نصر حامد أبو زيد - مِن قلب الريف

تتلون أغنيتى بحفيف النخل
وأنينِ الساقية الثكلى
وصراخِ الطفل الجائع فى الليل المظلم
والأرض استلقت كقتيلٍ يلفظ آخر نبضاته
ليس هنالك غير الحسرة والأحزان
وتموت الأغنية على شفة الشاعر
..
لكنك يا شاعرنا الأكبر ما زلتَ تغنى
لعشيقتك السمراء بقاعات "الهيلتون"
ولذات النهد الرجراج "بباريس"
ولساقِ الثالثة الأخرى فى "مدريد"
وغناؤك رغم الأحزان يدق الباب
يدخل دون استئذان ردهات الدار
ليعكِّر صفو الحزن الجاثم فى الأعماق
...
معذرةً يا سيدي الشاعر
فأنا أيضًا شاعر
لكنى مِن أعماق الريف أغني
للأرض لكي تنبت عودًا أخضر
يأكله الأطفال الجوعى
أحمل قيثاري وأدور مع الليل الصامت
علِّى أدفئ مقرورًا
أو أحمل همًّا عن محزون
أو –حتى- أرفع حجرًا كان يسد طريقًا
...
معذرةً يا سيدي الشاعر
فالليل طويل وحزين
"وبهية" ما زالت تبكى "ياسين"
ما زال الأطفال جياعًا
نوقد تحت القِدْر لنلهيَهم
فيناموا من غير غطاء
..
يا سيدي الشاعر
أعلم أني ما زلت صغيرًا
لكنِّي أحمل في قلبي همّ الأجيال
ونضال الشهداء العظماء
من أجل البسطاء المطحونين
فرجال القرية صفرٌ مهزولون
يأكلهم دود "البلهارسيا"
ونساء القرية يمضغهن "السلَّ"
لا حب هناك ولا لمسات ملتهبة
لا شيء سوى الحزن الجاثم في الأعماق
تسخر منه أغانيك المشتعلة
بلهيب الجنس
ولهذا فأنا أرجوك
باسم الشهداء العظماء
باسم البسطاء المطحونين
أن تصمت لحظة
حتى تنتهى مراسيم الحزن"


نصر حامد أبو زيد

المحلة الكبرى



* نشِرت في مجلة الثقافة الجديدة، عدد أبريل 1970،
أعلى