محمد بشكار - بالنَّار فضَح جواد ما خلْف السِّتار!

لَنْ أسْتعِيد أوراقي القديمة التي لم تحِدْ قَيْد ظِلٍّ عن شمس الفنان المسرحي أحمد جواد، هو نفسُه كان رحمه الله يُذكِّر رُواد فيسبوك ببعض قُصاصاتها المنشورة في الجرائد، وكان يُرْفِق هذه الكتابات المُقْتَطَفة بعناية من الأوراق السَّيارة، بعبارات الفخر من قبيل وليس قبيلة: (هذا ما كتبه عني الشَّاعر والصديق الوفي فلان..)؛ بل إنِّي ورَّطْتُه معي في لعبة البيضة والحجر التي لا يجيد الجمع بينهما دون انكسار، إلا ساحر أو شاعر، عساني أخفِّف في نفسه المقهورة، ضائقة العيش التي تهيض بهمومها أعْتَى الجِبال، فكان آخر ما كتب في الصفحة الأخيرة لجريدة "العلم"، عمودا يقطر بالأسى وهو يرثي رحيل الممثلة القديرة "خديجة أسد"، تُراكَ تسْمعُني الآن أخي جواد وأنت هناك إلى جوار الجواد الكريم، ماذا يُفيد الكلام بعد عرْضِكَ المأساوي الأخير الذي ذهبْتَ ضَحيَّتهُ قُرباناً في الشَّارع العام على عتبة وزارة الثقافة، وما زال التَّحْقِيق جارياً كما جَرتْ في جسدك النَّحيل المادّة الحارقة، واندلعتْ معهُ بعْدَ أنْ ثواكَ الرَّدى الأقاويلُ بفتيل اللسان الطَّويل !

الأهمُّ من كُلِّ هذا البُكاء الذي لن يَعْدم كمِّيةً وفِيرةً من المناديل ليجفَّ سريعاً، هو العرض الأخير.. عَرْضُ الإحتراق الذي أدَّاه أحمد جواد باسْتِماتة جعلْتهُ ينتقل بسرعة إلى خشبة أوْسع في العالم الآخر، ولكن بِما أنَّ ستار المسرحية مازال مفتوحا، بِما أنَّ الأقنعة ذابت بلفْح النيران التي فتحها جواد ليْس على نفْسه فقط، بلْ تَجاوزتْهُ لتُعاقب اللوبي المُتحكم في الريع الثقافي والفني الذي احترف القاعات المُغلقة، بِما أن جواد خوطب في بلاغ الوزارة ليس باسمه كفنّان ومُنشّط ثقافي معروف، ولكن كأي شخصٍ أو مواطن مجهول بدون هوية فنية أو أثر.. لِكُلِّ هذا الحيْف لن نُسْدل السِّتار بل سننْدلع مع جواد كعاصفة تستنفرُ وحش الغابة بين الأشجار، هو الذي كان يُهَيِّءُ لِعَرضِ مسرحية جديدة، وبعث لي عبْر الواتساب قبل أيام من الفاجعة المُروِّعة، بِنَصِّ عمله المسرحي الجديد مع هذه الرسالة: (أضع بين يديكم الكريمتين نص عملنا المسرحي القادم.. ملاحظاتكم ورأيكم يهمنا، قراءة ممتعة).. هو الَّذي عاش معلوماً وحين مات خوطب بصيغة المبني للمجهول..هو الذي كان يسْتعِدُّ على قلم وساق لعرض مسرحية تعكس الشُّعور الفادح بالقهر وتحْمل أيضا عنوان (هو...! )، وهي عن ديوان "كناش لمعاش" للزجال إدريس المسناوي، دراماتورجيا: أحمد جواد.. ألم أقل إن المسرحية لم تنْته بعد وإنَّ الرماد ما زال يُخيِّم برائحة الإحتراق في مشهدنا الثقافي والفني الموبوء بغيلان الفساد، لذلك سأترك السِّتار مفتوحا لنقرأ جميعا شيئا من ذلك الــ (هو...!) الذي هو أنا وأنت وأنتم وكل الوعي الجمعي الشقي، بل إنَّه يُجسِّد المظاهر البشعة التي يعيش مِحْنتها أهل الأدب والفكر والفن في هذا البلد !
لا أُبالغ إذا قلتُ إن هذه المسرحية تعكس جليا السِّيرة الحياتية للفنان أحمد جواد، وقِسْ على ذلك إلى آخر الكفن، سيرة كل الذين يُكابدون التَّهميش والإقصاء، ألم تر كيف تُفقِّرُ الأقلية فاحشة الثراء أغلبية المجتمع التي لا تجد معاش يومها، نقرأ من هذا المونولوغ المسرحي:
-الكاتب : بغيت نعرف راسي من رجلي ف شهادة لساني ومدادي / بغيت نعرف نفسي الميتة من الحية / ونجمع من الباقي ف حياتي زادي / بغيت نحل كناش لعقل والقلب قدام الروح / ونعري ع الأسئلة المدفونة ف الدماغ من يوم ميلادي / بغيت نتعلم نكتب الحرف وهو ف كرش امو / ولا نتيه ف قراية احوال الفال على أحفادي / بغيت نعرف نكتب ، شكون انا ..؟
-القلم :الدنيا مقسومة على ثلاثة : الثلوث الاول فاز بها / الثلوث الثاني طامع فيها / الثلوث لاخر مقسوم على جوج : النص الاول شاد الميزان والنص الثاني عفطوا عليه وزادوا القدام .
لا أُخْفيك حسرةً عزيزي جواد وأنا أراك تَسْتعجل الرحيل أخفَّ من خيط الدخان، كان بِوُدي أن تتنظر لنتجاذب أطراف الرَّأي في هذه المسرحية التي رُبما ستُعرَض يوماً وأنت بين شخوصها تلوح بصيغة جنازة الغائب، لم أكُن أريد أن أجيبك بعد يوم أو يومين من التوصل، بكلمة (رائعة) التي تُفيد التَّنصُّل، وما أكثر من يستعمل هذه الكلمات المدْهُونة، لينهي بالمجاملة كل صداع الرأس الذي تُسبِّبه المجادلة، وقد اتَّضح الآن أنها أكثر من رائعة بل إنها مسرحية نُبوئية ورؤياوية، هل تعلم لماذا أخي جواد.. لأنَّك لَم تُجهِّز حواريتها الدرامية القاسية بمعزل عن قلم تُحرِّكُهُ يدُ الأقدار!


..................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 6 أبريل 2023.

محمد بشكار



1680643947825.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى