د. مصطفى رجب - من أعظم أساتذتي : الدكتور أحمد شوقي رضوان - الاسكندرية

حين التحقت بالسنة الأولى شعبة اللغة العربية بكلية التربية . جامعة أسيوط ، كنت أحفظ أكثر المعلقات السبع وأجزاء كثيرة من ألفية ابن مالك بحكم التنشئة ، وكانت هذه أول دفعة من نوعها في تاريخ التعليم الجامعي لدراسة اللغة العربية بكلية التربية . فكان كل أساتذتنا منتدبين من كليات جامعة الأزهر ، ومن كليات آداب متعددة ومن دراعمة تم تعيينهم بكليات الآداب ، كان الدكتور أحمد شوقي رضوان [ الذي درس لنا الأدب الجاهلي 1973/1974] من آداب الاسكندرية عائدا من قريب من بعثة في بريطانيا حصل خلالها على درجتي دكتوراة إحداهما في الأدب العربي القديم والثانية في الأدب المقارن من جامعتي لندن ومانشستر . وكان سبب حصوله على الدكتوراة الثانية عجيبا ، فقد استعان في أثناء إعداده للدكتوراة الأولى بمقالة لأستاذ ألماني ، فسأله مشرفه البريطاني : أتعرف الألمانية ؟ قال : لا . استعنت بزميل ترجمها لي للانجليزية ، فخيَّره بين حذف ما استشهد به ، أو أن يتقن الألمانية ليقرأ المقالة في لغتها الأصلية ، فآثر أن يبحث عن عمل مسائي ليجد دخلا ينفق منه على تعلم الألمانية حتى أتقنها .!! كان هذا أول درس تعلمته من هذا الرجل العظيم .
وكان الدرس الثاني أنه رفض أن يصطنع لنا " مذكرة " لمادة "أدب العصر الجاهلي ونصوصه " كما يفعل غيره ، وقرر علينا ثلاثة كتب ضخمة هي في الأدب الجاهلي لطه حسين والعصر الجاهلي لشوقي ضيف ومصادر الشعر الجاهلي لناصر الدين الأسد ومع الكتب الثلاثة شرح المعلقات السبع للزوزني . ثم ملزمة باللغة الانجليزية في 20 صفحة عن غناء القيان في العصر الجاهلي .
وكان الدرس الثالث محرجا لي كل الإحراج ولكنني عشت متمثلا له حتى اليوم ، فذات مرة سألته : ما وجه رفع كلمتي ( أمام وخلف ) وهما ظرفان ؟ في قول لبيد :
فَغَدَتْ كلا الفَرجَينِ تَحْسَبُ أنَّهُ .... مَولى المخافة خلفُها وأمامُها
كنت قرويا ساذجا غشيما يحسب أن " الدكتور " لا يستعصي عليه أي سؤال ، فأطلقت سؤالي بكل براءة الريفي المتفائل وحماسته ، وفوجئت بالرجل الشامخ الوسيم المبهر يقلب في شرح للمعلقات أمامه غير كتاب الزوزني الذي نقتنيه ، وطال صمته حتى ران على المدرج كله جو من السكون المخيف ، وشعر بحرج بالغ مازال يلاحقني حتى الآن وأنا أكتب هذه الواقعة . ثم رفع ذلك الجبل الأشم وجهه ونظر لي في إشفاق مشبع ببسمة حانية وقال : يا ابني أنا تخصصي " أدب " ولا أعرف وجها للرفع ، سأسأل زملائي المتخصصين في النحو وأرد عليك في المحاضرة القادمة ...!! ساعتها تمنيت لو انشقت الأرض وابتلعتني لأنني خفضت – عن جهل وتسرع - هامة كنت أهواها مرتفعة أو هكذا خُيِّل إليّ . وجاء الرجل في الأسبوع التالي وبدأ محاضرته بأن شرح لي ما سألت عنه .
الدرس الرابع كان قاسيا أيضا ، فقد طلب منا أستاذنا بحثا حول قضية الانتحال وما أثير حولها ، فجاء زملاؤنا بالورقتين والثلاث والأربع ، وجئته ب"كشكول " من 60 ورقة وقدمته له بشموخ فلاح معتز بنفسه عبيط قائلا : يا أستاذنا أنا ضد شوقي ضيف وناصر الأسد ومنحاز لرأي طه حسين ، وقد أضفت سبع حجج من عندي للحجج الست اللواتي احتج بهن طه حسين ، فتصفح الرجل الدفتر متبسما وأثنى عليه ووضعه في حقيبته ولم يُشعرني لحظة أنني مغرور .
علمت فيما بعد أن هذا الرجل رفض التقدم للترقيات لما رآه من سوء حال لجان الترقيات وفضل العمل للأبد في الخليج ، ثم علمت أنه رجع منذ سنوات واستقر بالاسكنرية بلده الأثير . اللهم احفظ أستاذنا أحمد شوقي رضوان وأطل عمره . وليت أحدا من أصدقائنا السكندرية يكون قد سمع بهذا الرجل العظيم . ليبلغه عني تقبيلي يديه بعد تسعة وأربعين عاما من هذه الدروس. وغيرها كثير لم أذكره .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى