قصة عبد الناصر والشيوعيين (الجزء الأول) دراسة تاريخية تابع (21 30)

تابع (21 - 30)



21- هدية عبد الناصر للمعتقلين في عيد رأس السنة ! (الوفد في 30/12/1996)

في كل بلاد الدنيا حين يرتكب نظام سياسي ما جرائم في حق أبنائه فإنه يعاقب على ما ارتكبه من جرائم فور انتهاء سلطانه، إلا في مصر! فإنه يكافأ ويمجد ويعلى من شأنه، ويجد من أنصاره من يضللون الشعب ويروجون له بالكتابات الصحفية والأحاديث الإذاعية والأفلام السينمائية والكتب وكافة وسائل الإعلام! والأعجب من ذلك، ومما ليس له نظير في طول التاريخ وعرضه، أن يشترك في ذلك الضحايا أنفسهم! الذين ينقلبون فور انتهاء عمليات الجلد والتعذيب إلى مدافعين عن النظام الذي قام بجلدهم وتعذيبهم وامتهان كرامتهم، تحت تحليلات خاطئة ومريضة، كما يحدث في مصر بالنسبة لليسار!

وهذا الكلام ليس افتراء على اليسار، وإنما هو حقيقة واقعة تتمثل في تحالفه مع الناصريين الذين جلدوهم، وقد سجله بعبارات فاضحة الأستاذ محمد سيد أحمد، المفكر والكاتب اليساري المعروف، وأحد الذين جلدهم زبانية عبد الناصر، ففي مقال نشرته له جريدة الأهرام يوم 28 سبتمبر 1995، كتب بالحرف الواحد يقول:

"ظللت مع غيري من قوى اليسار، أكثر من خمس سنوات، سجيناً في عهد عبد الناصر، وتعرضنا في السجون لمعاملة بالغة السوء، وهناك من ماتوا تحت التعذيب، ومع ذلك فيوم خروجنا أيدناه! وأذكر في وقت كان التعذيب فيه قد بلغ مداه، وكنا حفاة، وشبه عراة، ومطالبين بنقل جبل على أكتافنا من موقع إلى موقع، ثم إعادته إلى موقعه الأصلي ـ أذكر في يوم ما، وكان قد تلقى زميلنا الدكتور إسماعيل صبري عبد الله قدراً مكثفاً من التعذيب، أذكر في هذا اليوم أنني قلت له، وكلي انفعال: أليس من واجبنا، يوم أن نخرج من هنا، أن نسوي حساباتنا؟ ورد هو: "سنخرج في يوم ما، وسنؤيده"!

هذا هو ما دعاني إلى أن أتهم اليسار "بالسادية"! فجميع المعطيات المتاحة للحكم على النظام الناصري تنتهي إلى نتيجة واحدة هي أنه كان حكماً فاشياً ونازياً. وهو ما تبين لسجناء اليسار بعد إعلان عبد الناصر قرارات التأميم في خطاب 23 يوليو 1961. فقد كان الشعور العام بينهم أن الإفراج عنهم أصبح أمراً مفروغاً منه ـ وعلى حد قول الدكتور فتحي عبد الفتاح: ليس من المعقول ان نبقى في السجون في حين أن الأهداف والشعارات التي دخلنا من أجلها السجن، تتحقق وتتبناها الدولة تعلنها بشكل رسمي!

ولكن سرعان ما تبين لهم أنهم كانوا واهمين! فلم يفرج عنهم إلا بعد سنتين ونصف! وأكثر من ذلك اتضح أن أجهزة المصيلحي قد والت معركتها القذرة ـ على حد وصف الدكتور فتحي عبد الفتاح ـ في محاولة التصفية النفسية والمعنوية للمعتقلين.

وكانت أول رسالة واضحة وصلت إلى المسجونين بهذا المعنى ـ كما يقول الدكتور فتحي عبد الفتاح ، حينما أعيد إلى المعتقل عدد من الزملاء المسجونين الذين كان قد حكم عليهم في أوائل الخمسينات (من سنة 1952 إلى 54) بأحكام تتفاوت بين ثمانية وعشرة سنوات، وكان هؤلاء قد أتموا سنوات الحكم كاملة، رغم أن بعضهم كانت جريمته أنه حاول إسقاط الحكم في أيام النظام الملكي! وعندما رحلوا إلى القاهرة للإفراج عنهم لم يكن يخالجنا شك في أنهم خارجون بعد كل تلك الظروف.

ولكنهم عادوا إلينا بعد أيام، وقد تحولوا من مسجونين إلى معتقلين! ـ أي أنهم يرتدون الزي الأبيض بدلاً من الأزرق، ويقيمون في عنبر (2) بدلاً من عنبر (1)!

فقد عاد حمدي عبد الجواد، وداود عزيز، وزكي مراد/ ومصطفى طيبة، ووديع وهيب، ومحمد شطا، وكانت عودتهم تأكيداً لنا بأن ما تصورناه في البداية أمراً طبيعياً، وهو الإفراج عنا، ليس بتلك البساطة، وإنما كان تأكيداً في نفس الوقتلمغزى ظل ملازماً للمرحلة كلها، وهي أن الهوة بين الأقوال والأفعال ستظل موجودة ومتسعة، مهما تغيرت أفكار القيادات التي ترسم السياسة، فالأجهزة المنفذة هي نفسها لم تتغير. هذه القصة وحدها تبين الصفة الفاشية للنظام الناصري، وهي التي كان اليسار المصري يكتشفها في كل يوم على يد زبانية عبد الناصر، الذين وصفهم بأنهم "تفوقوا على أساتذة النازية في معتقلات داخاو وبوخنقالد وأوشفيتز، ولكنهم نسوها فور الإفراج عنهم بحجة أن النظام كان نظاماً اشتراكياً! ولم يسألوا أنفسهم: كيف يقوم نظام اشتراكي على يد غير اشتراكيين؟ وكيف يوصف نظام بأنه نظام اشتراكي وهو يزج بالاشتراكيين في السجون ويسلمهم لأيدي زبانية التعذيب؟

يقول الدكتور فتحي عبد الفتاح: لقد أخذت أتصور الدكتور لويس عوض، المثقف المصري والعالمي، و[[يونس مرعي]] (الضابط بمعتقل الأوردي) يلقيه على الأرض ويضربه بحذائه كما يضرب حشرة! والدكتور فؤاد مرسي، أستاذ القانون بكلية الحقوق، وملابسه تخلع عنه ليضرب على المناطق الحساسة في جسده! والدكتور إسماعيل صبري عبد الله وقائد الأوردي وزبانيته يتسلون عليه، ويأمرونه بأن يدور في حلقة كالثور لتنهال عليهالكرابيج والشوم! والمئات من خيرة أبناء مصر الطيبين من عمال ومثقفين وفلاحين وطلبة وضباط، وهم يعاملون تلك المعاملة ثمانية أشهر! ويقول إن الدكتور لويس عوض كان يفزع من النوم ليلاً ليصيح: أين نحن؟ لا يمكن أن نكون قد رجعنا ألف عام إلى الوراء!

كل هذه الاعترافات الدامغة، نسيها اليسار، ولبس رداء دون كيشوت، وامتشق حسامه، وخرج يدافع عن الأوهام التي رسمها في خياله عن النظام الناصري، ناسياً الحقائق التي ألهبت كل شبر في جسده مع سياط وعصي وشوم زبانية النظام الناصري على طول حكم عبد الناصر، حتى لنجد مفكراً مثل الدكتور رفعت السعيد يكتب قائلاً: إذا كان عبد الناصر قد حكم مصر ثمانية عشر عاماً، فقد قضيت قرابة الثلاثة عشر عاماً الأولى من حكمه سجيناً في سجون لست أريد أن أصفها، ولو بأقل ما كانت تحتوي عليه من بشاعة، وإلا اتهمت بالتحيز التام ضده!

والغريب هو استناد اليسار في هذا التقييم الخاطئ على قرارات التأميم في يوليو 1961، على الرغم من أنه يعرف جيداً التأميم في حد ذاته ليس إجراء اشتراكياً، وإنما العبرة بعلاقات الإنتاج القائمة. فالتأميم تلجأ إليه الدول الرأسمالية والدول الإشتراكية، ويظل الفرق بين الاثنين هو: من المستفيد في الواقع من التأميم؟ فإذا ظلت القيادات البيروقراطية والقديمة هي التي تقود هذه المؤسسات المؤممة، فإن الأمر لا يعدو أن يكون رأسمالية دولة!

وقد سبق أن أقدمت حكومة "كيرنسكي" في روسيا بعد ثورة فبراير 1917، وقبل ثورة أكتوبر التاريخية، على أميم عدد من المؤسسات الاقتصادية، وكان تعليق لينين على ذلك: إنها رأسمالية دولة، وإن العامل الروسي لم يستفد "كوبك" واحداً.

وهذه الحقائق كان يناقشها المعتقلون في المعتقل بعد قرارات التأميم في يوليو. فكما يقول الدكتور فتحي عبد الفتاح، فإن مجموعة من المعتقلين كانت وجهة نظرها أن الديموقراطية هي حجر الأساس في الحكم على كل ما حدث! فوجود ديموقراطية واسعة، وإعطاء الحق للطبقات الوطنية في تشكيل تنظيماتها الجماهيرية والسياسية، مع إلغاء القوانين الاستثنائية والمحددة للحريات، هي فقط الضمانة لدفع التطور الاجتماعي.

وفي الحقيقة أن المنتفع الحقيقي من قرارات التأميم كان هو الجيش الذي استولى ضباطه على المؤسسات المؤممة، وفرضوا عليها حكماً عسكرياً،وأقصوا جميع القيادات العمالية والجماهيرية. فكانت المؤسسات المؤممة هي الامتداد المدني للحكم العسكري الممثل في الجيش تحت قيادة عبد الحكيم عامر الفاشلة.

هذا كله يوضح الوهم الذي أقام عليه اليسار افتراضه بأن النظام الناصري كان نظاماً اشتراكياً وتقدمياً، في حين انه كان في الحقيقة نظاماً فاشياً يتبع كل وسيلة فاشية في الحكم، ويكذب على الشعب! فيذكر الدكتور فتح عبد الفتاح أنه حين اعترف عبد الناصر في حديث مع الصحفي الفرنسي الشهير "إريك رولو" بأنه بصدد تصفية المعتقلات في الريب، فسر المعتقلون هذا التصريح بأنه دليل على قرب الإفراج! فعلى حد قوله:

كان ذلك هو أول اعتراف رسمي منذ سنوات بوجود معتقلين. فقبل ذلك بعدة شهور، وفي مؤتمر صحفي عالمي، قال الرئيس عبد الناصر إنه ليس هناك في مصر معتقلات! وتجاهل وجود أكثر من 600 معتقل في ذلك الوقت، غير حوالي 200 مسجون سياسي!

وهذا العدد الضخم من سجناء الرأي الذين عذبوا، يؤكد الصفة الفاشية لنظام عبد الناصر، مهما كانت الإنجازات التي حققها على طريق تحدي قوى الاستعمار! فقد سبقه في تحدي القوى الاستعمارية حزب الوفد، كما تحدى الوفد الأحلاف، ورفض الدخول في معاهدة الدفاع المشترك، ولكنه لم يزج بأحد من أبناء الشعب المصري في السجون، سواء منهم من أيدوه أو عارضوه، ولم ينسب لحكومة الوفد أن كانت لها زبانية تعذيب، ولم يسجن يساري واحد في عهد حكومات الوفد، وكانت صحف اليسار تكتب ما تشاء في الهجوم على النظام الملكي والتنديد بالنظام الاجتماعي، دون ان يتعرض كتابها ومفكروها للجسن أو الاعتقال.

فتحدي الاستعمار في الخارج لا يعني اعتقال أصحاب الرأي المعارضين في الداخل! ناهيك عن تعذيبهم والتنكيل بهم وإهدار كرامتهم وآدميتهم، بل إنكار حقوق المسجونين من القتلة واللصوص وهاتكي الأعراض، عليهم، وإنما الحكم الفاشي وحده هو الذي ينكل بالمعارضين، ويعاملهم بمنتهى القسوة، لأنه يعتبر الخلاف في الرأي جريمة شنعاء تفوق بكثير الجرائم التي يرتكبها البشر.

وفي كتاب الدكتور فتحي عبد الفتاح نماذج من التنكيل الذي لا يفسره إلا الصفة الفاشية للنظام الناصري.

فقد ذكر في كتابه كيف كان النظام يعالج المرضى من سجناء الرأي بضرب العلق الساخنة، وكيف أن جماعة المرضى من السجناء كانت تستعد للذهاب إلى مستشفى الفيوم للكشف عليهم فاقتيدوا بدلاً من ذلك إلى الإدارة حيث ضربوا بالكرباج وجريد النخل!

وفي هذا المقالنرى كيف احتفلت إدارة السجن مع سجناء الرأي بعي الميلاد! فيقول الدكتور فتحي عبد الفتاح إن سجناء الرأي، على الرغم مما كانوا يتعرضون له من تنكيل، أرادوا الاحتفال برأس السنة الميلادية يوم 31 ديسمبر 1959. ومن ثم، ولدى عودتي من المعتقل بعد يوم عمل شاق، كان كل ما يشغلنا هو كيف نحتفل بهذه المناسبة؟ وعندما أغلقت بوابة العنبرالرئيسية بدأت الاحتفالات على الفور .. وصاح أحد الزملاء: عنبر! كله يسمع! بعد عشر دقائق يبدأ أول يوم في السنة الجديدة، فتحية حب منا لكل أبناء وبنات مصر، لأولادنا وأمهاتنا وزوجاتنا ولأصدقائنا وصديقاتنا، لكل طفل ولكل شيخ، ولمصر أمنا وأختنا وحبيبتنا، وانطلق يغني بصوت أجش:

بلدي يا بلدي، وأنا نفسي أروح بلدي
يا عزيز عيني، السلطة أخدت ولدي

وانطلقنا كلنا نغني الأغنية التي كان يشدو بها أجدادنا، وأخذت أغني بانفعال، وتجسدت صورة أبي وقد اكتسى وجهه الأسمر الحزن، وأخذ صوته يرن في أذني: يا عزيز عيني، السلطة أخدت ولدي.

وفجأة سمعنا صوت انتباه! وظننا الصوت تقليداً متقناً لصوت حارس مأمور السجن، ولكن لم يكن في الأمر تقليد، إذ فتح باب العنبر فجأة، ودخل العساكر في خطوات سريعة، وخلفهم المأمور وعدد من الضباط، وأخذوا يوزعون شتائمهم علينا، وعلى آبائنا وأمهاتنا، بل والبلد التي قدمنا منها. وفتحت الغرف غرفة غرفة، وهجم التتار علينا بالعصي والقايش، وأوامر مشددة بأن: كله يبص للحيط! وبتشديد الضرب، ولم يعد يسمع سوى صوت التأوهات المكتومة، وارتطام الأجساد بالحائط أو بالقايش العصى!


22- من التعذيب البدني ! إلى التعذيب النفسي (الوفد في 6/1/1997)

هل كان عبد الناصر يعرف باعتقالات سجناء الرأي، أو أن ذلك تم من وراء ظهره؟ سؤال ساذج يسأله الذين لا يعرفون طبيعة النظم الديكتاتورية، التي يهيمن عليها فرد واحد ترفعه وسائل الإعلام إلى مرتبة البطولة والقداسة، ويقبض بيديه الاثنين على ناصية الأمور، ويملك صفة المعز المذل وقدرته بكلمة ينطق بها لسانه فلا يملك أحد رداً.

وربما كانت الإجابة بسيطة عليه هي: هل كان أحد في نظام عبد الناصر يملك حق الزج بذلك العدد الهائل من سجناء الرأي في المعتقلات والتنكيل بهم، من وراء ظهر عبد الناصر؟

وبصورة أخرى: هل يملك أي مسئول في نظام عبد الناصر تشويه صورته وتلطيخها بتلك الجرائم البشعة التي ارتكبت في حق أصحاب الرأي من المعارضين لعبد الناصر، دون أن يدري رأس هذا النظام وهو عبد الناصر؟

ولقد أورد الدكتور فتحي عبد الفتاح في كتابه: "شيوعيون وناصريون" رواية ذات مغزى في هذا الصدد، فقد ذكر أنه بعد اعتقاله بفترة، توجه والده إلى الأستاذ محمد نصر، وهو والد صلاح نصر مدير المخابرات، وكانا زميلين في الدراسة، بالإضافة إلى أنه "ابن قريتنا"، وحاول الأب أن يدفع ابنه صلاح نصر إلى التدخل للإفراج عن الدكتور فتحي عبد الفتاح، أو لنقله إلى القاهرة بعيداً عن التعذيب الذي كانوا يسمعون عنه، ولكن صلاح نصر قال: "مستحيل"! إن أمرهم في يد الرئيس شخصياً، ولا يمكن لأحد منا أن يتدخل!".

ويتفق الجميع على أن مقتل شهدي عطية بيد التعذيب، ونجاح أسرته في نشر خبر نعيه في جريدة الأهرام يوم 20 يونية 1960، في الوقت الذي كان عبد الناصر يزور فيه الرئيس تيتو في بريوني، كان هو الذي أحرج عبد الناصر أمام العالم الاشتراكي، ودفعه إلى قطع مخطط التعذيب البدني، واللجوء إلى خطة جهنمية أخرى للتعذيب النفسي والروحي كما سوف نرى.

فلم يكن نجاح أسرة شهدي عطية في نشر خبر نعيه في الأهرام مقصوراً على مجرد النعي، بل إنه اصطحب ـ بذكاء شديد ـ ببعض ابيات الشعر التي تشير إلى أن وفاته كانت قتلاً، إذ يقول مطلعها:

فتى مات بعد الطعن والضرب ميتة
تقوم مقام النصر إن فاته النصر!

لقد كان نشر خبر مصرع شهدي عطية على هذا النحو فضيحة للنظام الناصري ولعبد الناصر شخصياً، الذي كان في ذلك الوقت يعقد اتصالات وصداقات مع زعماء العالم الشيوعي، فلم يملك إلا أن يرسل من بريوني أمراً بالتحقيق.

على أنه أظهر في الوقت نفسه إصراره على اعتقال سجناء الرأي، ولم يفرج عن أحد منهم، بل ظلوا في المعتقلات المختلفة، بعد أن استبدل التعذيب النفسي والروحي بالتعذيب البدني الذي سبب مشاكل للنظام.وكشف عن هذا اللون من التعذيب ببراعة الدكتور فتحي عبد الفتاح في كتابه، ويصفه بأنه كان "أكثر قسوة وأشد خطراً من التعذيب البدني، وأنه تعذيب لا يستخدم العصا والبندقية والكرباج والعمل الإجباري، ولكنه تعذيب يحاول أن يحطم الشخص من الداخل!

ويقول: إن هذا اللون من التعذيب النفسي والروحي لم يكن يجري عشوائياً، ولكنه جرى على أيدي متخصصة تلقت التدريب عليه في الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد جاء لذلك الغرض عدد من الضباط المتخصصين ليقيموا معنا ليل نهار يمارسون عملية "تحويل المتمر والثائر إلى خرقة بالية فاقدة الثقة في النفس وفي كل شيء"!

وقد كان هذا هو آخر شيء يتوقعه سجناء الرأي وقتذاك! لقد تصوروا أن إيقاف التعذيب هو انتصار لهم على النظام الناصري، ووقف محسن الخياط الشاعر ذو الصوت المبحوح يرتجل قصيدة تعبر عن شعور الانتصار يقول فيها:

"مستقتلين .. ولا عمرنا نرمي السلاح من يدنا، مستموتين!
"لا جلادين ولا سفاحين حيغيروا طعم الكفاح من بقنا، طعمه جميل، زيك يا نيل"!
"والشمس رامية شعرها وراء ظهرها، زي الغدير اللي انسكب منه الدهب وأنت تسيل.
وأنت يا نيل، تاخد وتدي أرضنا"

على أن شهور التعذيب البدني المبرح على هذا النحو الوحشي، كان لابد أن تترك آثارها على أبدان سجناء الرأي.

فكما يقول الدكتور فتحي عبد الفتاح: عندما أصبح هناك وقت لالتقاط الأنفاس، اكتشفنا أن الكثيرين قد بدأوا يفيقون على أمراض غريبة، ربما كانت كامنة طوال الفترة الماضية، وربما كان الجسد يستوعبها بإحساسه بالخطر الذي كان يهدده كل لحظة، ولكنها بدأت تظهر وتطفو على السطح حين توقفت المخاطر الخارجية التي تعرض لها الجسد.

ويستشهد الدكتور فتحي عبد الفتاح على ذلك بأنه كان قبل المعتقل معتاداً على مغص ينتابه أحياناً، ولكن هذا المغص اختفى تماماً في المعتقل مع المخاطر الخارجية التي كان يتعرض لها جسده على يد زبانية التعذيب، فلما توقف التعذيب، عاوده المغص بشكل عنيف!

"ولم تكن حالتي هي الوحيدة، فلقد كان هناك الكثير من الزملاء الذين بدأوا يسقطون تحت هجمات أمراض غريبة، كالإغماء المفاجئ، وآلام الأسنان، والهزال الشديد الناجم عن إنيميا حادة!"

ولم تلبث خطة التعذيب الروحي والنفسي أن بدأ تنفيذها! وقد بدأت بحقن سجناء الرأي بالأمل في الإفراج، حتى راهن البعض على أننا سنخرج في فترة صغيرة لا تتعدى شهراً واحداً، في حين أن البعض الأكثر تشاؤماً تصوروا أن المسألة تحتاج إلى عدة شهور.

وسرعان ما جاءت اللحظة المناسبة في يناير 1961 حين استدعت إدارة المعتقل 75 من سجناء الرأي وأبلغتهم بأن عليهم أن يرتبوا أنفسهم للرحيل في الغد إلى الفيوم تمهيداً للإفراج عنهم. وكانت تلك الخديعة الكبرى، فعلى حد قول الدكتور فتحي عبد الفتاح كانت المجموعة التي اختيرت محيرة وغريبة، فقد كان بينهم البعض الذين لم يتحملوا قسوة الظروف الماضية لسبب أو لآخر، وأرسلوا إلى السلطات عدة بيانات وتقارير يستعطفونها فيها، ويعلنون استعدادهم للكف عن أي عمل سياسي.

وبدلاً من أن يتلقى المعتقلون في الواحات الأنباء بأنه تم الإفراج عن هؤلاء الزملاء الـ 75 معتقلاً، إذا بهم يفاجئون في يوم من أيام يناير الباردة بعودة هؤلاء الزملاء من الفيوم، بعد أن خلفوا وراءهم حوالي 33 نزيلاً ممن استسلموا تماماً لكل ما طلب منهم نظام عبد الناصر!

وقد حكى العائدون ما جرى، فذكروا أنهم عندما ذهبوا إلى الفيوم فوجئوا بظروف مختلفة كل الاختلاف: سرائر نظيفة معدة، وأبواب مفتوحة طول النهار، والتغذية جيدة. ولكن بعد أسبوع وصل حسن المصيلحي ومعه زبانيته إلى المعتقل، ولكن في ثوب جديد، وبدور جديد، لا يستهدف في هذه المرة الجسد، وإنما يستهدف الروح! فقد أخذ المصيلحي وزبانيته يستدعون سجناء الرأي، كل واحد على انفراد، ويسألونه: لماذا تبقى في المعتقل؟ لماذا لا تخرج؟ يمكنك أن تخرج إلى أهلك فوراً، فقط مطلوب منك ورقة صغيرة تعترف فيها بأنك كنت مخطئاً في أفكارك، وتتعهد بأنك لن تعمل بالسياسة بعد ذلك!

وقد خضع البعض لهذا الضغط النفسي، فبعد سنوات الصحراء والعذاب والتعذيب، ها هو الباب مفتوح، وثمنه مجرد اعتراف وتعهد! وقد سقط هنا البض، ولكن الآخرين شعروا بأن الحرية التي سوف يحصلون عليها بهذا الثمن فيها تحطيم لإنسانيتهم وإهدار لآدميتهم كأصحاب رأي وفكر، وقد عبر نبيل زكي عن هذا الشعور بقوله: الموت في الواحات أفضل ألف مرة من الحرية الملوثة التي تعرضها!

وسرعان ما عزل هؤلاء في عنبر خاص، وسحبت منهم كل الامتيازات، وأخذوا يتعرضون لضغوط أخرى مختلفة! وعلى حد قول الدكتور فتحي عبد الفتاح: جاءوا للبعض بخطابات من زوجة أو خطيبة تهدد بطلب الطلاق أو فسخ الخطبة، وجاءوا بأولاد صغار ليبكوا أمام أبيهم ويشكون مر العيش، واحتياجهم إليه.

على أن الأربعين معتقلاً من سجناء الرأي صمدوا في مواجهة تلك الهجمات الخبيثة، التي قام بها من أسماهم الدكتور فتحي عبد الفتاح: "سماسرة حرية الخوف والانهيار الإنساني"، وأثروا العودة إلى المعتقل، وهو ما جعل معين بسيسو الشاعر الفلسطيني ينفعل ويلقي قصيدة يقول في مطلعها:

أكتب! واركع للورقة! واغرس قلمك في عيني طفلك! واكتب ما شاء لك السجن بأن تكتب!

وفي الفترة التي أعقبت عودة سجناء الرأي من رجلة "التعذيب النفسي"، تفتحت شهية أجهزة عبد الناصر للاستمرار فيما فشل فيه أسلوب التعذيب البدني. ويشرح ذلك الدكتور فتحي عبد الفتاح فيقول:

"حينما يكون الجسد هو الذي يتهدده الخطر، تنحصر المعاناة في القدرة على تحمل بعض الآثار والآلام الجسدية، ولكن إذا كان المستهدف روحك وعقلك كإنسان، هنا يكون الخطر فادحاً، وتكون المعاناة قاسية ومريرة".

"لقد مررنا بفترة المعاناة والآلام الجسدية، وسقط ضحايا نتيجة الضرب والتعذيب، ولكنهم سقطوا كآدميين وكمفكرين ومناضلين، ولكن التعذيب الذي بدأ مع ترحيلة الفيوم، كان تعذيباً أشد خطراً وأسى للنفس والعقل .. تعذيباً يطلق عليك وحشاً داخلياً، يعربد ويجول مع كل اندفاعة في جسدك".

لم يشأ عبد الناصر أن يفرج عن سجناء الرأي ليعودوا إلى ما بدأوا، وإنما أراد ان يخرجهم بعد أن يكونوا قد تحولوا غلى أمساخ آدمية، وكفوا عن التفكير في استقلالية، وأصبحوا عبيدا للنظام، وترساً في عجلته،وتآكلت إرادتهم.

وأخذت الخطابات ترد إلى سجناء الرأي من الأهل، أملاها زبانية النظام الناصري، كلها تطلب من الابن أو الأب، سماع الكلام والخروج. وقد أورد الدكتور فتحي عبد الفتاح نماذج من هذه الخطابات، فبعضها من زوجات يطلبن الطلاق. وأخريات يكتبن يشرحن لأزواجهن "كيف ضاقت في وجوههن الحياة حتى أصبحن على أبواب الانحراف! .. وطفلة تكت لأبيها: "أخرج من أجلي ومن أجل ماما، قالوا لي أنك لا تريد أن تخرج لأنك تكرهنا! أنا أكرهك"!. ووالد مسن يكتب لابنه: "إنني على مشارف الموت، وكم كنت أود أن أراك قبل أن أموت. أخرج من أجلي، وكفاك عناداً".

ويستطرد الدكتور فتحي عبد الفتاح قائلاً: أذكر هنا هنداوي الصادق، العامل بشبرا الخيمة، كان مناضلاً صلباً ومصرياً تعتز به الطبقة العاملة، تعرض مرات عديدة للضرب والجلد، ولكنه كان يخرج من كل "علقة" ساخراً يقول: أنا زي القطط، بسبع أرواح!

هذا المناضل الصلب وصله خطاب من زوجته من زوجه، كتبه ـ كما يقول الدكتور فتحي عبد الفتاح ـ خبير في التعذيب النفسي يقول: "ابنتك هدى أصيبت بالتهاب رئوي، أذهب بها كل يوم إلى القصر العيني، بعت كل شيء، ولم يبق عندي إلا أن أبيع نفسي لأنقذ هدى، أما أنت فالله يسامحك"!.

وعندما رآه الدكتور فتحي عبد الفتاح يبكي منهاراً قال له: أكتب ما يريدون! ولكن الآخر رد عليه في انفعال: أريد أن أخرج مواطناً شريفاً، وليس خرقة بالية!

ولكن نظام عبد الناصر كان يريد من المواطنين أن يتحولوا إلى خرق بالية. ومع ذلك فإن الكثيرين من هذه الخرق البالية ما زالوا يروجون للنظام الناصري ويدعون له، للدخول بمصر إلى القرن الواحد والعشرين.


23- وعقاب الرفض : استئصال العين ! (الوفد في 20 / 1 / 1997)

لم يقتصر تنكيل نظام عبد الناصر بالمعارضين من المفكرين والعلماء والكتاب والصحفيين والعمال على الرجال، بل تعداه إلى المعارضات السيدات والفتيات، فلم يرحم ضعفهن، وعجزهن عن تهديد النظام بغير الكلمة المجردة، بل خصص لهن سجن القناطر الذي استضاف عدداً ضخماً بلغ أربعين معتقلة، انتزعن من بيوتهن وأبنائهن وبناتهن وأمهاتهن وآبائهن وأزواجهن، وقذف بهن إلى سجن القناطر ليدفعن ثمن الرأي المعارض، ويحرمن من كافة حقوق الإنسان التي كفلتها المواثيق سماوية والإنسانية!

وهذا يفضح تضليل الناصريين الذي يتزعمون اليوم جمعيات حقوق الإنسان في مصر والبلاد العربية، وتذكيراً لهم بأن التاريخ شاهد عدل على جرائمهم، وعلى انتهاكهم لحقوق الإنسان المصري، وإجهاضهم لحرية الرأي، وتنكيلهم بأصحاب الرأي المعارض أيضاً، مما لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر على مر العصور.

ويذكر الدكتور فتحي عبد الفتاح أنه كان يوجد من بين أربعين معتقلة في سجن القناطر حوالي العشرين منهن، ممن كن زوجات أو شقيقات أو قريبات للزملاء المعتقلين!

ومعنى ذلك أن النظام عبد الناصر لم يكن يتردد في اعتقال الأسرة بأكملها إذا كانت تعارضه في الرأي؟ فقد كانت هناك من المعتقلات: أسماء حليم زوجة أسعد حليم، وثريا حبشي زوجة فوزي حبشي، وثريا أدهم زوجة حلمي ياسين، وثريا إبراهيم زوجة الدكتور مختار السيد، وفاطمة زكي زوجة نبيل الهلالي، وسعد بطرس زوجة شكري عازر وشقيقة سعد بطرس، وسميرة الصاوي زوجة أحمد طه، وإنتصار خطاب زوجة صلاح خطاب، وزينات أفلاطون خطيبة الدكتور فوزي منصور، ونوال المحلاوي زوجة عبد السلام مبارك، وليلى عبد الحكيم شقيقة طاهر عبد الحكيم، وعايدة بدر شقيقة أحمد بدر.

والمذهل حقاً، ومما يؤكد فاشية النظام الناصري، أنه لم يكن يبالي بمصير الأطفال الذين ينتزع منهم آباؤهم وأمهاتهم، ويتركهم بدون أي عائل! هكذا حدث مع أحمد طه الذي اعتقل وزوجته وتركا ابناً صغيراً عمره بضع سنوات، ولولاً إنسانية الجيران الذين احتضنوا الطفل الصغير طوال سنوات اعتقال والديه، لما عرف أحد مصير هذا الطفل!ّ

وكذلك فوزي حبشي وثريا حبشي اللذين انتزعا من حضن ولديهما وعمرهما بين عام وأربعة أعوام، وترك زبانية عبد الناصر الطفلين يصرخان عند الفجر وهم يتوجهون بهما إلى المعتقل، ليتولى أمرهما الجيران! كذلك أسعد حليم الذي انتزعت زوجته زوجته أسماء حليم إلى المتقل وهي حامل، فوضعت ابنها في السجن، وقضى الطفل طفولته مع أمه في زنازين سجن القناطر!

ويقول الدكتور فتحي عبد الفتاح غنه عندما أفرج عن سميرة الصاوي زوجة أحمد طه قبله، بعد اربعة أعوام قضتها في السجن، سعد سعادة بالغة، وكان يحكي عن عبد القادر الصغير الذي حرم من الوالد والأم في ليلة سوداء، ثم يسرح بفكره إلى شبرا، ويتصور لقاء عبد القادر مع أمه بعد غيبة طويل، بعد أن أصبح شاباً في الثالثة عشرة من عمره"!

ومع ذلك فإن النظام الناصري لم يتردد في استخدام الأساليب القذرة التي كان يستخدمها زبانية صلاح نصر! سقط سجناء الرأي وسجينات الرأي مرضى بعد انتهاء عملية التعذيب البدني، وأخذ النظام يخضعهم للتعذيب الروحي والنفسي، انتقل الكثيرون منهم إلى القصر العيني للعلاج، حيث أخضعوا لتعذيب من نوع آخر واختبار لا يقل فظاعة!

فقد كان المفروض أن يوضع المعتقلون من الرجال في عنبر، وتوضع المعتقلات من السيدات في عنبر آخر، ولكن إدارة المعتقل شاءت إلا أن تضع المعتقلين والمعتقلات في عنبر واحد!

ويقول الدكتور فتحي عبد الفتاح، الذي كان قد عزل لإجراء عملية "كلوكوما": إن السؤال الذي كان يثور في ذهنه باستمرار "لماذا يوضع الجميع في مكان واحد؟ وماذا يجري داخل الغرف الثلاث المغلقة على 14 زميلاً وزميلة"؟

"ولم يكن من الصعب أن أعرف السبب، بعد أن نزلت إليهم مرتين، وجلست إلى بعضهم عدة ساعات، كان عنبر المعتقلين في القصر العيني أحد الخطط الذكية لأساتذة "القتل المعنوي". فلم يكن يسمح بالبقاء في هذا العنبر سوى لبعض من الزملاء الذين أبدوا استعداداً للتفاهم! بعضهم كان يعاني مرضاً خفيفاً، ولكن غالبيتهم كانوا من أصحاب الحظوة لدى الأجهزة!

"كذلك فإن إبقاء بعض الزميلات معهم يمكن أن يؤدي إلى قصص تصلح لأن تكون سلاحاً ضد الإشتراكية والاشتراكيين. "حقيقة انه حدث بعض التجاوزات، ولكن الحقيقة الأكثر والمشرقة، أنه بالرغم من كل تلك الظروف الصعبة التي صنعت بإحكام لانزلاق الزميلات، إلا أن الغالبية استطاعت أن تتماسك، بل وتقدم القدوة والمثل العظيمة لكيف تكون أخلاقيات الفتاة الإشتراكية".

وقد كان على الدكتور فتحي عبد الفتاح أن يخوض تجربة أخرى من تجارب القتل المعنوي، عندما عهد إلى إحدى الممرضات بإغرائه، وكانت التجربة أقسى من التعذيب البدني، فعلى حد قوله: "لقد واجهت الشومة الغليظة وهي ترتفع ثم تهوي على الجسد تلهبه وتمزقه، وقاومت .. وواجهت الكرباج ينفرد ويطير ويلسع، وقاومت، وواجهت قلماًوولاقة يمكن أن يكتبا شيئاً يخرج بي من السجن، وقاومت. ونظرت إليها مثلما كنت أنظر إلى أدوات التعذيب الأخرى، وصرخت في وجهها: قولي لهم: أنا مش مراهق ساذج، أنا صاحب عقيدة ورأي؟. وحين أتذكر تلك الليلة، أتذكر على الفور أقسى معركة دخلتها".

على هذا النحو كان النظام الناصري يجرد كل أسلحته لتحويل سجناء الرأي إلى خرق بالية لا رأي لها! ومن هنا كان على الدكتور فتحي عبد الفتاح أن يدفع ثمن الرفض، وكان الثمن هو استئصال عينه! ويروي القصة فيقول إنه فوجئ بأوراق علاجه تحال إلى طبيب من أطباء النظام الناصري يدعى أمين زايد بدلا من الطبيب الذي كان يتبعه وهو الدكتور عصام توفيق، وقد قرر هذا الطبيب أن تشخيص الأخير خاطئ، على الرغم من أنه يفوقه في الدرجة العلمية، إذ هو بدرجة أستاذ مساعد بينما الطبيب الناصري بدرجة مدرس، وأمر بخروجه من المستشفى وعودته إلى معتقل الواحات! بما يعني أن يفقد بصره تدريجياً، إذ كان يعاني من "جلوكوما" حادة.

وعندما أعيد إلى القصر العيني بسبب سوء حالته، أحيل إلى نفس الدكتور أمين زايد، إصراراً على عقابه، وجاء تشخيص الدكتور الناصري هذه المرة على النقيض! فقد قرر أن حالة عينه اليسرى ميئوس منها، ولابد من استئصالها"! وصرخ الدكتور فتحي عبد الفتاح قائلا: سيادتك بتقول إن حالة عيني ميئوس منها، ومن ثلاث أسابيع قلت إن عيني سليمة! أنا مش فاهم!. ورد الدكتور الجزار في برود غريب: "ولا عمرك حتفهم"! والتفت إلى الممضرية قائلا: "لازم يمضي على إقرار بموافقته على الاستئصال اليوم ويرفق بأوراقه"!.

وكان من الطبيعي أن يقاتل الدكتور فتحي عبد الفتاح حتى لا تستأصل عينه، وان يدخل في صراع طويل أعيد فيه إلى الواحات، ولكن بعد ان أفلح في تسريب خبر ما يراد بعينه إلى الخارج، وكتبت بعض الصحف والمجلات العربية عن موضوعه تحت عنوان:"أنقذوا عين الصحفي الشاب"! وقامت حملة لإنقاذ عينيه. وفي الواحات أضرب أربعة من زملائه عن الطعام حتى يتم نقله وعلاجه في القاهرة، وكان الأربعة من ذوي الأسماء المعروفة على المستوى العربي والعالمي، وهم الدكتور إسماعيل صبري عبد الله ، ونبيل الهلالي، وعبد المنعم شتلة، وحلمي يس.

وهنا اضطر النظام الناصري إلى نقله إلى القاهرة، ولكن مع الإصرار على أن ينال عقوبته على عدم الخضوع، وهي استئصال عينه! فقد فوجئ الدكتور فتحي عبد الفتاح بعرضه مرة أخرى على الدكتور أمين زايد نفسه الذي أراد استئصال عينه! وجرت مساومته مرة أخرى بينما كان يوضع في زنزانة مظلمة معتمة! ومضت به ستون يوماً بعيداً عن العلاج وبصرهيتدهور يوماً بعد يوم وهو قابع في الزنزانة رقم 30 في الدور رقم 6 في سجن مصر!

وهنا آثر الانتحار على الاستسلام، بعد أن ترك إلى حسن المصيلحي كتاباً يقول فيه: لقد انتصرت عليك حتى بالموت"! وتناول عشر حبات نوفالجين وعشر حبات لوميدال، ورقد في انتظار الموت.

على أنه أنقذ نفسه في آخر لحظة، واهتز النظام الناصري الذي خشي الفضيحة، ووصلت النيابة لإجراء التحقيق، ولتكتشف الصورة البشعة الحقيقية للنظام الناصري كما يصورها الدكتور فتحي عبد الفتاح في روايته الآتية:

"فقد سأله وكيل نيابة الخليفة عن التهمة التي دخل من أجلها السجن؟ وأجاب الدكتور فتحي عبد الفتاح دهشاً: أي تهمة؟ ورد وكيل النيابة: الجريمة التي دخلت من أجلها السجن ومدة الحكم؟ ورد الدكتور فتحي: لا أعرف!

وتصور وكيل النيابة أنه يهزل، ونبهه إلى أنه يدلي بإجابته "في محضر رسمي"! وأجاب الدكتور فتحي: حقيقة لا أعرف! لست مسجونا، ولم توجه لي أي تهمة، ولم يصدر ضدي أي حكم"! وغضب وكيل النيابة لما اعتبره سخرية وأعاد سؤاله: يا أستاذ .. لا تضيع وقت النيابة .. ما هي مدة الحكم عليك؟ ورد الدكتور فتحي عبد الفتاح:

"قلت إنه لم توجه لي أي تهمة حتى الآن، وأنا معتقل منذ أربع سنوات، ولم يجر معي أي تحقيق، وسيادتك أول مسئول قانوني ألتقي به طوال تلك الفترة"! وصاح وكيل النيابة مأخوذاً: مش ممكن، أربع سنوات بدون تحقيق"!

وتقدم مأمور السجن يشرح لوكيل النيابة، الذي كانت ملامحه تشي بأنه متخرج حديثاً، الموقف، فأكد له أن الدكتور فتحي عبد الفتاح بالفعل معتقل وليس مسجوناً! كيف يا حضرة المأمور يوجد في سجنك إنسان لم يحقق معه، ولم يصدر ضده أي حكم، وليس على ذمة قضية؟ كيف؟ افتح محضر حالاً مع السيد مأمور سجن مصر!

وتقدم ضابط المباحث لإنقاذ مأمور السجن، وشرح الأمر لوكيل النيابة قائلاً: الأستاذ معتقل بقرار جمهوري وفقاً لقوانين الطوارئ! أما مهمة سيادتك فهي التحقيق في حادث الانتحار فقط!

على أن وكيل النيابة لم يستطع ان يستوعب الموقف، وأصر على إجراء تحقيق مع مأمور السجن! وأشفق الدكتور فتحي على وكيل النيابة، ورفع صوته "محاولاً وقف المهزلة اللامعقولة التي تجري" ـ حسب قوله ـ وقال:

"يا حضرة وكيل النيابة، بدلاً من إضاعة الوقت في قضايا لا تملك أن تحسمه، ولا السيد المأمور، فإني أرجوك إذا كنت متحمساً لقضيتي أن تأمر: إما بعلاجي في أحد المستشفيات الخاصة، وإما بنقلي إلى سجن الواحات"!

على أن وكيل النيابة المتحمس رد قائلاً: لا، بل سأصدر أمري بالإفراج عنك فوراً! واجتاحته موجة من الانفعال وهو يتكلم عن القانون وضرورة سيادة القانون، ومش ممكن أسكت على هذا الانتهاك! معقول؟ مسجون بدون تحقيق، او إقرار اتهام، أو حكم محكمة؟ مش ممكن!

وخرج الفرسان الثلاثة من الغرفة ليواصلوا المعرفة في غرفة المأمور، وسط دهشة الدكتور فتحي عبد الفتاح لهذه المعركة الغريبة التي كانت تشترك فيها ـ على حد قوله ـ أجهزة السلطة، ولكن أي أجهزة؟ وأخذ يحلل الموقف على النحو الآتي:

"إذا قلنا إن وكيل النيابة الشاب يمثل السلطة القضائية، ومأمور السجن يمثل السلطة التنفيذية، فأي سلطة يمثلها ضابط المباحث؟ إنه كل شيء! إنه الخصم والحكم! والقانون والتنفيذ! إنه فرعون مصر! وإمبراطور روما! وقائد التتار! وهتلر ألمانيا! وسالازار البرتغال! وكنت أعرف بالطبع من سينتصر في تلك المعركة!".

هكذا لخص الدكتور فتحي عبد التفاح نظام عبد الناصر: إنه فرعون مصر وإمبراطور روما وقائد التتار وهتلر ألمانيا وسالازار البرتغال! ولكن اليسار المصري يزعم اليوم أنه كان نظاماً اشتراكياً!.


24- تناقضات د . عبد العظيم أنيس (الوفد في 27 / 1 / 1997)

أود أن اقول في بداية هذا المقال إنه لا يجب على الناصريين في جريدة "العربي" أن يدافعوا عن معتقلات عبد الناصر بأن هذه الاعتقالات تلجأ إليها أكثر الدول الديموقراطية دفاعاً عن نفسها، وأن أمريكا اعتقلت في الحرب العالمية الثانية 90 ألفاً ومائتي أمريكي من أصل ياباني، ثم الاستدلال بعد المعتقلين في عهود عبد الناصر والسادات ومبارك وعقد المقارنة بينهما!

هذا كلام حق يراد به باطل! فما حدث في عهد عبد الناصر هو أمر مختلف تماماً عما حدث في الحالات السالفة الذكر، فلم يكن ثمة خطر يهدد النظام الناصري من جانب الشيوعيين بأي حال من الأحوال، فلم يضبط الشيوعيون يدبرون قلب النظام بالقوة، ولم يضبط لديهم أسلحة أو متفجرات، وإنما كان كل ما ضبط في بيوتهم هو مجرد كتب وأوراق عن نشاط حزبي، ومعنى ذلك ان الأمر يدخل في شكل خلاف الرأي ولا يدخل في شكل تآمر مسلح على النظام السياسي.

ثانيا، أن الأمر في اعتقالات عبد الانصر لم يكن أمر اعتقال، وإنما كان أمر انتقام! لقد كان تعذيباً لم تعرفه سوى المعتقلات النازية والفاشية، وكما وصفه الدكتور عبد العظيم أنيس فلم يكن ينقصه سوى غرف الغاز ليصبح مطابقاً لما يجري في معتقلات النازي. وهذا التعذيب بالذات هو الذي يميز أي نظام، فالنظم الديموقراطية تعتقل وفقاً للقانون، وتعطي المعتقل كافة الحقوق الإنسانية، ولكن نظام عبد الناصر حرم مخالفيه في الرأي من أية حقوق، وأكثر من ذلك سلمهم لزبانية تعذيب لم يعرفهم المجتمع المصري طوال تاريخه.

وهذا الكلام ليس كلامي وإنما هو كلام إلهام سيف النصر. ففي كتابه "في معتقل أبو زعبل" يقول: "سخرية أن يكون للمتهم بتسريح الغلمان والدعارة والمخدرات حقوق، وأن يحرم سجين بتهمة عقائدية من أي حقوق"!

ثالثاً، أنه عندما استولى عبد الناصر على الحكم في مصر في يوليو 1952، خدع الشعب خديعة كبرى عندما رفع لواء الدكستور في أول بيان للثورة، ولم يكد يتمكن من الحكم حتى داس الدستور بقدميه، وظل يحكم البلاد حكما ديكتاتورياً حتى وفاته! وفي هذا الحكم لم يسمح لرأي مخالف بأن يرتفع، ولم يسمح له حتى بمحاكمة عادلة، وإنما زج بهم في المعتقلات بدون أدنى محاكمة. فقد كان جميع من اعتقلوا في أوردي أبو زعبل والواحات وسجن القناطر وغيرها ممن لم يعرضوا على أي محاكمة شرعية، ولم توجه لهم أي تهمة جادة، وإنما حرموا من أبسط حقوق الإنسان بإرادة فرد هو عبد الناصر.

ومن هنا حين يتصدى الناصريون اليوم للدفاع عن حقوق الإنسان ويؤلفون الجمعيات هنا وهناك، فإنهم يضللون شعبنا، لأنهم لا يؤمنون في قرارة أنفسهم بحقوق الإنسان، ولو كانوا يؤمنون بحقوق الإنسان لما ساندوا النظام الذي ولغت يده في حقوق الإنسان، ولما أصبحوا اليوم المدافعين عن هذا النظام!

على كل حال، ففي هذا المقال نستعين بوثيقة تاريخية أخرى هي كتاب كاتب يساري مرموق ومفكر معروف هو الدكتور عبد العظيم أنيس، الذي أصدرته مؤسسة روز اليوسف تحت عنوان: "رسائل الحب والحزن والثورة".

ونلاحظ أن الدكتور عبد العظيم أنيس لم يكتب هذا الكتاب للتشهير بعبد الناصر، فقد كان رغم ما تعرض له من تعذيب مروع لمجرد خلافه في الرأي مع نظام عبد الناصر، يعتقد أن عبد الناصر هو استمرار حقيقي لعراب ومصطفى كامل وسعد زغلول! بل إنه كان "استمرار أرقى"! – حسب قوله – استناداً إلى أنه "لا يوجد شخص واحد على قدر من الموضوعية يستطيع أن ينكر قيمة التحولات الاجتماعية الهامة التي قادها عبد الناصر في المجتمع المصري"!

واعتقادي أنه في هذا الكلام كان مدفوعا بحملة التشهير التي تعرض لها عبد الناصر بعد وفاته، والتي دفعت فرق اليسار إلى مقاومتها من قبيل الدفاع عن النفس باعتبارها القوى المضادة للقوى الرجعية، وقد كنت أحد الأقلام التي تصدت لهذا التيار الرجعي في مجلة روز اليوسف وجريدة الجمهورية في مقالات مطولة تضمنها كتابي: "مصر في عصر السادات"، حتى جاءت مبادرة السلام للسادات لتعيد بعض فرق اليسار النظر في التجربة الناصرية، بعد أن تبين أنها هي التي قادت بإهمالها وأخطائها إلى كارثة هزيمة يونيو 1967، التي قادت إلى حرب أكتوبر وإلى مبادرة السلام، وكنت أحد هؤلاء الذين أعادوا النظر في التجربة الناصرية بعد أن تبين حجم أخطائها من خلال دراستي لحرب يونيه 1967 التي صدرت تحت عنوان: "تحطيم الآلهة".

على أن الدكتور عبد العظيم أنيس بقي على رأيه في عبد الناصر وثورة يوليو، على الرغم مما أدان به الثورة في مقدمته لكتابه: "رسائل الحب والحزن والثورة"، وما نسبه إليها من فشل الوحدة المصرية السورية التي هي أول وحدة عربية في العصر الحديث، وقوله: "إن المسئولية الأولى فيما حدث تقع – في رأيي – على أكتاف القيادة السياسية في مصر، بما تورطت فيه من أخطاء سياسية، وما تورطت فيه أجهزة أمنها من جرائم"!

ثم يؤكد هذه الإدانة مرة أخرى فيقول: "كيف تم الانقلاب على الوحدة بهذه السهولة؟ بل كيف انهار صرح الوحدة في دقائق؟ إن الإجابة على هذا السؤال لا تكتسب أهمية تاريخية فحسب، وإنما ترتبط بمستقبل النضال من اجل الوحدة في المستقبل، وفي رأيي ان المفتاح الرئيسي في هذه الإجابة يتمثل في عداء نظام عبد الناصر للديموقراطية السياسية والجبهة الوطنية، الذي أعطى أعداء الوحدة فرصتهم الذهبية".

هذا هو تقييم الدكتور عبد العظيم أنيس لموقف التجربة الناصري من قضية الوحدة، وهي إحدة القضيتين الرئيسيتين في تقييم التجربة الناصرية. أما القضية الثانية فهي قضية الديموقراطية، وقد جاءت فرصة اعتقاله وتعذيبه في معتقل الأوردي لتتيح له فرصة أوسع للحكم في هذه القضية الثانية – كما سوف نوضح في هذه المقالات. ولمعلومية القارئ فإن هاتين الضيتين – باعتراف الدكتور عبد العظيم أنيس – هما القضيتان اللتان كانتا تقسمان صفوف الشوعيين المصريين، ففي حين كانتا لأغلبية، ومنها الدكتور عبد العظيم أنيس، "ترقب سياسة عبد الناصر في حذر وتحفظ، وبنظرة نافذة لقضيتي الوحدة والديموقراطية"، كانت مجموعة شهدي عطية تتخذ مواقف التأييد شبه المطلق لسياسة عبد الناصر!

وقد دفع شهدي عطية حياته ثمناً لهذا التأييد المطلق لسياسة عبد الناصر في أوردي أبو زعبل! ودفع الدكتور عبد العظيم أنيس الثمن أيضاً عندما وقع الانقسام في صفوف الأغلبية بعد أن وجدوا أنفسهم في معتقلات عبد الناصر، ففي حين نزع قسم من هذه الأغلبية من نظام عبد الناصر الصفة الإشتراكية واعتبره رأسمالية دولة احتكارية، رأى قسم آخر في النظام ملامح فئات البرجوازية الصغيرة بكل ما فيها من مميزات ثورية كبيرة وتناقضات ومواقف معادية للديموقراطية!

وقد هاجم الدكتور عبد العظيم أنيس الفريق الذي اعتبر نظام عبد الناصر رأسمالية دولة احتكارية.

وهو ما يفسر إشادته "بالتحولات الاجتماعية الهامة التي قادها عبد الناصر في المجتمع المصري" في كلامه السالف الذكر.

وكان أجدر به ان يتبين أن هذه التحولات الاجتماعية ذاتها هي التي اتخذها عبد الناصر ذريعة لفرض دكتاتورية الدولة، وأنها لم تكن انطلاقاً من فكر اشتراكي تقدمي، بدليل لا يقبل الجدل، هو أنه في الوقت الذي كان عبد الناصر يحدث من هذه التحولات الاجتماعية التي تحدث عنها الدكتور عبد العظيم أنيس كان يعتقل الاشتراكيين الحقيقيين، ومنهم الدكتور عبد العظيم أنيس نفسه، ويذيقهم ألوان العذاب التي لم تعرفها سوى النظم النازية والفاشية!

فقد أعلن عبد الناصر قراراته التي سميت بالقرارات الإشتراكية في يولية 1961، وكان الاشتراكيون الحقيقيون في معتقلاته قبل عام ونصف! أي من يناير 1959! ولو كانت هذه القرارات قد نبعت من فكر اشتراكي لأعقبها على الفور الإفراج عن المعتقلين الاشتراكيين ليكونوا سنداً لنظام عبد الناصر، ولكنه أبقى هؤلاء الاشتراكيين في المعتقلات ثلاث سنوات أخرى – أي إلى إبريل 1964 – باعتراف الدكتور عبد العظيم أنيس!

بل إنه فيما عدا عدة شهور في أواخر سنة 1964، فإن معتقل القلعة وسجن طرة – كما يقول الدكتور فتحي عبد الفتاح – عادا من جديد يستقبلان نماذج من المعتقلين الشيوعيين! وذلك تحت دعاوي كثيرة بلغت حد اعتقال أحد هؤلاء، وهو فرانسيس لبيب بتهمة أنه "يلسّن" على النظام! كما اعتقل أيضاً الذين سجلوا رأيهم في المؤتمر الموسع للتنظيم الشيوعي وكانوا ضد قرار حل التنظيمات الشيوعية! بل إن عددا آخر من قيادات منظمة الشباب الاشتراكي وأساتذة المعهد العالي للدراسات الإشتراكية قد اعتقلوا سنة 1966 – كما يقول الدكتور فتحي عبد الفتاح – تحت دعوى الترويج للمذهب الماركسي!

ومن هنا فلست أدري كيف اعتبر الدكتور عبد العظيم أنيس نظام عبد الناصرنظاماً اشتراكياً ونفى عنه صفة رأسمالية الدولة، اللهم إلا إذا ان ينفي عن نفسه صفة الإشتراكية ويخلعها على عبد الناصر! أو كان يعترف بإمكان قيام الإشتراكية على أيدي غير اشتراكيين! وفي هذه الحالة ما فائدة وجود الاشتراكيين أصلاً، وما فائدة دورهم، وما فائدة بقاءهم؟!

ثم إن الدكتور عبد العظيم أنيس يعتبر عبد الناصر "استمرارا أرقى" لعرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول! ويرى أنه كان أحد القادة المرموقين للنضال العربي، مع أنه يعترف بأنه يتحمل "المسئولية الأولى" عن انهيار أول وحدة عربية في العصر الحديث! فكيف يتفق هذا مع ذلك؟ إن قادة النضال العربي هم الذين يحققون الوحدة، وليسوا هم الذين يستهينون بالوحدة ويتورطون في أخطاء سياسية وجرائم تؤدي إلى انهيارها – انهيارها إلى الأبد!

ثم إن الدكتور عبد العظيم أنيس يعترف في كتابه بان الذين أشرفوا على تعذيبه في أوردي أبو زعبل "لابد أن يكونوا قد دربوا على يد بعض النازيين من الألمان"! ويقول أنه عندما زار معتقل "بوخنفالد" في ألمانيا عام 1969، واستمع إلى شرح الدليل، وجد تشابهاً غريباً بين ما كان يجري فيه من أساليب تعذيب وبين ما جرى في معتقل أوردي أبو زعبل"! بل يعترف بأن المسئولين عن قتل شهدي عطية، ومن قبله الدكتور فريد حداد "لا يزالون حتى الآن دون جزاء"!

والسؤال الآن: إذا كان هؤلاء النازيون هم أدوات نظام عبد الناصر في محاربة الشيوعيين المصريين، وإذا كان عبد الناصر قد فشل في أهم قضيتين وهما قضية الوحدة وقضية الديموقراطية، فما هو الخطأ في وصفنا نظام عبد الناصر بأنه رأسمالية دولة احتكارية وليس اشتراكية؟ وما هو الخطأ في وصف نظام عبد الناصر بأنه كان نظاماً نازياً وفاشياً؟


25- اعترافات : د . عبد العظيم أنيس! (الوفد في 3 / 2 / 1997)

في مقالنا السابق عرضنا رأي الدكتور عبد العظيم أنيس في جمال عبد الناصر، وكيف اعتبره استمراراً "أرقى" لعرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول! وناقشنا هذا الرأي في ضوء فشل التجربة الناصرية في قضيتي الوحدة العربية والديموقراطية، وهما القضيتان اللتان اعتبرهما الدكتور عبد العظيم أنيس أساساً لتقييم التجربة الديموقراطية. وفي هذا المقال نسوق اعترافات الدكتور عبد العظيم أنيس الخاصة بتجربته الشخصية مع نظام عبد الناصر، وهي تجربة غنية.

فقد اعتقل في فجر أول يناير سنة 1959، وظل معتقل حتى إبريل 1964، أي أن اعتقاله طال خمس سنوات وثلاثة شهور، وفي ذلك يقول: "وقد قضيت هذه الفترة الطويلة في عدة معتقلات مختلفة، بدأت بمعتقل القلعة، ثم معتقل الواحات، ثم عدت غلى سجن مصر استعداداً لتقديمي، مع ستين آخرين، إلى المحاكمة أمام مجلس عسكري يرأسه مدير سلاح المدفعية اللواء هلال عبد الله هلال، في أكتوبر سنة 1959، بالإسكندرية، وبعد الحماكمة عدنا من الإسكندرية إلى سجن مصر مرة أخرى، حيث نقلنا في 7 نوفمبر 1959 إلى معتقل أوردي ابو زعبل.

وفي أوردي أبو زعبل – كما يقول – "جرت اول تجربة تعذيب جماعية، على يد جهاز المباحث العامة وضباط مصلحة السجون. وليس لدي شك في أن هؤلاء الذين أشرفوا على هذه التجربة البربرية لابد ان يكونوا قد دربوا على يد بعض النازيين الألمان، لأنني عندما زرت بقايا معتقل "بوخنفالد" في ألمانيا عام 1969، واستمعت إلى شرح الدليل، وجدت تشابهاً غريباً بين ما كان يحدث فيه من أساليب تعذيب وما جرى في معتقل أوردي أبو زعبل!

"وقد تولى قيادة هذا العمل الوحشي – الذي سوف يرد وصفه في صفحات الكتاب – العميد حسن مصيلحي من جهاز المباحث العامة، واللواء إسماعيل همت، وكيل مصلحة السجون، وانتهت هذه التجربة بفاجعة قتل الصديق العزيز شهدي عطية في يونيو سنة 1960. وعندئذ تحركت الدولة لوقف التعذيب، وإبعاد المسئولين عن هذا العمل الإجرامي.

"ومع ذلك فلا يزال المسئولون عن قتل شهدي عطية، ومن قبله الدكتور فريد حداد، حتى الآن دون جزاء!

"وبعد توقف سياسة التعذيب في الأوردي، نقلنا في يوليو 1961 إلى معتقل الواحات الخارجة، وبقينا هناك في ظروف معقولة نسبياً حتى أفرج عنا في إبريل سنة 1964 على أثر الأحكام العرفية، وإقرار سياسة تصفية المعتقلات".

على هذا النحو اقتطع عبد الناصر من حياة الدكتور عبد العظيم أنيس خمس سنوات وثلاثة أشهر، قضاها بعيداً عن زوجته التي كان قد تزوجها قبل عام واحد بعد قصة حب، وهي السيدة عايدة ثابت التي كانت تعمل صحفية في جريدة المساء، وقد فصلها عبد الناصر من عملها، كما فصل الدكتور عبد العظيم أنيس، "وأصبحنا نحن الاثنين نواجه الحياة بلا مورد: أنا في المعتقل، وهي في الخارج!".

على هذا النحو كانت إنسانية عبد الناصر: اعتقال خصومه في الرأي، وحرمانهم من أية موارد يواجهون بها الحياة! ومع ذلك فإن السيدة عايدة ثابت كانت محظوظة، لأن عبد الناصر لم يعتقلها كما اعتقل زوجات المعتقلين الشيوعيين الآخرين! ربما لأن زواجها بالدكتور عبد العظيم أنيس لم يكن قد مضى عليه اكثر من عام، إذ اكتفى بفصلها من عملها بجريدة المساء وتشريدها لمدة خمس سنوات!

وقد كانت صلة السيدة عايدة ثابت بالمناضلة الوفدية الشهيرة فهيمة ثابت، التي تطوعت لمرافقة أم المصريين عند نفيها مع سعد زغلول إلى جبل طارق، صلة قرابة وثيقة، إذ كانت فهيمة ثابت عمتها ومربيتها.

ومن المحقق أن خسارة تلك السنوات الخمس والأشهر الثلاثة، التي اقتطعت من حياة الدكتور عبد العظيم أنيس الزوجية، كانت أفدح من غيرها، لأن السيدة عايدة ثابت ماتت بعد عشر سنوات فقط في أنضج سنوات حياتها إثر فاجعة مروعة! فكأن الدكتور عبد العظيم أنيس خسر خسارة مضاعفة بتلك السنوات التي اقتطعت من عمر حياته الزوجية.

ولم تكن تلك الخسارة الفادحة التي مُني بها الدكتور عبد العظيم أنيس بسبب اعتقال عبد الناصر له، ناتجة عن مؤامرة دبرها للإطاحة بهذا النظام، أو بسبب متفجرات زرعها في الأحياء الشعبية، وإنما كانت فقط بسبب خلاف بسيط في الرأي حول شكل الوحدة المصرية السورية، وهل تكون اندماجية كما أراد حزب البعث السوري وجمال عبد الناصر، أو تكون فيدرالية يكون لكل قطر فيها حق تنظيم شئونه الداخلية وفق ظروفه الخاصة، كما أراد الحزب الشيوعي السوري الذي ساندته الأحزاب الشيوعية الأخرى في العالم العربي!

هذا الخلاف في الرأي، الذي يقع عادة في البلاد الديموقراطية فلا يحرك ساكناً للنظام السياسي السائد، كان هو الذي فجر بركان غضب عبد الناصر ودفع به إلى شن حملته الهتلرية ضد الشيوعيين المصريين أول يناير سنة 1959، ولم يكتف بذلك، بل عمد إلى التنكيل بهم، فقذف بهم في 7 نوفمبر 1959 إلى معتقل أوردي أبو زعبل، وعهد بتعذيبهم إلى فرقة مختارة تلقت تدريبها على يد أساتذة التعذيب النازيين، حيث جرت أول تجربة تعذيب جماعية لم يشهد لها تاريخ مصر مثيلاً، مات فيها مفكرون من التعذيب مما لم يسبق له مثيل!

وكل ذلك بسبب خلاف في الرأي لا غير! لم يترتب عليه أي تهديد لنظام عبد الناصر العسكري القائم، الذي كان يرفع وقتذاك شعارات الحرية! ويطلق صيحة: "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد"! ويندس في صفوف حركة التحرر الوطني العالمية وهو يعرّض سيناء للاحتلال الإسرائيلي! ويفتح أمامها خليج العقبة لتنفذ منه إلى البحر الأحمر وأسواق أفريقيا وآسيا حتى اليابان! ويتبجح فيسمي ذلك انتصاراً! ثم يكمل "جميله" فيرتكب هزيمة 1967، ويسلم سيناء مرة أخرى للاحتلال الإسرائيلي ومعها الجولان والضفة الغربية وغزة!

لقد روى الدكتور عبد العظيم أنيس تجربته مع نظام عبد الناصر من خلال خطاباته إلى زوجته. وهي خطابات تاريخية ووثائق مهمة من الدرجة الأولى لأنها تروي الحقيقة دون مبالغة أو تزويق أو تبرير. ففي خطابه الأول من معتقل اللعة يوم 23 يناير 1959، كتب يقول:

"أكتب لك من داخل أسوار معتقل القلعة، الذي مضى علينا فيه ثلاثة وعشرون يوماً. غن هذا هو نفس المكان الذي كان المستعمرون الإنجليز يعتقلون فيه الوطنيين من المصريين عام 1919! فما أغربها من مفارقة؟ أن نكون نحن هنا، وبأمر حكومة وطنية!

"أما عن التحقيق معي، فالحقيقة أن النيابة لم تظهر غير مرة واحدة، والأسئلة كانت عادية تماماً:

- ما رأيك في الحكومة؟
- حكومة وطنية!
- ما رأيك في الوحدة بين مصر وسوريا؟

- إني أؤيد الوحدة، غير أني أخشى على مستقبلها، لأنها ولدت غير ديموقراطية، وأعتقد أن فكرة إلغاء الأحزاب الوطنية في سوريا خاطئة، لقد كانت أفضل أن تكون الوحدة فيدرالية وليست اندماجية – على الأقل لفترة من الزمن.

"هذه كل الأسئلة تقريباً، ثم اختفت النيابة بعد ذلك!".

وفي خطاب يوم 30 يناير 1959 كتب قائلاً: "إن موقفنا القانوني هو أننا معتقلون بأمر الحاكم العسكري ولسنا محبوسين على ذمة قضية"!

وفي يوم 2 إبريل كتب الدكتور عبد العظيم أنيس من سجن الواحات يقول:

"هاأنذا أكتب إليك من سجن الواحات الخارجة، بعد أن نقلنا من معتقل القلعة يوم 21 مارس، فوصلنا الواحات بعد رحلة مجهدة دامت أكثر من 24 ساعة بالقطار".

"لقد كانت الرحلة كلها مهانة لإنسانية جميع المعتقلين. تصوري! إنا ربطنا من أذرعنا في جنزير حديدي واحد، بحجة أنه ضمان ضد الهرب خلال الرحلة! ولكن الأسوأ والأبشع كان في انتظارنا عند وصولنا إلى السجن!

"هناك فوجئنا بوجود فرقة اللواء إسماعيل همت المتخصصة في إرهاب المسجونين والبطش بهم، ولم نكد نصل إلى باب السجن حتى وجدنا المدافع الرشاشة مصوبة إلى صدورنا، دون أن يصدر منا ما يدعو إلى ذلك!

وقد اختار همت عدداً قليلاً من المعتقلين لجلدهم على "العروسة" التي كانت معدة في فناء السجن، ويبدو أن الهدف الحقيقي هو إشاعة جو الفزع والرعب بيننا!

"ما زال وضعي القانوني كما كان في القلعة، وهو انني معتقل سياسي في سجن الواحات الخارجة. الجديد أن وجودنا هنا أعطانا الفرصة لتجديد علاقات قديمة مع عدد من الكتاب والفنانين والتقدميين، المحكوم عليهم بأحكام منذ أعوام 1953 – 1954! ومنهم الصحفي صلاح حافظ، والرسام داود عزيز، وغيرهما كثير!

"أرجو أن تقدمي، باسمي واسمك، طلباً إلى نقابة الصحفيين، تطلبين إعانة شهرية لنا نحن الاثنين! أرجو ألا تخجلي من ذلك، فهذا حقنا. لقد كان جديراً بالنقابة أن تقف موقفاً حازماً من فصلي وفصلك من صحيفة المساء، وهو فصل تعسفي أصبحنا نحن الاثنان بعده بلا مورد نعيش عليه!

"ما أروع هذا الفصل من مكافأة على مواقفنا الوطنية! وعلى استقالتي من وظيفتي كمدرس بجامعة لندن عام 1956 احتجاجاً على العدوان البريطاني الغاشم على بلادنا!".

انتهت رسالة الدكتور عبد العظيم أنيس المؤثرة. ولكن لم يكن من حقه أن يعجب أن كافأه عبد الناصر على موقفه الوطني المساند له وقت العدوان الثلاثي بالاعتقال والتعذيب، فقد أدت مساندته وغيره من أبناء الشعب لعبد الناصر إلى ارتفاع نجم مجده، والظهور أمام العالم بمظهر البطل الوطني الذي تحدى الاستعمار وإسرائيل، وكان ذلك في الوقت الذي كان يسلم لإسرائيل مفاتيح البحر الأحمر في خليج العقبة وهي مضايق تيران!

وكان هذا كافياً لعبد الناصر للانقلاب على من ساندوه أو مكافأتهم بما يستحقون، فقد كافأ عبد الناصر الدكتور عبد العظيم أنيس بالاعتقال والتعذيب، وهي نفس المكافأة التي كافأ بها كل من أيدوه وساندوه وساعدوه على الاستقرار في الحكم، وكافأ الشعب المصري، الذيسانده في حرب 1956، بالهزيمة الساحقة أمام الجيوش الإسرائيلية في يونية 1967!

والمهم هو أنه في سجن الواحات كان على الدكتور عبد العظيم أنيس أن يخوض تجربة جديدة وصفها لزوجته في خطاب مايو 1959 بقوله:

"الحياة في الواحات سيئة، والطعام المكون من العسل الأسود صباحاً، والفول النابت ظهراً، ثم العسل الأسود مساءً – سيء للغاية.

"ولقد عشنا هناك في زنازين طوال اليوم إلا نصف ساعة! نخرج فيها لقضاء الحاجة. وليس لدينا كتب أو أية وسيلة تسلية.

"وكنا ننام على "الأبراش" على الأرض، بالرغم من أننا معتقلون سياسيون ولسنا مجرمين أو قتلة"!

هكذا كانت معاملة النظام الناصري لمفكري مصر وعلمائها .. والغريب أن هؤلاء المفكرين والعلماء بالذات هم الذين يسبحون اليوم بحمد النظام الناصري، وهم الذين يساندون الناصريين في فريتهم وأكذوبتهم التي يتظاهرون فيها بالدفاع عن حقوق الإنسان، ليخفوا جرائمهم التي ارتكبوها في حق الإنسان!


26- ضرب سجناء الرأي عرايا كما ولدتهم أمهاتهم (الوفد في 10 / 2 / 1997)

رأينا في مقالنا السابق كيف أن مجرد الاخلاف في الرأي بين عبد الناصر والشيوعيين حول شكل الوحدة المصرية السورية قد دفع عبد الناصر إلى التنكيل بهم! فقد كان الشيوعيون يفضلونها فيدرالية، بينما فضلها عبد الناصر اندماجية! وكان هذا كافياً في نظر عبد الناصر لإذاقة الشيوعيين سوء العذاب! بل من الطريف أنه بعد أن ثبتت صحة وجهة نظر الشيوعيين، وسقطت الوحدة المصرية السورية، أصر عبد الناصر على اعتقال الشيوعيين واستمرار التنكيل بهم، ولم يفرج عنهم إلا بعد سنتنين ونصف! وهو ما يوضح نوعية النظام الذي أسسه عبد الناصر، وبعده عن المبادئ التي كان يرفع شعاراتها ويخدع بها الجماهير المصرية للبقاء في الحكم!

لقد رأينا كيف انتقل الدكتور عبد العظيم أنيس من سجن القلعة يوم 31 مارس 1959 إلى سجن الواحات، حيث عاش مع زملائه في الزنازين طول اليوم، فيما عدا نصف ساعة فقط لقضاء الحاجة، وكيف كانوا ينامون على "الأبراش" على الأرض على الرغم من أنهم معتقلين سياسيين وليسوا مجرمين أو قتلة! وكيف كان طعامهم الوحيد هو العسل الأسود صباحاً ومساءً وكانت وجبة الغداء عي الفول النابت! ورأينا كيف كتب إلى زوجته الصحفية عايدة ثابت يطلب منها أن تقدم لباً لنقابة الصحفيين باسمها واسمه، لطلب إعانة شهرية! بعد أن فصلا من عملهما في جريدة المساء، وتركهما عبد الناصر بلا معين بعد اعتقال الدكتور عبد العظيم أنيس! وسرعان ما أعيد الدكتور عبد العظيم أنيس إلى سجن القلعة لاستجوابه بواسطة النيابة، ومن معتقل القلعة كتب إلى زوجته في مايو 1959 يقول:

"لست أدري كم سأظل هنا، ربما أسبوعاً أو أسبوعين أو أكثر! ولكن يبدو أننا سنعود إلى الواحات مرة أخرى، فهنا لا يوجد غير أربعة عشر معتقلاً، منهم الصديق محمود العالم، وفي الفيوم 400 معتقل، وفي الواحات 200، وفي سجن القناطر حوالي 150 كمال يقال!

"ولقد وقعت في الفيوم حوادث اعتداءات مؤسفة، بالضرب على عدد من المعتقلين، منهم الدكتور فايق فريد والدكتور عبد الرازق حسن"!.

على أن الدكتور أنيس لم يلبث ان نقل من معتقل القلعة إلى سجن مصر في يونيه 1959 بعد أن تقرر تقديمه – مع آخرين – إلى المحاكمة، بتهمة دبرها النظام الناصري، وهي تهمة العمل على قلب نظام الحكم! حيث بقي على ذمة القضية عدة أشهر.

ولم تلبث رحلة السجون والمعتقلات أن قادت الدكتور عبد العظيم أنيس إلى سجن الحضرة بالإسكندرية، وكان معه ستون معتقلاً. وقد فوجئ بأنهم سوف يقدمون للمجلس العسكري وليس إلى محاكمة مدنية! وكتب إلى زوجته من سجن الإسكندرية في أكتوبر 1959 يقول: إنني لا أخفيك تشاؤمي من هيئة المحكمة! فما معنى أن يقدم سياسيون غلى مجلس عسكري يرأسه مدير سلاح المدفعية، إلا إذا كان البطش بهؤلاء السياسيين مقصوداً؟

"وما هي الجريمة التي ارتكبناها والتي تتصل بالناحية العسكرية؟ وأين هو القضاء المدني يا ترى؟ هل هو في إجازة أم ماذا؟".

وهذه القصة التي يرويها الدكتور عبد العظيم أنيس نهديها إلى الناصريين الذين تظاهروا بأنهم قوى المناضلين ضد القانون رقم 93 في العام الماضي – وغن فضحهم تسللهم خفية إلى صدام حسين للحصول على مباركته في عز النضال ضد نظام مبارك! بل إنهم زايدوا على الليبراليين الحقيقيين الممثلين في الوفديين!

على كل حال فقد كان بعد هذه المحاكمة الصورية الهزلية، التي فضحها سجناء الرأي وفضحوا افتعالها، ان قرر عبد الناصر تلقين الشيوعيين درساً لا ينسى!

فقد نقلهم على الفور إلى أوردي أبو زعبل ليكونوا شهوداً على وحشية النظام الناصري وفاشيته، وليسجلوا للتاريخ هذه الفضيحة التي لم يشهدها عصر من عصور مصر على مر التاريخ، فضيحة التعذيب الجماعي لسجناء رأي كانت كل جريمتهم إبداء رأي يخالف رأي النظام الناصري في قضية تتصل بالوحدة والديموقراطية!

ولندع الدكتور عبد العظيم أنيس يسجل هذه الإدانة بنفسه في خطابه إلى زوجته المرجومة السيدة عايدة ثابت من معتقل أوردي أبو زعبل في سبتمبر 1960، وهو وثيقة من أخطر وثائق خكم عبد الناصر، وأكثرها مصداقية، لأنها لم تكتب للنشر حتى يفترض فيها الصد أو الكذب، وإنما كتبت في رسالة خاصة في أعقاب المحنة، ومن نفس مكان الجريمة، وهو معتقل أوردي أبو زعبل، ولم أتدخل فيها بأي شرح أو تفسير أو تلخيص. وتمضي على النحو الآتي:

"زوجتي الحبيبة: هأنذا أرسل لك هذه الرسالة بعد غيبة طويلة منذ أرسلت لك خطابي خلال المحاكمة أيام المجلس العسكري بالإسكندرية في أكتوبر الماضي.

لقد مضى على خطابي هذا نحو عشرة أشهر، اجتزنا فيها تجربة طالت كأنها عشر سنوات! أعني تجربة الأوردي، بما تعنيه من عذاي يومي، وإهدار لآدمية المعتقلين، وعمل كالسخرة في جبل أبو زعبل، ثم قتل أحد من زملائنا!

"إنها – بختصار – تكرار لما صنعته النازية في خصومها السياسيين في معتقلات أوروبا المشهورة، ولم يكن ينقصها لتصبح الصورة مطابقة تماماً، غير غرف الغاز!

"لقد انتهت هذه التجربة الآن، وعدنا إلى آدميتنا! من جديد. ولعلك أدركت من خلال زيارتك لي في الشهور الأخيرة مبلغ السوء الذي وصلت إليه حالتي الصحية، غير اني اليوم أسترد صحتي بالتدريج، فلا تقلقي.

ولكن ما يقض مضجعي حتى اليوم، هو أن شهدي عطية، بمصرعه الفاجع في الأوردي تحت سياط التعذيب، هو وحده الذي فدانا جميعاً! ولولا مصرعه، وما أثار من ضجة خارجية، لاستمر التعذيب حتى اليوم، ولاستطاب كثير من المسئولين هذا الحال!

"ومن قبل قتلوا الدكتور فريد حداد ببساطة، وكأنهم يؤدون عملاً عادياً! وهؤلاء القتلة معروفون، ويعيشون بينكم، لا يعذب أحد منهم ضمير، ولا تمتد إليه يد قانون!

"إن قتلة شهدي عطية وفريد حداد هم: اللواء إسماعيل همت وكيل مصلحة الصجون، والعميد إسماعيل طلعت مدير سجن أبو زعبل، ثم أولاً وأخيراً الضباط: حسن منير، وعبد اللطيف رشدي، ويونس مرعي. هؤلاء الثلاثة هم الجلادون المباشرون، ولكني لا أشك أن وراء هؤلاء يقف رجال المباحث العامة بقيادة حسن المصيلحي ، وبعض رجال الداخلية.

"ولست أستطيع أن أصدق أن المسئولين في مصر، لم يكونوا يعرفون ما يجري في أبو زعبل، خلال الفترة من نوفمبر سنة 1959 إلى يونيو 1960!!

"لا أدري كيف أبدأ في رواية القصة الإجرامية التي وقعت هنا!

"خلال هذه الفترة أرسلت لك عددا من الخطابات بمعرفة إدارة السجن، ولعلك لاحظت أن كل خطاب لم يزد على ثلاثة سطور، أسأل فيها عن أحوالك وأحوال منى ووفاء وإخوتي، وأطلب إرسال بعض النقود. لقد تعمدت هذا لأن الخطابات كتبت خلال أسوأ ظروفن وإبان فترة التعذيب، ولم يكن لدي ما أقوله، أو بمعنى أصيح: لم يكن ممكناً كتابة ما أريد أن أقوله!

"لقد رحلنا من سجن مصر يوم 7 نوفمبر، ولا أدري هل كان لاختيار هذا التاريخ معنى خاص عند رجال المباحث؟ (يوم 7 نوفمبر هو عيد الثورة السوفيتية التي يطلق عليها اسم ثورة أكتوبر 1917، وكان هذا اليوم يوافق يوم 25 أكتوبر في روسيا في ذلك الحين قبل أن تأخذ بالتقويم السائد في العالم الغربي)

"ولكني أعلم أن الإعداد لما كان ينتظرنا في أوردي أبو زعبل، قد بدأ ونحن واقفون في فناء سجن مصر ننتظر الترحيل!

"فقد أخذ مأمور سجن مصر، شوقي القشطة، في استفزازنا بدون مبرر! وكسر بنفسه أشياء كثيرة من لوازمنا المتواضعة التي نحملها من سجن إلى سجن!

"وعندما وصلت العربة التي حشر فيها الواحد والستون، غلى أوردي أبو زعبل، فوجئنا بفرقة من الخيالة على جيادهم، ثم صفين من الجنود يحملون العصى الغليظة، على باب الأوردي وداخله!

"وكانت التعليمات أن ينزل كل واحد منا بسرعة، وأن يخلع ملابسه على باب الأوردي – كل ملابسه حتى يصبح عارياً كما ولدته امه! – وأن يأخذ بسرعة "برشا" وبدلة سجن بيضاء ويهرع إلى العنبر!

"وكان أساس العملية هو المفاجأة الكاملة، وشل الذهن عن التفكير حتى لا يجد إنسان فرصة ليحتج أو يناقض! وبطبيعة الحال لم يستطع معظم المعتقلين أن ينجزوا هذه المهمة في سرعة، وكانت النتيجة أن قام الجنود بضربهم – وهم عرايا! – بالعصى الغليظة، فضلا عن الإهانات اللفظية!

"وكانت مهزلة، وما أبشعها من مهزلة!

"ومع ذلك فإن حفلة الاستقبال كما واجهناها، لم تكن شيئاً بالمقارنة بـ "حفلة الاستقبال" التي أعدت لدفعة شهدي عطية في يوين الماضي، والتي مات فيها هذا الصديق العزيز، فضلا عن الزملاء الآخرين الذين ظلوا في حالة خطرة لعدة أيام بعد ذلك!

"وفي اليوم التاي لوصولنا، بدأ روتين الحياة المعدة لنا: نقوم في الصباح، ونذهب في طابور غلى جبل أبو زعبل لتكسير الأحجار – ويستمر العمل حتى الظهر، حيث نعود إلى الأوردي، ويقفل العنبر. والطعام الذي يقدم لنا هو أسوأ ما يتصوره إنسان في حياته! عسل أسود في الصباح، فول نابت في الظهر، ثم خضار لا طعم له، وقطعة لحم تثير القرف في المساء!

"وخلال كل يوم تقريبا، ينتقى عدد من المعتقلين لاستفزازهم وضربهم ضرباً مبرحاً، ووضععهم في زنزانة انفرادية، مغطاة بالماء البارد! وبلا أغطية لمدة يومين أو ثلاثة!

"وكثيراً ما يفتح العنبر في الصباح، أو بعد الظهر، وفجأة تدخل فرقة من الجنود، بحجة تفتيش العنبر، وكان علينا ان ندير وجوهنا إلى الحائط أثناء التفتيش، ثم في ختامه كان علينا أن نحني ظهورنا كأننا راكعون في صلاة، ثم يدور كل واحد منا حل نفسه مرات ومرات، حتى أمر الضابط بالتوقف! وبالطبع خلال هذه العملية الهزلية، يضرب الجنود عددا من المعتقلين كيفما اتفق! إنها عملية تثير الضحك، وحتى الآن لم أفهم المقصود من هذه التعليمات!

"كان الجو الظاهري أننا نعيش في أبو زعبل حياة عسكرية، والجو الحقيقي المقصود هو التنكيل"!


27- إنسانية عبد الناصر : قتل المعتقلين وتشريد الزوجات ! (الوفد في 17 / 2 / 1997)

في مقالنا السابق كنا نتابع التجربة البشعة التي عاشها أستاذ جامعي مرموق ومفكر كبير هو الدكتور عبد العظيم أنيس في معتقلات عبد الناصر، واقتياده من بيته بليل إلى معتقل القلعة، ليقوم بسياحة طويلة بين معتقل القلعة وسجن الواحات وسجن مصر وسجن الحضرة ثم إلى معتقل أوردي أبو زعبل، وهو يتعرض بينها للضرب والإهانات والتعذيب، لمجرد أنه اختلف وزملائه من سجناء الرأي مع عبد الناصر حول شكل الوحدة المصرية السورية وحول الديموقراطية! وليس لأنهم لم يكونوا يعترفون بنظام عبد الناصر أو أنهم كانوا يتآمرون لإسقاطه! فلم يكفوا في كل مراحل اعتقالهم وتعذيبهم عن إعلان تمسكهم بنظام عبد الناصر! بل إن فريقاً منهم، وعلى رأسه شهدي عطية، لم يكونوا يخفون تأييدهم شبه المطلق لسياسة عبد الناصر آنذاك، ولم ينقذه ذلك من التعذيب والضرب حتى فاضت أنفاسه!

وكان الدكتور عبد العظيم أنيس قد روى في خطابه لحرمه المرحومة عايدة ثابت تجربة الأوردي، وحفل الاستقبال الذي أعد له ولزملائه الواحد والستين، ويف طُلب غليهم خلع ملابسهم كما ولدتهم أمهاتهم، وضربهم عرايا! ثم أخذوا ينخرطون في روتين الحياة التي أعدت لهم: وهو القيام صباحاً، والذهاب في طابور إلى جبل أبو زعبل لتكسير الأحجار، حتى العودة إلى العنبر الذي يقفل عليهم إلى صباح اليوم التالي، ليفاجئوا في االصباح بفرقة من الجنود تقتحم عليهم العنبر بحجة التفتيش، وتطلب إليهم إحناء ظهورهم في وضع الركوع، والدوران حول أنفسهم على هذا الوضع بينما الهراوات تهوي على ظهورهم كيفما اتفق!

ويمضي الدكتور عبد العظيم أنيس في روايته لزوجته على النحو الآتي:

"ما زلت أذكر أننا خرجنا مرة لطابور "رياضة"! وخلال هذا الطابور طلب منا حسن منير (مأمور الأوردي) أن نهتف باسم عبد الناصر، وأن نغني أناشيد وطنية! فلما اعترض الدكتور إسماعيل صبري عبد الله قائلاً: إننا لا نفعل هذا بناء على أوامر! انهالوا عليه بالعصي، حتى فتحت رأسه!

"وبطبيعة الحال كان لابد أن يأتي دوري ودور محمود أمين العالم!

" وفي المرة الأولى، عندما رفعت صوتي مبدياً ملاحظات متواضعة على بعض ما يحدث، أخذت أنا وزميل آخر إلى الغرفة الانفرادية! وبقينا هناك حتى جاء حسن منير مأمور الأوردي، فإذا به يعيدنا دون عقاب! وكان لهذا الموقف فرحة وأية فرحة في كل العنبر، فقد بدا وكأنه نصر لنا!

"وفي المرة الثانية لاحتجاجي، أخذنا إلى جبل أبو زعبل! وبدأ العدوان عليّ بشكل مكثف، على يد فرقة من الجنود، يقودها الصول مطاوع. واستمر الحال على ذلك حتى أغمي عليّ من شدة الضرب!

"وحملني زملائي على أكتافهم وأنا في شبه غيبوبة، إلى العنبر. ثم نقلت إلى غرفة "الملاحظة الفردية" المخصصة للمرضى. وبقيت بها عشرة أيام بين الحياة والموت في الأيام الأولى!

"ولقد كان من حسن حظي أن الطبيب الذي جاء لعيادتي كان زميلاً لي في المدرسة الثانوية. وهالته حالتي في اليوم الأول، حتى اغرورقت عيناه بالدموع تأثراً. وظل يواظب يومياً على التردد علي مرتين، ويحضر لي أدوية خاصة من عنده، حتى اطمئن على حالتي.

"وبطبيعة الحال، لم تكن الإدارة تدري أن الطبيب زميل سابق لي في الدراسة، وأن هذا هو مصدر اهتمامه الكبير بي. وأحيانا كثيرة أحس أنني مدين بحياتي لهذا الرجل النبيل.

"لن أطيل عليك أكثر من هذا، يكفي أن اقول لك إن مبررات هذه المعاملة الوحشية – التي قيلت آنذاك على لسان بعض الضباط – هو موقف الزملاء الجريء أثناء المحاكمة بالإسكندرية! فنحن – كمجموعة – لم نخف انتقادنا السياسي للحكومة ولسياسة عبد الناصر في قضيتي الوحدة والديموقراطية.

"ولكنني لا أستطيع قبول هذ التبرير بسهولة! لأن قضية شهدي عطية (وكان المعروف أن زملاء هذه القضية – على عكسنا – لا يخفون تأييدهم شبه المطلق لسياسة عبد الناصر آنذاك) قد لقوا على باب الأوردي استقبالاً أتعس بكثير من استقبالنا! وأن شهدي نفسه قد ضرب حتى الموت!

"ولقد كنا داخل عنابرنا عندما وصلت دفعة شهدي، وبطبيعة الحال لم نر شيئاً يذكر بأعيننا، ولكننا سمعنا كل شيء!

"فقد كان المطلوب من كل واحد منهم أن يهتف بسقوط الشيوعية، وأن يذكر اسمه بصوت عال، وأن يقول: "أنا مرة!" .. إلى آخره، وعندما رفض شهدي وآخرون كثيرون، تنفيذ هذه التعليمات المخزية، انهالوا على رأسه بالضرب حتى الموت!

"ويبدو أن موت شهدي كان مفاجأة لإسماعيل همت وحسن منير والآخرين، وإذا بهمت يستقل سيارته ويمضي هارباً إلى القاهرة! وإذا بحسن منير يضع الجبس على ذراعه مدعياً – أمام النيابة – أن المعتقلين هجموا عليه وضربوه وكسروا ذراعه، وأنه وجنوده كانوا يدافعون عن أنفسهم"!

"وبعد وفاة شهدي، وما أحدثته من ضجة، جاءت النيابة بأعداد كبيرة، وتولت التحقيق صباحاً ومساءً. وفجأة تغير جو المعتقل تماماً! وقد طلبت أنا والدكتور إسماعيل صبري عبد الله سماع أقوالنا في مقتل شهدي عطية، وأجابت النيابة طلبنا. وكان منظراً مخزياً للضابط حسن منير عندما أتوا به لتقوم النيابة بتجربة التعرف على صوته وأنا داخل العنبر، كما ذكرت في التحقيق.

"لقد رأيته كالفار المتهالك، ولم يجرؤ على أن ينظر إلي، بل كان مطرقاً برأسه إلى الأرض طول الوقت. وقد وضعتني النيابة فيغرفة مقفلة، وطلبت منه ومن ضباط آخرين ان يرفعوا أصواتهم بجمل من التي كانوا يقولونها للمعتقلين في "حفلة الاستقبال"! وفي كل مرة تعرفت على صوته في يسر دون أن أراه. وبطبيعة الحال نقل حسن منير في اليوم التالي لوفاة شهدي عطية حتى لا يفتك به المعتقلون.

"إن الضجة التي حدثت عند وفاة شهدي كانت أمراً طبيعياً، ولكن الغريب أن الدكتور فريد حداد قد قتل داخل الأوردي قبل شهدي عطية بشهور، ولم تحدث وفاته ضجة ما!

"إنك تذكرين – بالطبع – الدكتور فريد حداد، هذا الطبيب الشهم، الذي تولى علاجي وعلاجك وعلاج عمتك قبل اعتقالي أكثر من مرة. كم كان وديعاً، طيب القلب، عظيم الإنسانية! تستطيعين أن تتصوري صدمتي عندما أخرجنا من العنبر ذات يوم عند الغروب، لاستلام طعامنا – ونحن نجري – كالعادة.

ولمحت أمام الزنزانة الانفرادية رجلاً في ملابس السجن ملقى على الأرض، وهو يبدو في حالة إغماء! لم أتيقن في أول الأمر من هو هذا الإنسان، وإن كنت واثقاً انني أعرفه. ثم بدأت أعي أن هذا هو فريد حداد!

"ومع ذلك لم أتيقن آنذاك إن كان مات عندما رأيته أو أنه مغمي عليه فحسب. فلما سمعنا في اليوم التالي أن أحد المعتقلين قد مات، كانت الصدمة بالنسبة لي فظيعة! وبقيت حالتي النفسية سيئة عدة أيام.

"ولست أشك لحظة أن يونس مرعي هو المسئول عن قتل فريد حداد، فقد كان الضابط الوحيد الموجود بالأوردي عصر ذلك اليوم! وقد سمعنا – ونحن في العنبر – صوته وهو يعتدي بالضرب على قادم جديد لم نكن نعرف من هو!

"إلى جانب هذا القتل والتعذيب، ساءت أحوال المعتقلين الصحية، بسبب سوء التغذية. وكثيرون مرضوا وأوشكوا على الموت بسبب انتشار الأمراض! ولم يتحرك أحد رغم كل هذا!

"لقد عشان في حالة مجاعة كاملة لمدة ثمانية شهور، لا يعطونا إلا ما يكفي للإبقاء علينا على قيد الحياة فحسب! "أما مهانات العمل في جبل أبو زعبل، فهي عديدة: صفوة من مثقفي مصر، مثل الدكتور لويس عوض، والدكتور عبد الرازق حسن، والكاتب المسرحي ألفريد فرج، والرسام حسن فؤاد، والناقد محمود أمين العالم، والدكتور فؤاد مرسي، والدكتور فوزي منصور، والدكتور إسماعيل صبري عبد الله ، إلى آخره، وغيرهم كثيرون، يساقون كل يوم إلى الجبل، حفاة شبه عراة، في أقسى أيام الشتاء، لكسر حجارة أبو زعبل! بالإضافة إلى عشرات من القادة النقابيين وقيادات الطلاب!

"ومع ذلك، يجب أن أقول إننا تعلمنا حرفة مفيدة! وإنني في نهاية الأمر أجدت قطع الأحجار إلى قطع صغيرة – كما كان مطلوباً – لرصف الشوارع. وكنت أحيانا أقول ضاحكاً "صنعة في اليد أمان من الفقر"!

"لقد انتهت هذه المرحلة بكل ما فيها من مهانات وتعذيب، وإذا كنت قد صممت على كتابتها لك، فلكِ أن تعرفي كيف وصل الحال في مصر في معاملة المعتقلين السياسيين!! وكيف كان عليّ – أنا وزملائي – أن نتحمل هذه التجربة البشعة، في صبر وتماسك! وأحمد الله على أن كل هذا قد انتهى، وأرجو أن يكون إلى غير رجعة!

"ولكني أظل أفكر في شهدي وفريد كثيراً، وأفكر في زوجتيهما وأولادهما!

"ما أعظمها من خسارة، وما أروعه من مثل!".


على كل حال فلم تلبث وجهة نظر الشيوعيين الذين سجنوا وعذبوا وقتلوا من أجلها، أن بانت صحتها عندما وقع الانفصال في سوريا، وقضت ثورة يوليو على الوحدة الثانية بعد وحدة مصر والسودان، بسوء سياستها ودكتاتوريتها وحكمها العسكري!

وبدلا من أن يعترف عبد الناصر بخطئه، ويفرج عن سجناء الرأي، خرج محمد حسنين هيكل بمقال في ملحق الأهرام يوم 2/3/1962 تحت عنوان: "تيار التاريخ لم يتوقف"، ينسب فيه أسباب الانفصال إلى عدم اتصال الإقليمين جغرافياً، وعدم نضج الوطنية المحلية، وقوة مركز الإقطاعيين والرأسماليين في سوريا!

وقد وصف الدكتور عبد العظيم أنيس هذا المقال بـ "التخلف والانعزالية على أقل تقدير" لأنه تجاهل السبب الرئيسي للانفصال، وهو تصدع الجبهة الوطنية في سوريا إثر الوحدة بسبب الدكتاتورية، وتحول هذه القوة – التي حمت استقلال سوريا – بعضها ضد بعض"، و "أخطاء وجرائم الأجهزة البوليسية وتضييق الخناق، وكبت آراء الناس، ومأساة الديموقراطية في سوريا"!

ونسي الدكتور عبد العظيم أنيس أن يقول إن اعتراف عبد الناصر بصحة وجهة نظر الشيوعيين في الوحدة السورية والديموقراطية يتطلب بالضرورة إطلاق سراحهم. ولم يكن هذا في نية عبد الناصر، فقد حدث الانفصال السوري في سبتمبر 1961، وأبقى عبد الناصر سجناء الرأي في المعتقلات إلى إبريل 1964!

وفي أثناء مدة الاعتقال التي استمرت خمس سنوات تقريباً (يناير 1959 – إبريل 1964) ظهرت إنسانية نظام عبد الناصر في أنه ترك أُسر سجناء الرأي بدون أي مورد رزق يعتمدون عليه! لقد ترك هذه الأسر لأهل الصدقة، بعد أن كانوا يعيشون أعزة، الأمر الذي ندرك أثره في هذا الخطاب المؤثر للدكتور عبد العظيم أنيس لزوجته يوم 17/7/1963، بعد أول زيارة سمح بها هذا النظام الفاشي للمرحومة عايدة ثابت لزيارته، وكانت هذه أول مرة يراها منذ أربع سنوات ونص. فقد كتب يقول:

ينبغي أن أعترف لك أنني فزعت من حالتك الصحية! ولقد دهش الكثيرون أيضاً عند رؤيتك، وإن تجنبوا قول ذلك لك خوفاً من إفزاعك! ولقد ساءني أنك أخفيت عليّ ظروف مرضك وترددك على الأطباء! لا أخفي عليك قلقي الشديد من حالتك الصحية، ومازلت ألح على أخي محمد (الدكتور محمد أنيس) أن يتدخل في هذا الموضوع فوراً، ويبحث إمكانية تعيينك في أية صحيفة أو مجلة بشكل دائم، وأنا أعرف أنه ليس بالرجل ذي النفوذ الكبير. إن بقاء وضعك في هذه الحالة بلا عمل ثابت، هو جرح عميق ينزف في قلبي!".

وفي يوم 19 يونيه 1963 كتب الدكتور عبد العظيم أنيس إلي زوجته من معتقل الواحات يقول: "علمت أن هيئة عالمية تختص بالدفاع عن حقوق الإنسان، قد أرسلت خطاباً إلى المسئولين في مصر بخصوصي، وهي تسأل: لماذا لم يفرج عني ما دامت المحاكمة العسكرية قد حكمت ببراءتي؟ وقال الخطاب: إن الشعب البريطاني يعرفني كوطني مصري دافع عن مصر وتأميم القناة، وهاجم حكومة أيدن بشدة أيام العدوان. وإنه لمما يأسف له الرأي البريطاني أن يعرف أن هذا هو مصير الذين يدافعون عن بلادهم"!

والغريب أن كل هذا كان يحدث في مصر، في الوقت الذي كان النظام الناصري يضلل العالم الاشتراكي، ويوهمه بأنه نظام اشتراكي تقدمي! والأغرب من ذلك أن هؤلاء الذين اكتووا بنظام عبد الناصر أكثر مما اكتوى أحد آخر، وتلقوا الإهانات والتنكيل والتعذيب، وضربوا عرايا كما ولدتهم أمهاتهم، هم اليوم أقوى المدافعين عن هذا النظام!

ولو تخلى اليسار المصري عن مجموعة النصابين الذين يتاجرون بقميص عبد الناصر لحساب الأنظمة الفاشية العربية في المنطقة، لسقط هؤلاء النصابون التجار في الهوة التي خرجوا منها والتي تليق بهم، ولكن اليسار المصري يأبى إلا الإصرار على خطأ رؤيته للنظام الناصري.

فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا غفر الله للمركيز دي ساد!


28- وقتلوا شهدي عطية ! (الوفد في 24 / 2 / 1997)

في كتاب الدكتور رفعت السيد الصادر عام 1984 بعنوان: "الجريمة، وقائع التحقيق في اغتيال شهدي عطية"، قدم دراسة عن أنواع التعذيب التي شهدها المجتمع البشري منذ نشأته حتى اليوم، فأورد سببا لكل نوع من أنواع التعذيب، إلى أن وصل إلى التعذيب الذي حدث لسجناء الرأي في ليمان أوردي أبو زعبل، فاعترف بأن سببه يعد أغرب الأسباب في التاريخ، لأنه – ببساطة شديدة – بدون سبب!

فقد كتب يقول: "شهدت مصر عبر عصورها الممتدة في ظلال الأزمنة الرديئة أنواعاً غريبة من تجبر الحكام، ومن تسلطهم على الرعايا، وأنواعا أغرب من انتهاك حرمة الإنسان وحريته وجسده، أنواعاً اختفت من ذاكرة الناس بمضي الزمن، مثل" التوسيط – أي الضرب بالسيف في الوسط – بلغة عصر المماليك، والتعصير (أن عصر جسد الإنسان داخل معصرة!)، وتعصير الأكعاب، وتقطيع الأعضاء، والتعطيش (بأن يعطي الإنسان ماء الجير المملح، ثم يترك بلا ماء حتى يجف جلده، ويتشقق، ثم يبدءون في تقطيع جلده الجاف بمنشار!) كما وصفت لنا كتب التاريخ رءوساً محشوة بالتبن، وأجساداً مسمرة بالمسامير على الجدران!

ولكن كان هناك دائماً سبب لكل جريمة من جرائم التعذيب، صحيح أنه سبب غير مقبول وغير مبرر ولكنه سبب على أية حال! ومن هذه الأسباب: "التقرير"، أي تعذيب السجين كي "يقر" بما هو مطلوب منه – أي يعترف بلغة عصرنا.

وهناك "الانتقام" من الخصوم، وهناك "إقامة الحد"، وهناك العقاب على جريمة ارتكبت، او إبعاداً لخصم من ساحة المنافسة.

لكن الذي يتفوق في بشاعته على ذلك كله – كما يقول الدكتور رفعت السعيد – هو ذلك النوع من التعذيب الذي لم تعرف له مصر مثيلاً، لا من قبل ولا من بعد، وهو المتجسد في "مأساة أوردي أبو زعبل"!

"وإذا كان غريباً أن يتواجد هذا النوع من التعذيب المكثف، والمستمر لفترة طويلة، فإن الأغرب هو أن يقع كل ذلك الإثم بلا مبرر حقيقي!

"هل سمع أحدكم بهواية "التعذيب من أجل التعذيب"؟

"إنه التعذيب بغير منطق إلا منطق التسلط! وبغير هدف إلا التشفي من الخصم!

"ولقد تعرض شهدي عطية ورفاقه لتعذيب من هذا النوع .. لا يمتلك أي منطق غير التشفي! "فشهدي ورفاقه لم يكن مطلوباً "تقريرهم" – بلغة عصر المماليك – أي لم يكن مطلوباً إجبارهم على الإدلاء بأية اعترافات، فقد تم التحقيق معهم، وتمت محاكمتهم أمام محكمة عسكرية يرأسها قائد سلاح المدفعية. "كما أنه هو ورفاقه كانوا يؤيدون الحاكم في كثير من خطواته ومواقفه، ولكنهم فقط أصروا على حقهم في الاحتفاظ بحزب مستقل، وامتلكوا انتقادات أساسها افتقاد الحرية للمواطنين"!

ثم يصف الدكتور رفعت السعيد ما حدث في أوردي أبو زعبل بأنه "إجرام منظم"!

وأنه "يثير من التقزز أكثر مما يثير الدهشة! وأنه بشع إلى درجة لا تحتمل"! ويدعو القارئ أن يتحمل معه ألم متابعة أحداث الجريمة التي تمت، من أجل أن يعرف كم هي عزيزة تلك الحرية التي ندافع عنها، وكم من الثمن ندفع عندما نفقدها، ولكي يتحصن ضد الخوف، ويتعلم أن الحرية لا يمكن تجزئتها، ومن أجل ألا تتكرر المأساة لأي سبب، وتحت أية حجة، وخلف أي ستار"!

ويورد الدكتور رفعت السعيد النعي الشجاع الذي نشرته الأهرام يوم 20 يونيو 1960، والذي أنقذ حياة سجناء الرأي بعد تعذيب جماعي لم يشهده عصر من عصور الهمجية في المشرق أو المغرب، "تعذيب جماعي" استمر من نوفمبر 1959 إلى يونيو 1960، ليكون شاهداً على فاشية النظام الناصري.

ويمضي النعي على النحو الآتي:

"عطية الشافعي وأسرته ينعون، بعد أن واروا عزيزهم فخر الشباب الأستاذ شهدي عطية، مقره الأخير. ويقولون لمن واساهم فيه:

"لن نشكركم، فالشكر لكم في هذا الموقف نكران لوفائكم، وشهدي وذكراه ملك لكم وأمانة في ضمائركم.

"أما أنت يا عزيزنا الغائب، فإننا نرثيك بهذا:

فتى مات بعد الطعن والضرب ميتة
تقوم مقام النصر إن فاته الناصر
تردى ثياب الموت حمرا، فما دجى
لها الليل إلا وهي من سندس خضر
وقد كان موت الموت سهلاً، فرده
إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف العار حتى كأنما
هو الكفر يوم الروع أودونه الكفر"!

كان هذا النعي البارع الذي نشرته السيدة راوية شهدي بتريد يس بشجاعة في جريدة الأهرام، هو الذي أنقذ حياة سجناء الرأي وأعفاهم من التعذيب أربع سنوات أخرى. فقد سبق مصرع شهدي عطية ببضعة شهور مصرع الدكتور فريد حداد في تشريفة إبريل في نفس أوردي أبو زعبل، ولم تحدث وفاته ضجة ما، لأن خبر وفاته لم يظهر خارج الليمان، ولم تتمكن زوجته من نشر هذا الخبر في جريدة من الجرائد، فبقي في طي الكتمان، ولكن نجاح زوجة شهدي عطية في نشر خبر مصرعه، مع شهرة شهدي في العالم الاشتراكي، أحدث فضيحة كبيرة للنظام الناصري، ومما زاد في حجم الفضيحة أن عبد الناصر وقتذاك كان في زيارة لليونان ويوغوسلافيا، فتعرى أمام النظام الاشتراكي.

ولذلك يقول حسن المصيلحي ، مهندس التعذيب الذي أفلت من العقاب، في كتابه الذي أصدره عام 1979 تحت عنوان: "قصتي مع الشيوعية"، أنه عند عودة الرئيس عبد الناصر ومعه وزير الداخلية في اليوم الرابع لمصرع شهدي عطية، صدر الأمر بإحالة اللواءين مدير مصلحة السجون ووكيل المصلحة إلى التقاعد. وتولت النيابة والداخلية التحقيق. وكان نصيب المصيلحي فيما بعد النقل إلى مصلحة الجوازات، وهرب بعد ذلك إلى جنيف!

ويسجل الدكتور رفعت السعيد بعد ذلك شهادات سجناء الرأي من واقع محاضر تحقيق النيابة الرسمية، على النحو الآتي:

شهادة الشاعر إبراهيم عبد الحليم، مدير دار الفكر وعضو جمعية الأدباء:

"اللي حصل أننا قضينا أربع شهور في المحاكمة، وكلنا أعلنا أننا نؤيد الرئيس جمال عبد الناصر تأييداً كاملاً، وبالذات شهدي عطية الشافعي ، الذي كان المتهم الأول في هذه القضية. وقد ألقى أربع كلمات أمام المحكمة في هذا المعنى.

"وبعد انتهاء المحاكمة، صدر أمر بترحيلنا إلى أبو زعبل يوم الأربعاء الصبح بدري، وكنت مع شهدي في نفس العربة، وكان في أحسن صحة.

"ونزلونا، ورصونا على الأرض، ووشنا في الأرض واحنا قاعدين!

"واشتغلت عملية الضرب والشتيمة! وبعدها بدأوا يجرونا – ثلاثة ثلاثة – نحو الأوردي، وخلفنا الضابط مرجان، وضابط بشنب يركب حصان، وعساكر كانوا يقومون بالضرب!

"وعندما وصلنا، كان هناك شخص يكتب الأسماء، وأثناء الكتابة كان الضرب شغال! وكان خلع الملابس بالضرب! والحلاقة بالضرب! وكان في الحتة دي الضابط يونس مرعي!

"وبعدين جروني على ظهري على الأرض، وأنا عريان! لغاية الباب، وتولى الضابط عبد اللطيف رشدي عملية الإجهاز الأخيرة: كل واحد يضرب على وشي، والعساكر تضرب بالعصي، وضربني على صدري بالحذاء! وبعدها رحت العنبر، وقام الصول بضربي!

"وأنا كنت في الترتيب بعد شهدي بحوالي صفين، ونادوا على شهدي وضربوه، ومقدرتش أشوف لأني وشي كان في الأرض، وماشفتش مين اللي ضربه، إنما لازم مر بمراحل الضرب اللي أنا مريت بيها، لكن هم كانوا متوصين بيه! لأه المتهم الأول في القضية ومشهور!".

وجاء دور سعد الدين عبد المتعال، وهو مدير نشر، ليدلي بشهادته على النحو الآتي:

"وصلنا الصبح بدري يوم الأربعاء، ونزلنا من العربة، وقعدونا، ورصونا واحنا قاعدين، وخلونا باصين في الأرض!

ووقفوا يضربونا بالعصى الغليظة على ظهورنا! واستمر الضرب فغترة طويل. وصفونا ثلاثات، ووراء كل ثلاثة منا حصان عليه ضابط، وعساكر تضرب بالعصي!

"وعندما يصل الثلاثة للأوردي، يتم ضربهم أمام الباب وداخل الباب!

"وكان معي شهدي، ونور سليمان. وقال ضابط لا أعرفه: فين شهدي؟ فرد قائلاًك أنا يافندم! فضربه هو واللي راكب الحصان، "وبعد كده ماشفتوش!

"واستمريت أجري، تحت الضرب! حتى وصلت قرب الباب، وهناك كان الضابط يونس مرعي، فضربني بالشومة أنا والاثنين اللذين معي!

"وبعد أن حلقت، جروني على الأرض، وأدخلوني عند ضابط اسمه عبد اللطيف رشدي، فضربني علقة بمعرفته! وأدخلوني العنبر.

س – من الذي اعتدى على شهدي وهو بالصف؟
جـ - معرفش
س- من الذي ضربه بعد ذلك؟
جـ- هو كان ورايا، ولازم اللي ضربوني ضربوه".

واستدعى عثمان للشهادة، وسئل عما حدث، وأجاب كالآتي:

"نزلنا من العربات، بعيداً عن الأوردي، وقعدونا على الأرض مدة ساعتين، وأثناء ذلك كان فيه ضرب! وماكناش نقدر نرفع وشنا!

"واحنا قاعدين، واحد ضرب شهدي عطية عدة مرات على رأسه، وهو يقول له: وطي! وسمعت واحد يقول له: كفاية كده يا مرجان بك!

"وبعدين جريت مع الثلاثة بتوعي، والضرب شغال! حتى وصلت إلى كتابة الأسماء!

"وكانت كتابة الأسماء بالضرب! والحلاقة بالضرب! وقلع الهدوم بالضرب! حتى إذا ما وصلت مابقتش عارف أمشي!

"وواحد ضابط وقعني في قناية قدام السجن، وحط رأسي في الماية عدة مرات! وكان قاعد قصادي اللواء همت، ومعه جماعة لا أعرفهم.

"وبعدين سحبونا على الأرض حتى داخل الباب، فاستلمني ضابط اسمه عبد اللطيف رشدي، وطلب مني أن أقول: أنا امرأة!

"وضربني بقسوة على ظهري، وأنا بزعق! وضربني بالجزمة!

"ورحت العنبر، وكان فيه صول ضربني ودخلت!".

س- من شاهدته يعتدي على شهدي؟
جـ- قدامي واحنا قاعدين ضربه مرجان! وواحد اسمه صلاح طه نادى على شهدي وقال: تعال! وأول ما وقف استلموه بالشوم! وأنا كنت من الناس اللي بعده.
س- هل وقع عليكم الكشف الطبي؟
ج- واحد دكتور أسمر جاء يكشف علينا، وماكشفش علينا! وماشفش الإصابات! ولكن حول أربعة كانوا فاقدين الوعي إلى المستشفى! وكان العساكر يضربوننا أمامه في العنبر!".


29- والضرب بالشوم " لفتح الشهية " ! (الوفد في 3 مارس 1997)

عرضنا في المقال السابق أقوال بعض سجناء الرأي الذين خاضوا تجربة أوردي أبو زعبل الوحشية، ورأينا مدى احترام النظام الناصري للمثقفين والمفكرين والأدبار والكتاب والعلماء، وكيف استخدم زبانيته في ضربهم بالأحذية لتأديبهم، لمجرد خلافهم في الرأي مع عبد الناصر حول الديموقراطية والوحدة المصرية السورية، وليس لأنهم نآمروا لإسقاط النظام!

ونواصل في هذا المقال تسجيل اعترافات هؤلاء السجناء، من واقع تحقيقات النيابة الرسمية، التي اضطر عبد الناصر إلى الأمر بإجرائها بعد الفضيحة التي تعرض لها عقب نشر نعي شهدي عطية الشافعي في الصحف، وقد أوردها الدكتور رفعت السعيد في كتابه "الجريمة، وقائع التحقيق في اغتيال شهدي عطية".

وفيما يلي أقوال جمال الدين محمد غالي ، وهو دكتور كيماوي، وكان مصاباً:

"احنا ركبنا اللوريان من إسكندرية بالليل، لكي ترحلنا إلى ليمان أبو زعبل. وقد وصلنا في الساعة الخامسة صباحاً، ونزلنا من اللوريات، فقعدونا أربع طوابير، على أطراف الأرجل، ورءوسنا في الأرض، ! وبقينا على الحالة دي حوالي ساعة ونصف.

"ثم جاء واحد من حضرات الضباط أعرف شكله، وقال لي: انت عارف الحتة دي؟ قلت: دا الأوردي! قال: أما حربيك هنا! وانهال عليّ بالضرب بعصا على ظهري، وسبني.

"ثم أمسك من بجواري في الطابور، وهو أحمد خضر، وضربه أيضاً!

"وبعد ما انضربنا، ومضت مدة حوالي نصف ساعة، خلونا طوابير: ثلاثة ثلاثة، وجاء الدور على الثلاثة اللي أنا فيهم، فأوقفوا وراءنا عساكر معهم عصي، والوا لنا: اجروا! فجرينا والعساكر اللي وراءنا يضربونا! وكان هناك ثلاثة مجاميع عساكير نمر عليهم، فأول ما نوصل يضربونا! واللي يقع يضربوه على رأسه! لغاية ما وصلنا الأوردي.

"وهناك عند الباب كان فيه واحد بيكتب الأسمار، فكنا نملي أسمائنا والضرب شغال بالشلاليت!

"وبعدين قدمونا للحلاقة، وأثناء الحلاقة ضرب بالأقلام"!

"وبينما كنت أدور وشي، شفت السيد وكيل السجون اللواء إسماعيل همت ، والقائمقام الحلواني مأمور سجن الحضرة بالإسكندرية، وكان حصر معنا من الإسكندرية.

"وبعد بدأ قلع الهدوم! وأخذ الضرب ينهال علينا ونحن قالعين ملط"!
"وهنا دخت، وجالي اضطراب، فقالوا لي: اقف وامشي! وقابلني صول ضربني، وقال لي: اجري!

"فدخلت عنبر، وجت واقع جوه العنبر. وجاء عسكري صغير معاه عصاية، وقال لي: البس الهدوم دي. وبعد شوية جه واحد عسكري تمرجي، وحط صبغة يود على الجرح. وبعد شوية مر واحد دكتور، شاف الناس التعبانين خالص وأمر بنقلهم إلى المستشفى، فوجدت الثلاثة: مبارك ونور ومحمد عباس، وكانوا مضروبين أكثر مني! وبعدين ادونا علاج"

س- بأي شيء وقع عليكم الاعتداء!

جـ- شوم، وكرابيج، وعصي، وأفراع شجر، وجريد!

س- ما سبب الاعتداء عليكم؟

جـ- معرفش ليه! سمعنا في الإسكندرية بعد المحاكمة أنه عندما نصل إلى الأوردي حنضرب علقة!
فطلبنا من المحكمة في آخر الجلسة أنها تحافظ علينا لغاية صدور الأحكام. واحنا كلنا قررنا في المحكمة وأثناء الجلسة أننا مؤيدين للرئيس جمال عبد الناصر!
س- هل كان شهدي عطية بسيارتك؟ وما الحالة الت كان عليها؟ وهل وقع عليه اعتداء؟
جـ- أيوه وكان كويس جدا، وهو كان عليه الدور بعدي، وأنا كنت دايخ في العنبر، والناس اللي وصلوا بعدي سمعتهم يقولون إن شهدي اتبهدل من الضرب، وهو رجل كبير في السن مش زينا، ما يتحملش!

ثم جاء دور محمد عباس فهمي، بدار الفكر للترجمة والنشر، وأدلى بأقواله على النحو الآتي:

"ركبنا العربات من الإسكندرية ووصلنا الصبح بدري يوم الأربعاء، والقوة اللي كانت جايبانا انصرفت.

"وبعدين قعدونا على الأرض فترة طويلة، وكان فيه عساكر ماسكين شوم، وواحد ضابط راكب حصان، وأخذوا يضربونا واحنا قاعدين، وهم يقولون: دي لفتح الشهية! ومقدرتش أشوف الضباط دول لأن وشنا كان في الأرض!

"وقفنا ثلاثة ووشنا في الأرض. وطلبوا منا أن نجري، وطول السكة كانت عساكر تجري ورانا، ويضربونا، وفي السكة أيضاً كان هناك عساكر يضربونا كل ما نفوت عليهم! لغاية ما وصلنا الأوردي.

"وبعدين أخذونا إلى ترابيزة عليها واحد بيكتب الأسماء، وهنا ضربني واحد عسكري بالقلم، وواحد تاني ضربني بشومة.

"وبعدين رحت عند حلاق، وكان فيه ضرب أيضاً!

"وبجوار الباب كان الضابط يونس مرعي واقفاً، فخلاني نمت على الأرض، ووشي على الأرض واثنين عساكر جروني لغاية جوة!

"واستقبلني الضابط عبد اللطيف رشدي، وضربني بالبوكس في وجهي وظهري وقلبي ورقبتي. وغالبا الإصابة اللي في رقبتي من هذا الضابط.

"وبعدين قالوا لي: قوم على العنبر. وهناك قابلني واحد صول، ونزل فيا ضرب!

"وبعد شويه جه الدكتور للكشف علينا، فأنا وقعت وأغمي عليّ، ونقلني للمستشفى!

س- هل شاهدت اعتداء وقع على شهدي؟

جـ- هو كان في الدفعة اللي قدامي، وواحد ضابط جاء وقال: فين شهدي عطية؟ ونزلوا عليه ضرب! وماقدرتش أرفع وشي من على الأرض علشان أبص! وبعدين قام في الدور بتاعه، وماعرفتش ايه اللي حصل له!". ثم جاء دور المناضل مبارك عبده فضلأ، من مكتش الثقافة والنشر العمالية، وأدلى بمعلوماته كالآتي:

"اللي حصل هو أنني جئت مع زملائي ووصلنا لغاية أوردي أبو زعبل، ونزلنا بعيد عن السجن، ثم مشيت القوة اللي جابتنا، وقعدونا مع الشتيمة!

"وكان في تقريبا ثلاثة ضباط: واحد راكب حصان، واثنين ماشيين، عرفت منهم مرجان، لأني أعرفه من أيام سجن الاستئناف. وضربني عدة مرات في مواضع مختلفة من جسمي. وشفته بيضرب كثير من زملائي بعصا وشوم!

"وبعد مدة طويلة استمرت حوالي ساعتين، خلوا كل ثلاثة يجروا مع بعض، وعلى طول الفناء كنا نجري ونقع، فيضربونا! وأنا كنت في آخر ثلاثة.

"وكانوا حاطين ترابيزة، وفيه واحد بيكتب الأسماء، وساعتها كان الضرب مستمراً، حتى أغمي علي!

"وبعدين ودوني عند الحلاق، وكان في ضرب برضه! حتى وصلنا قرب الباب، وكان فيه ضابط اسمه عبد اللطيف رشدي، فأمر بأن نقلع عريانين خالص!

"وكان مع الضابط عبد اللطيف رشدي فرقة، كفوني على بطني ووشي، واشتغل الضرب على ظهري لغاية ما أغمي علي مرة ثانية!

"وبعدين أعطونى برش ملفوف، والصاغ حسن منير وقف على ظهري لغاية ما أغمي علي! لكن ما ضربنيش شخصيا. وأنا حصلت لي صدمة عصبية، وشالوني إلى المستشفى، وادوني علاج". ثم استدعى محمد نور الدين سليمان جاسر، سكرتير مكتب النشر والثقافة العمالية، وقال:

"وصلنا هنا يوم الأربعاء الصبح بدري، وقعدونا على الأرض لمدة أكثر من ساعة، وفي طول هذا الوقت كانوا بيضربونا أيضاً في الوقت ده!

"وبعدين طلبوا منا أن نجري، ثلاثة ثلاثة. وكنت مع شهدي الذي توفى والثالث مش متذكره.

"وجرينا مسافة حوالي ألف متر، وأنا كانت شيلتي ثقيلة: كيس وبطانية. ومكنتش قادر أجري، وكان الضرب شغال أثناء الجري! وأثناء الجري وقعت مني البطانية، ووقعت ست مرات!

"ووصلنا البوابة، وقلعوني ملابسي، وحلقوا شعري، وكتب اسمي – وكل ده بالضرب!

"وشفت شهدي، كان دامي، وحطينه في حفرة ماء، وعسكري يملأ مية ويدلق عليه!

"وبعدين جروني من رجلي! وأدخلوني من الباب، فاستلمتني فرقة ثانية بقياة اليوزباشي عبد اللطيف رشدي، وكان الضابط يضرب مع العساكر، فدخت ووقعت، وقلت: "أنا عيان بالقلب والصدر! ولكنه كان يضرب ويقول:

"قل:أنا مرة! وشالوني ورموني في العنبر. وجت لي الصدمة العصبية، والدكتور كمال شافني، وحولني على المستشفى.

س- بماذا كانوا يضربون؟

جـ- بشوم وعصى، والرجلين واليدين!

س- من الذي شاهدته بخصوص الاعتداء على شهدي عطية؟

جـ- بره واحنا بنجري، مخدتش بالي مين اللي ضربه، لأن أنا كنت عيان، ولكن شفته لما داخ، وحطينه في الماء!

"وجوّه شفت الضابط عبد اللطيف رشدي هو اللي بيضربه! وعريان ملط ونايم على وشه، والضرب على الظهر من الضابط والعساكر اللي معه!

س- هل وقع اعتداء على شهدي أثناء جلوسكم قبل الجري؟

جـ- أيوه، كان فيه راكب حصان جه وقال: تعال هنا يا شهدي! ونزل فيه ضرب! ولكن ماعرفش اسمه، وأعرف شكله.

ولو عرض عليّ ضباط قوة السجن أقدر أقدّر اللي كانوا بيضربوا فيه. لقد كانت هناك فرقتان: واحدة بالداخل وواحدة بالخارج!

وأعتقد أنهما اشتركتا في ضربنا معاً.

س- هل لديك أقوال أخرى؟

جـ- حاسس أن فيه كسر في كتفي الشمال، وعايزعلاج كويس!"

وواضح من هذا الأقوال أن شهدي عطية كان مقصوداً منذ البداية. فتتفق الأقوال على أنه استدعي بالذات من بين إخوانه بعد استقباله في أثناء وضع الجلو، حيث انهال الضابط ضرباً على رأسه بالشوم وهو يقول له: وطي – أي أخفض رأسك!

وكان شهدي عطية بذلك يدفع ثمن حماسه لعبد الناصر، الذي كان يعرضه لخلافات مع زملائه الذين كانت ليدهم تحفظات على النظام. ولكن هذا الثمن بالذات كان هو الذي يدخره عبد الناصر لمؤيديه! فقد أيده الشعب المصري، فعرض الجيش المصري للضرب مرتين: مرة عام 1956، والأخرى في يونيه 1967. وقد كانت مشكلة شهدي عطية الشافعي أنه كان يؤيد عبد الناصر وهو يرفع رأسه! إذ كان يصدق نداء عبد الناصر الشهير الذي أطلقه: ارفع رأسك يا أخي!

ومن هنا جاءت التوصية به خصيصاً فور وصوله إلى أوردي أبو زعبل، بعد أن أعدت له "تشريف" خاصة تناسب زعامته .. تشريفة تخفض رأسه المرفوع! ومن هنا أيضاً كان رأسه هو الهجف، وكانت صيحة الضابط الذي ينهال عليه ضرباً: وطي!


30- لم تكن أبداً ثورة تقدمية وإنما كانت انقلاباً عسكرياً فاشياً (الوفد في 3/10/1997)

أريد أن أصارح القراء الأعزاء بأنني قبل أن أبدأ كتابتي هذه السلسلة من المقالات عن "ثورة يوليو وحقوق الإنسان" كنت أرى أن ثورة يوليو ثورة تقدمية خطيئتها الكبرى هي اعتمادها على الجيش وتسليم مقاليدها إليه بدلا من الشعب، الأمر الذي وضع الجيش فوق كل رقابة شعبية، وحوله من أداة في خدمة نظام الحكم إلى جهاز للحكم يركتب من الأخطاء ما يشاء وهو بعيد عن المحاسبة.

على أني بعد أن مضيت في هذه الدراسة عن موقف عبد الناصر من حقوق الإنسان، تسرب إلى الاعتقاد تدريجياً بأن هذه الثورة لم تكن بحال تقدمية وإنما هي منذ البداية ثورة فاشية، أو هي فاشية عسكرية مني بها الشعب المصري منذ البداية، واستخدمت كل أدوات الفاشية التي عرفها التاريخ في إحكام سيطرتها وهيمنتها على الشعب.

يب تحقق لي أن المجموعة التي حكمت مصر وسميت باسم ثورة يوليو، لم تكن إلا عصابة فاشية عسكرية تخفت تحت شعارات حركة التحرر الوطني، واستطاعت أن تخدع الشعب المصري وشعوب العالم العربي والعالم الثالث، في ظروف تاريخية معينة أتاحت النجاح لهذا الادعاء وهي ظروف الحرب الباردة!

وهذا فسر لي حقيقة كنت أمر عليها مر الكرام، ولكني في هذا الضوء الجديد، تبينت كم كانت قاطعة وحاسمة في تحديد هوية هذه الثورة، وتحديد هوية العصابة التي حكمت مصر.

هذه الحقيقة هي أن الثورة تخلصت منذ أيامها الأولى وقبل اكتمال سنتين على عمرها من جميع العناصر الليبرالية – وهي حقيقة كافية في حد ذاتها لتحديد هوية الثورة الفاشية لكل من يعرفون ألف باء الفكر السياسي، ولا يمكن أن يختلف عليها أحد إلا إذا كان جاهلاً أو مضلاً!

والغريب أن هذا التقييم كان هو تقييم الحزب الشيوعي المصري للثورة بعد ثلاثة أيام فقط من قيامها! وكان هذا الحزب قد تألف قبل ثلاث سنوات من قيام الثورة ـ أي في ديسمبر 1949 ـ من كل من الدكتور فؤاد مرسي والدكتور إسماعيل صبري عبد الله وسعد زهران ومصطفى طيبة وداود عزيز.

فعندما قامت الثورة ـ أو حركة الجيش كما كانت تطلق على نفسها ـ أخذ الحزب يخاطبها مخاطبة ودية لمدة ثلاثة أيام: 23، 24، 25، ويدعوها إلى التآخي مع الشعب عن طريق: إطلاق الحريات الكاملة، والإفراج عن المسجونين السياسيين في البلاد، ودعوة الجماهير إلى الحركة، فلما فعلت الثورة العكس فمنعت المظاهرات الوتجمهر، أعطى ذلك للحزب الشيوعي تحليلاً بأنها انلاب عسكري ذو طبيعة فاشية، وأصدر منشوراً يوم 26 يوليو يحذر من هذا الانقلاب، وكان تحت عنوان: "الخدعة الكبرى"!

وسرعان ما أكدت تصرفات الثورة بعد ذلك صحة تحليل الحزب الشيوعي المصري، عندما أبدت الثورة عداءها للأحزاب، دون تمييز بين أحزاب رجعية وأحزاب تقدمية وأحزاب ديموقراطية، كما أبدت عداءها للطبقة العاملة إلى حد دفعها إلى إعدام قادة إضراب مصنع كفر الدوار، ظلماً وعدواناً لمجرد الردع وطمأنة الاستثمارات!

وقد استمر الحزب الشيوعي المصري على هذا الرأي في ثورة يوليو حتى مؤتمر باندونج وعقد صفة الأسلحة الروسية، فتغير موقفه من الثورة. والغريب أنه ثبت على هذا الرأي على الرغم منا لقبض على إسماعيل صبري عبد الله في منتصف 1955 وتعذيبه في السجن عذاباً شديداً!

ولعل الدكتور فؤاد مرسي عاد إلى رأيه الأول في فاشية ثورة يوليو وهو يخوض تجربة "تشريفة" أبو زعبل بينما هو مصاب بانفصال شبكي، وكرابيج وعصي زبانية عبد الناصر تنهال عليه وهو عار كما ولدته أمه تطارده وهو يجري إلى العنبر! على أنه بعد أن التأمت جروح أوردي أبو زعبل التي ملأت جسده، عاد إلى الاعتقاد بتقدمية هذه الثورة!

وهذا يوضح تخبط اليسار المصري في تحديد هوية ثورة يوليو، مع ان جميع الدلائل منذ البداية كانت حاسمة في تحديد الهوية، عندما أخذت الثورة في التخلص من العناصر الإشتراكية الحقيقية والليبرالية داخل الضباط أنفسهم، في الوقت الذي كانت تتخلص منهم بإلقائهم في السجون بين أفراد الشعب!

فق تخلصت الثورة أول ما تخلصت من القائمقام يوسق صديق، صاحب الفضل الأول في استيلاء حركة الجيش على قيادة الجيش، وبدونه كانت تسحق حركة الجيش سحقاً، ومن أجل هذا الدور ضم إلى الضباط التسعة الذين يكونون قيادة التنظيم.

وكان القائمقام يوسف صديق اشتراكياً عظيماً استمر أميناً وفياً لمبادئه بعد ضمه لمجلس قيادة الثورة، وكان في الوقت نفسه نصيراً للحرية. فكما يقول اللواء محمد نجيب في مذكراته: "كان يوسف صديق شديد الوضوح في معارضته لقانون تنظيم الأحزاب "الذي أرادت به الثورة ضرب الحياة الدستورية" كما كان معارضاً لضرب الوفد على غير أساس ديمقراطي، وكان يدعو للتمسك بالدستور، ودعوة البرلمان للانعقاد لتعيين مجلس الوصاية.

كما أنه كان شديد الثورة والرفض لاعتقال الزعماء السياسيين دون اتهام، وطالب كثيراً بإلغاء الرقابة على الصحف وتكوين اتحاد عام للعمال.

ولم يكن يوسف صديق يكتفي بالكلام داخل مجلس قيادة الثورة، بل كان يبدي آراءه وينشرها خارج المجلس بين الضباط الأحرار، الأمر الذي أدى إلى انتشار التذمر بين ضباط المشاة. وعندما ضرب مجلس قيادة الثورة تنظيم ضباط المدفعية في يناير 1952، واعتقل الضباط وأدخلهم السجن بملابسهم العسكرية، لم يتردد يوسف صديق في تقديم استقالته، فقد وصل الأمر بينه وبين زملائه إلى نقطة اللاعودة. وعندما حاول محمد نجيب إثنائه عن هذه الاستقالة أصر عليها قائلاً: إنه لا يمكن أن يرتبط مع مجموعة لا يوافق على سياستها.

وقد حاول عبد الناصر تعيينه بعد ذلك سفيراً لمصر في الهند على سبيل الرشوة، ولكنه رفض وصارح عبد الناصر برأيه فيه، وهو أنه: دكتاتور! وقد نفت الثورة يوسف صديق في إبريل 1953 ، ثم حددت إقامته.

كان الضابط اليساري الآخر الذي تخلصت منه الثورة هو خالد محي الدين، وكان بدوره نصيراً للحرية داخل قيادة الثورة، ومن هنا وقف موقف المعارضة من مشروع التوفيق والتحكيم في منازعات العمال الرجعي الذي أرادت الثورة إصداره بدلا من القانون رقم 105 لسنة 1948، عندما رآه يحرم العمال من حق الإضراب والامتناع عن العمل بأية صورة من الصور، ويمنح صاحب العمل في الوقت نفسه حق الفصل التعسفي.

فقد أدرك أن إصدار هذا القانون مع وجود وسائل الإنتاج في يد الطبقة الرأسمالية وابتعاد الثورة عن الفكر الاشتراكي، سوف يلقي الطبقة العاملة تحت أقدام الرأسمالية دون أي حق أو حماية.

ثم أخذت المواقف بينه وبين مجلس قيادة الثورة تتباعد عندما أخذ يصوغ نظريته في الشكل الذي تتحول إليه الثورة، في سلسلة من المقالات ظهرت في عام 1953 ، في الوقت الذي كانت جميع القوى التقدمية والديمقراطية وعلى رأسها الوفد قد أدانت الثورة بالانحراف عن أهدافها الديمقراطية، وكانت نظريته تقوم على تقوية نقابات العمال وضمان حرية المواطن في الرأي والعقيدة، وعمل الجمعيات والأحزاب، وحق التظاهر السلمي لجميع المواطنين وحق الإضراب السلمي.

وكما أدت آراء القائمقام إلى القطيعة بينه وبين مجلس قيادة الثورة، فكذلك أدت مواقف خالد محي الدين إلى نفس النتيجة. فقد ظهر موقف خالد محي الدين إلى جانب الديمقراطية بصورة صارخة في أكبر أزمة هددت الثورة، وهي أزمة مارس 1954، التي سحقتها الثورة سحقاً، وكان خالد محي الدين أحد ضحاياها، فلم يكن له، وهو الذي كان يدعو إلى استمرار الثورة في شكل ديمقراطي، أن يبقى فيها بعد أن وصلت إلى نقطة اللاعودة في طريقها الدكتاتوري، فأصر على تقديم استقالته في إبريل 1954، وأبعده عبد الناصر إلى الخارج، ولم يسمح له بالبقاء في مصر.

- كان الضابط اليساري الثالث الذي تخلصت منه الثورة هو أحمد حمروش. وكانت الثورة قد أسندت إليه في سبتمبر 1953 رئاسة مجلة تتحدث باسم حركة الجيش باسم "التحرير" فلما أخذت المجلة تتجه بصفحاتها بوضوح نحو تأكيد مبادئ الديموقراطية، ونشر فكر تنظيم "حدتو" الشيوعي الذي كان يؤيد الثورة، أقالت الثورة حمروش من رئاسة تحرير مجلة التحرير، ثم أمرت باعتقاله في حركة اعتقال الضباط يوم 15 يناير 1953 ضمن مجموعة المدفعية ورشاد مهنا، رغم عدم صلته بهم! وأخذت في اعتقال الشيوعيين يوم 16 يناير، فاعتقلت 48 شيوعياً، وصادرت الجرائد والمجلات اليسارية التي كانت موجودة في عهد الوفد، مثل الكاتب والملايين والميدان والواجب وصوت الطالب والمعارضة، وبقي أحمد حمروش في الاعتقال خمسين يوماً دون تحقيق أو أسئلة!

وقد مضت الثورة الفاشية في اعتقال الشيوعيين بسبب انضمامهم إلى القوى الديموقراطية التي تضم الوفديين والاشتراكيين وأنصار السلام التي كونت "الجبهة الوطنية الديموقراطية" وقدمت الجبهة الوطنية الديموقراطية إلى المحاكمة بعد أن اعتقلت المكتب السياسي لحدتو والنائب الوفدي حنفي الشريف واليوزباشي مصطفى كمال صدقي وسعد كامل وزوجته، ووصل الصدام ذورته في نهاية عام 1953 ، الأمر الذي مهد لأزمة مارس 1954.

هذا العرض الموجز لصدام ثورة يوليو مع القوى الإشتراكية والليبرالية، كاف لتحديد الهوية الفاشية للثورة، خصوصاً ولم يكن هذا الصدام صداماً مؤقتاً، بل كان صداماً دائماً مستمراً، بلغ ذروته في حملة اعتقالات يناير 1959، عندما اعترض الشيوعيون على شكل الوحدة المصرية السورية وموقف ثورة يوليو الدكتاتوري من قضية الديمقراطية السياسية التي كانت سوريا تتمتع بها قبل الوحدة.

لقد انفجر حقد الفاشية الناصرية على الشيوعيين على نحو لم يحدث حتى في أعتى النظم النازية. فعلى الرغم من أن الشيوعيين في ذلك الحين كانوا يعلنون تأييدهم الصريح لنظام عبد الناصر، تحت الوهم بأنه نظام تقدمي، فإن هذا النظام لم يتردد في اعتقالهم والزج بهم في المعتقلات في طول مصر وعرضها، ولم يكتف بذلك مما يمكن أن يغتفر له، وغنما نكل بهم تنكيلاً، وألحق بهم عذاباً جماعياً لم يسبق له مثيل، وذلك بغير هدف إلا هدف التعذيب والتنكيل!

فعلى حد قول الدكتور رفعت السعيد في كتابه: "الجريمة، وثائق عملية اغتيال شهدي عطية"، فإن تاريخ التعذيب الذي شهدته المجتمعات البشرية منذ نشاتها لم يشهد تعذيباً من أجل التعذيب إلا في عصر ثورة يوليو! لقد شهد المجتمع البشري تعذيباً لانتزاع الاعترافات من المعتقلين، فإذا تم الاعتراف انتهى التعذيب، كما شهد التعذيب عقابا على جريمة ارتكبت، ولكن لم يشهد تعذيباً من أجل التعذيب وبغير منطق ولا عقل ولا سبب ولا هدف غير التعذيب نفسه!





.../...




[HEADING=1]21- د. لويس عوض .. وفوازير عبد الناصر ! (الوفد في 17 / 3 / 1997)[/HEADING]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى