صفاء موسى - بريد في المنفى.. قصة قصيرة

زمنٍ بعيد وَ أنا مغترب عن وطني أطوي زمان القهر وعذابات الحنين وأعوام العمر بسبب ظروف الحرب التي أجبرتني على ذلك . هنا وتحديداً على ضفاف نهر الراين احدى المدن الألمانية حيث مكان اقامتي الدائم استيقظتُ باكراً مثل كل يوم لأرتشف فنجان قهوتي أمام نافذة مكتبي المطلة على حديقة المنزل . كان الجو بديعاً خريفي الفصل وبعض غيمات تشرين توحي بسقوط المطر . لحظات جميلة قبل أن تنبش احداقي كل هواجسي وهي ترمق ذلك الصندوق البريدي المهجور لسنين ليعج فضاء ذاكرتي بصور وملامح كنتُ قد أسدلتُ عليها ستار الزمن . شعور غريب راودني تقطعت فيه أنفاسي وأصبحت الاشياء من حولي مبهمة . لا مناص وأنا ارى خطواتي تقودني الى شجرة اللوز تلك التي دفنتُ تحتها كيساً من النايلون بداخلهِ مفتاح أخرجته وتوجهت صوب ذلك الصندوق الذي صدأ رتاجه وصعب عليَّ فتحه إلا بعد عناء . هنا كانت المفاجأة عدة رسائل مغلفة بأمبلاج اسود داخل ظرف كانت موجهة لي شخصياً تحمل تواريخ قديمة لثلاث سنين خلت . حملتُ الظرف ودخلت المنزل متوجهاً صوب المكتب كانت مجرد خطوات لكنها أشبه بالمدى . جلستُ في مكاني المعتاد وروحي تهفو لمعرفة محتوى الرسائل . فتحتُ الرسالة الأولى وقرأت الاسم كانت مذكراتها ( جنان ) حبيبتي نعم تلك التي كانت أنا قبل ان تفرق الأقدار بيننا . حاولتُ جاهداً قراءة الرسالة لكني لم استطع . لا اعرف . احساس بالاختناق ، انفاس تلهث وصدى دويها يرتفع تترجمه الأهداب نشيج . أشعلتُ سيجارتي لتبدأ ذاكرتي تغرق في لجة الحكايات والعوالم الذاهبة لتفضح دورة الحياة المتناقضة في كل فصولها . تذكرتُ يوم جلست مع زوجتي وأصدقائي وأمامنا صورة لتلك الحبيبة كنتُ قد احرقتُ جزءاً منها بلحظة فراق وتراجعت عن احراق ما تبقى منها ك ذكرى تلثم وجه الحنين حين يحل قحط الملامح وتمزق ثياب العمر عجاف السنين . قالت زوجتي أنها قبيحة وقال احد اصدقائي ان قسمات وجهها عادية لكني تلمستُ الصورة بيد مرتجفة قلت لهم كنتُ اقطع مسافات طويلة كل يوم لأضع زهرة على شباكها . تنهدتُ كثيراً قبل ان أشعل سيجارتي الثانية ببقايا الأولى مستأنفاً قراءتي للرسالة وقد كتبت فيها ( هل تذكر شريط جدائلي ، ربطة الألم حول خاصرتي كانت حمراء بلون شقائق النعمان ليتكَ تضع كل أحلامي معك في حقيبة يدك ك حبل ٍ سري تذكركَ بي وترسمني ظلاً لَكَ في رحلة النفي خاصتك ) تناولتُ الرسالة الثانية وقد قالت فيها ( حين لقاء سأقطف لَكَ النجوم قبلا وألملم قصائد الليل طقوس حب وارميها بين يديك ) . احساس غريب كأن هشيم الزمان يتكسر في أعماقي وسط صمت ثقيل يخيم ك الموت يضرب أطنابه وسط القلب لا يقطعه سوى صوت أنفاسي المولولة . أخذت ُ الرسالة الثالثة حيث كتبت فيها ( كثيراً ما كنتُ أنسى ظلي في الأماكن التي شهدت حبنا فأنتَ كل الغائبين والراحلين وَ أنا كل البيوت والأماكن الخالية سوف أنساك ولكن أمهلني فقط ماتبقى من عمري . اما الورقة الأخيرة فقد كانت الخاتمة لكل معاني الأمل تفصح عن صرخات قابعة في جوف القيعان القديمة . كانت عبارة عن نعوة بموتها والمرسل ابن اختها المؤتمنة على الوصية . هنا أوقد الحزن مكامن قسوته وأفقد الحياة طعمها ليرتدي فيه الأفق الشاسع وشاحه الأسود . لم تكن السماء وحدها الباكية والشمس مازالت متوارية كئيبة تلوذ خلف السحاب الماطر . أودعتُ الرسائل صندوق البريد واحكمتُ اغلاقه جيداً ثم دفنتُ المفتاح تحت تلك الشجرة وعندما هممتُ بالدخول طرق اسماعي صوت أبنتي الصغيرة ( جنان ) وهي تدعوني لتناول طعام الافطار


* نقلا عن نادي القصة السعودي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى