بهاء عبد المجيد - دبلة زفاف

في المرات العديدة التي دخل فيها مكتبة الديوان بالزمالك، كانت دائمًا هناك وتجلس دائمًا أيضًا في كافيتريا المكتبة، تحتسى الشاي أو القهوة، يقف بجانبها فتى أسمر قادم من جنوب السودان، يعد حاجاته ويغسل الدوارق والفناجين ووراءها أرفف من كتب انجليزية متنوعة.
المرة الأولى التي رأيتها فيها
كانت وحيدة إلا من هاتف خلوي يجلس ساكنًا على الطاولة التي أمامها وتحمل بين أصابعها كتابًا تقلب صفحاته بحنو.
كأنه يختلس النظر من حين إلى آخر بتوجس وخوف خشية من أن تفضح نظراته نواياه. كما كان يحدث هنا دائمًا، فتهرب الفتاة منه بعيدًا ولا تبادله نفس الاهتمام.
كانت دبلة زفافه قد سقطت بعيدًا في حلم وهو نائم وهوت في بئر يشبه بئر يوسف ولم يسمع لها رنين ولا ارتطام، وظلت آثار الفضة تخلق دائرة غائرة في أصبعه وكأنها ختم ووشم تحسسها وشعر بالمرارة ثم نظر إليها مرة ثانية.
المرة الثانية التي رأيتها فيها
كانت أيضًا تجلس وحيدة أما هو فقد كان يتحدث إلى فتاة أمريكية تدرس الأدب العربي بالجامعة الأمريكية وصديقها الأيرلندي الذي يدرس السينما ودعته صديقته ليزور القاهرة، أخذوا يتحدثون عن الكتابة وعن السينما. تعرف عليهم عندما رأى الفتاة الأمريكية تقلب في الروايات وتتصفح أعمال صنع الله إبراهيم، وبهاء طاهر، ونوال السعداوي ثم وضعت نوال بعيدًا، فقال لها الكاتب ألن تقرأي لي؟ أنا الآخر أكتب روايات. عندما قال هذه الجملة شعر بالضآلة والخزي كيف يحق له أن يصرح بكينونته، ليس بائع فاكهة أو ورق بردي ينادي على بضاعته في الطرقات، ولكن الفتاة الأمريكية كانت متفهمة وفرحت بالاعتراف، وأخذت تتحدث عن الأدب وأخذ هو يحدثها عن روايته ربما الأخرى التي تجلس في الكافيتريا قد استرقت السمع لا يعلم.
في المرة الثالثة
أومأت له، وابتسمت لا يدري ربما هي التي فعلت أولًا وربما تزامن فعل الترحيب في ذات اللحظة. وانتهى الحدث. لم يستطيع الاقتراب منها أو التحدث إليها أو حتى دخول الكافيتريا وهي هناك، ربما يختلس النظر من حين لآخر.
المرة الرابعة
تعمد أن يجيء مبكرًا، وأصبحت الزمالك هي العالم الجديد له بات لا يستسيغ وسط المدينة، فى زحامها ونفاقها، ولكنها لم تحضر هذه المرة. كان حتمًا سيقول لها أنه كاتب وأنه يريد أن يهديها نسخة من روايته الوحيدة القابعة على أحد أرفف المكتبة. وسيقول لها أن للغة العربية جماليات مثل اللغة الإنجليزية تمامًا. سيقول لها أنه معجب بها. ويحبها للقراءة. وأنها تشبهه تمامًا في حبها لزيارة المكتبات ومكوثها فيها أطول فترة ممكنة، وأن العالم الخارجي موجود بين طيات الكتب، وأنه بحث عن مثلها ولم يجد حتى وأن أرتدى دبلة الزواج.
خامس مرة
كان يجلس في المكتبة. الجو في الخارج حار وخانق، ومبرد الهواء لا يتنفس إلا رطوبة. ويحمل في يديه كتاب عن البوذية وكيف تصل إلى حالة الانسجام القصوى مع الكون والنفس وكان ينظر من حين لآخر لأثر الخاتم على أصابعه.
فجأة دخلت ترتدي فستانًا أحمر بلون الدم الفاتح، وتلف خصرها بحزام من القش، وتترك شعرها حرًّا طليقًّا كانت تشبه كارمن تمامًا في حيويتها وانطلاقها.
لم تكن بمفردها بل معها رجل يرتدي حذاء بلون دم الغزال وتيشيرت أسود وبنطلونًا بلون الكريم ملامحه غير واضحة إلا من نظارة طبية وذقن غير محلوق وجسد رجل غير رياضي.
أخذا يتجولان بين أرجاء المكتبة ويفحصان الكتب ويقرآن عناوينها وفجأة قالت له: إذا أراد أن ينصرف فيمكنه ذلك حيث إن صديقته ستغضب من طول الانتظار هناك.
ابتسم الكاتب في وجهها وهي كذلك فعلت ربما فهم أنها تقول له إنها سعيدة بوجوده هنا هذه المرة.
هو الآخر خرج عندما غادر هذا الرجل وانتقل في المقعد الذي يجلس عليه وجلس على أحد الكراسي المواجهة لها. وأخذ ينظر إليها ولكنه لم يستطيع أن يقوم من مكانه ولم يستطيع أن يهديها روايته بعد فترة غير قصيرة عاد الرجل الذي غادر وأتى وكأنه قد أفزعها فأنتفضت من مكانها ولكنها ضحكت بسخرية ونظرت للكاتب.
جلست أمامه مباشرة ووضعت الكتاب الذي كان بين يديها وأخذت تتحدث إليه واقتربت ساقيهما تمامًا حتى كادت أن تتلامسا.
أما الكاتب فقد نهض وترك المكتبة وروايته الوحيدة في انتظار أصابعها لتتصفحها.

دبلة زفاف - د. بهاء عبد المجيد
من مجموعة ورق الجنة دار ميريت 2012
فوبيا 5 مارس 2012.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى