمثابة سلاح موجه ضده أفتك من أي سلاح، وعامل أصحاب الرأي الآخر بأبشع مما كان يعامل به عتاة المجرمين!. وسلط عليهم زبانية انتقاهم بعناية من نفايات البشرية وحثالات المجتمع المصري وممن امتلأت ملفاتهم بجنح وجنايات الاعتداء على المسجونين والذوذ الجنسي وإدمان الأفيون.

وهذه هي جريمة النظام الناصري الكبرى، التي تقف جنباً إلى جنب مع جريمة هزائمه العسكرية! فقد كان من حقه أن يدافع عن نفسه ضد من يحملون السلاح ضده أو ضد المجتمع، في حدود القانون، ولكن لم يكن من حقه أبداً ان يعتبر الرأي الآخر خطراً يهدد حكمه بأكثر مما تهدده الانقلابات الدموية! وينظر إلى أصحاب الرأي الآخر المسالمين كما لو كانوا أصحاب سلاح مصوب ضده!

وهذا الكلام ليس تجنياً مني على النظام الناصري، وإنما هو حكم تاريخي أُصدره كمؤرخ، وأستنذ فيه إلى أوثق المصادر وإلى شهادات شهود عيان واعترفات، وأكثر من ذلك يعرفه جيداً الأحياء قبل الأموات في حزبي التجمع والناصري ـ وهما بالمناسبة متحدين في حلف أسميه حزب الجلادين والمجلودين ـ والجلادون هم الناصريون أم المجلودون فهم التجمعيون!

لقد كره النظام الناصري المثقفين كراهية التحريم، وسلط على المفكرين أبشع أدوات التعذيب. وهو أمر طبيعي من نظام قام على أكتاف ضباط عسكريين لا تسبقهم نظريات سياسية وإنما كانت تحركهم عقلية انقلابية. وهذا الكلام أيضاً ليس من عندب، ففي مقال لعبد الناصر في مجلة التحرير يوم أول أكتوبر 1952 كان عنوانه: "كيف دبرنا هذا الانقلاب!" ففكرة الثورة لم تكن قد برزت بعد لتجميل ثورة يوليو!

ولذلك نلاحظ أنه قام بالتخلص من المثقفين من مجلس قيادة الثورة، فقد تخلص من خالد محي الدين ومن يوسف صديق، كما تخلص من أحمد حمروش وغيره.

وقد روى إلهام سيف النصر في وثيقته الهامة التي صدرت في كتاب تحت عنوان: "في معتقل أبو زعبل" وهو الذي نعرضه في هذه المقالات صة تسند هذا المعنى الذي ذكرته بالحرف الواحد:

"أذكر أننا لاحظنا، عند حضورنا لأبي زعبل، أن الضرب كان يتركز، بصورة ملفتة للنظر! على من يلبس منا نظارات طبية!

"ففؤاد مرسي، وإسماعيل صبري عبد الله ، وشهدي عية الشافعي، ونبيل الهلالي، ولويس عوض، وكل من أصابه القدر بقصر نظر أو طول نظر فحمل على أنفه نظارة، كانت الشوم لا تتوقف عن ملاحقته!

"وبعد فترة، ومن زلة لسان أحد السجانة، علمنا أن مأمور أوردي أبو زعبل حسن منير، درس لهم فيما يدرسون، أن الزعماء يلبسون نظارات طبية، لأنهم يقرأون كثيراً!"

وفي موضع آخر من الوثيقة التاريخية يتحدث إلهام سيف النصر عن أحد الزبانية في "أوردي" أبو زعبل واسمه يونس مرعي، وقد وصفه بأنه: "نفاية اللسان"! فقد كان ـ كما يقول بالحرف الواحد: "يحقد على كل واحد منا يحمل شهادة علمية! لذا انصب غضبه بالذات على الدكتور فؤاد مرسي، والدكتور إسماعيل صبري عبد الله ، والدكتور عبد الرازق حسن، والدكتور فوزي منصور، وعادل ثابت، ومحمود أمين العالم، والدكتور القويسني.

"وبالذات على الدكتور لويس عوض، الذي خصه بانتقام مضاعف، عندما علم أنه قبل القبض عليه، كان يحتل وظيفة هامة بوزارة الثقافة!

"ومن يومها، كانت إحدى هوايات يونس مرعي أن يطارد الدكتور لويس عوض بجواده طويلاً، وهو ينزل عليه بعصاه!

"وبمثل هذا الحقد قتل الضابط يونس مرعي الدكتور فريد حداد! وبمثله أيضاً حطم ذراع الدكتور فوزي منصور! وفرض على الدكتور عبد الرازق حسن أن يخلع بذلة السجن وينظف مجاري "الأوردي"! وأجبر الدكتور القويسني على القيام بـ "الزحف المقدس" (سيأتي ذكره) حتى تهاوى مغمياً عليه! كذلك حظى الدكتور فوزي منصور بعناية خاصة، فقد ظل بعد أن تحطم ساعده بضربة شومة في إحدى "التشريفات" يعمل بالجبل، بنفس الذراع المحطمة، حتى نهاية الأوردي وأيام المعتقل! وبالنسبة لرشدي خليل فعندما أصيب بالتيفويد، ترك بدون بدون علاج حتى مات!

ويقول إلهام سيف النصر إن دكاترة الجامعة والمقفين كانوا هم المرشحون دائما لتنظيف بالباكابورتات! فقد كان العقل المريض السادي للزبانية يلعب لعبته الخبيثة، ويختار وسيلة التعذيب المناسبة! فالمعتقل السمين تختار له الحركات الرياضية التي لا يمكن أن يأتي بها إلا رشيق القوام! والمتقدم في السن يختار له اإنهاك والجري! ـ ومن هنا اختير ليوسف المدرك، الزعيم النقابي الذي تعدى الستين من عمره، الجري عشرات الكيلومترات يومياً! وكان التعذيب والإيذاء البدني يتركز أساساً على الضعيف منا جسدياً أو معنوياً، حتى يثير بانهياره وصياحه الرعب والانهزامية والإحساس بأن الإيذاء لا يمكن تحمله! فمن كان منا يتأوه أو يصيح، كان هو الذي عليه عادة يتركز الضرب والتعذيب!

وكل ذلك بالإضافة إلى اختراعات التعذيب التي كانت تطرأ في العقلية لاساجية لزبانية التعذيب. وفي ذلك يقول إلهام سيف النصر: "أذكر أنه حتى تناول وجبات، لم تخل من اختراعات! كانت قروانات الأكل المملوءة بالفول توضع على الأرض، ثم نجبر على الجري، والضربات تنهال علينا! ليخطف كل واحد منا قروانته، ثم يجري وهو يضرب، حتى يدخل العنبر!

"وقد كان معنى انسكاب الطعام، أو سقوط القروانة، ثلاثين شومة على بطن القدم كعقاب! ولكن أذكر أن ذلك ما كان يحدث إلا في القليل النادر! فحبات الفول القليلة، الملوثة بالطين والذباب والسوس، كانت بالنسبة لنا قوت يوم بأكمله! وما كنا على استعداد أن نجوع ـ فوق ما نجوع ـ لأي سبب كان. كنا نفضل أن نتأني ـ رغم الضربات القاسية ـ حتى نحافظ على لقيمات هي بالنسبة لنا هي جسر الحياة"!

ولا يفتأ إلهام سيف النصر يغمز نظام عبد الناصر بهزائمه العسكرية، فيقول إنه "لم يكن غريباً أن يكون الجلادون جبناء أمام العدو المسلح، شجعان والضحية مصري أعزل وحيد أمام قطعان البربرية". ويقول في سخرية:

"ليس الرجل من عذب أهله ومواطنيه، الرجل من ذاد عن أرض الوطن، وكسر بالعرم والتضحية هجمات العدو الشرس، وبذل الدم في في سبيل تحرير الأرض"!


وطوال العصر الناصري كان الانون في أجازة، وكانت حقوق الإنسان في أجازة! ومن الطبيعي أن يكون "أوردي" أبو زعبل هو آخر مكان في مصر يعرف القانون أو حقوق ألإنسان! ولكن كان له قانونه الخاص ونظامه الخاص، وكانت مخالفة هذا القانون أو هذا النظام يترتب عليها نتائج فادحة وعقوبات فظيعة.

فقد وضعت العقلية السادية لتعذيب المعتلين من سجناء الرأي نظاماً للنوم يضمن لهم عدم تجمعهم أو انتقالهم في أثناء الليل للتداول في الرأي أو الحوار! وهذا النظام يقوم على النوم طبقاً لتسلسل أرقام المعتقلين! ولكن سجناء الرأي كانوا ينتهكونهذا النظام، فالمساء ـ على حد قول إلهام سيف النصر ـ كان الوقت الوحيد الذي فيه يتم تحت ستار الظلام تهامسنا ومناقشاتنا المعنوية والسياسية، وكان يعني ـ بالتالي تنقلنا!".

ونظراً لخشية النظام الناصري من ذلك، فقد كان من الضروري بالنسبة له ضمان مراعاة المعتقلين لنظام النوم طبقاً لتسلسل الأرقام، وإجراء التفتيش في جنح الليل على العنابر للتحقق من التزام المعتقلين بهذا النظام.

ويروي إلهام سيف النصر قصة بشعة عن إحدى كبسات التفتيش على العنبر "1" بأسلوبه الواقعي فيقول:

"ذات ليلة، فتح عنبرنا في منتصف الليل فجأة، ليدخل عبد اللطيف رشدي (وهو الضابط المسئول الذي قتل شهدي عطية الشافعي بيده، وشج رأس الدكتور إسماعيل صبري عبد الله ) وفي رفقته السجانة، ليصرخ فينا ونحن نيام: اثبت مكانك!

"وبعدها بدأ يتفحص نمرنا، ويتأكد من أن كل واحد منا ينام طبقاً لتسلسل نمرته. وبالطبع كان هذا كان أحد الأشياء التي نرفض الانصياع لها. ولذلك، ففي تلك الليلة لم يشهد عنبر "1" ضرباً وحشياً كما شهده! وبعد أن انتهت المجزرة بدأ عاب جديد ومن نوع جديد!

"ففي زنازين التأديب الضيقة المختنقة، حشر الجميع وقوفاً، حتى مساء اليوم التالي! وكان البرد قارساً، وفي تلك الليلة زج عبد اللطيف رشدي بحلمي ياسين، وعبد العظيم أنيس، وسعد رحمي، وعبد المنعم شتيلا، ومحمود أمين العالم في عنبر التأديب!

وبطبيعة الحال فإن كل ذلك لم يكن ليحدث لو كان النظام الناصري يطبق قانوناً من تلك القاونين التي عرفتها المدنية الحديثة، ولم تكن شريعة الغاب هي السائدة.

وفي ذلك يذكر إلهام سيف النصر تلك القصة ذات المغزى، فيقول إنه في عام 1957 ـ أي قبل محنة أوردي أبو زعبل بعامين، كان قد قرر هو ونبيل الهلالي المحامي، رفع دعوى للتحقيق والتعويض عن التعذيب الوحشي الذي ناله زميلهم النوبي في السجن الحربي عام 1955، واسمه مختار. وقد وجدا أن أحد الأدلة الدامغة على حدوث التعذيب، ليس فقط ظهره الذي لا يحمل لحماً يغطي منكبيه، وإنما كلد رقيق، بعد أن ذهب اللحم بالسياط ونهش الكلاب المتوحشة! ـ وإنما أيضاً لأن أوراق تحقيقه في السجن الحربي ملوثة بالدماء التي طفرت منه خلال استجوابه، فقد كان الاستجواب يتم تحت التعذيب.

"ولكن الدعوى التي رفعناها فشلت، عندما اكتشفنا أن ملف التحقيق والحكم اختفيا من المحكمة العسكرية!

"فسيادة القانون ـ كما يقول إلهام سيف النصر ـ تعني "الحساب في حدود القانون، وتعني توفير ضمانات هذا الحساب، ولكن المشكلة أن سيادة القانون لها أكثر من تفسير"!

وهذا هو السبب في أن قانون "الأوردي" نفسه كان له أكثر من تفسير!" وربما كان أكثر هذه التفاسير بشاعة هو الذي طبقه مأمور الأوردي حسن منير يوم أول يناير 1960، مما سيرد ذكره!


.../...


[HEADING=1]11- وفي يوم الأربعاء الدامي : رفض المعتقلون غناء أغنية : « يا جمال يا مثال الوطنية » (الوفد في 23/10/1996)[/HEADING]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى