محمد عبداللطيف خلاف - اللبّان.. قصة قصيرة

اعتاد عبد الجواد بيع اللبن علي دراجته التريلا في البكور، ينادي بصوت عذب يصاحبه زقزقة العصافير»‬ البن، اللبن الطازة »ويضرب جرس الدراجة ويخبط بحديدة صغيرة علي حاملات اللبن المتدلية من الدراجة في الخلف؛ ليعلم من لم يسمع صوته بأنه موجود من لحنه المميز الذي ينسجه.
هناك بيوت تترك غلّاية أو زجاجة خارج المنزل مع النقود، فيقوم بعمله تلقائيًا دون أن يقابل أي إنسان، وهناك بيوت يطرق بابها فتأتي بالغلّاية والنقود، وهناك بيوت حسابها أسبوعي، أو شهري، فهو يعامل كل إنسان علي قدر استطاعته.
وفي صبيحة يوم الجمعة، لم يأت عبد الجواد لوعكة أصابته، فُحرمت البيوت من اللبن ذلك اليوم، بل حدث شجار في بعضها، وتنكد الآخر لأنه لم يشرب الشاي باللبن، ولم يتساءل أحد عن غيابه الشخصي بقلق، إلا السِت نوال وقطط الحي.
لا يعرف عبد الجواد من هي الست نوال، فهي تترك غلّاية ألمونيا بالخارج مع الحساب يوميًا، ولم يرها مطلقًا، بينما هي تنتظر مجيئه عند كل صباح، تنتشي بصوته ولحن جرس دراجته . عندما وجدت الحلة فارغة والنقود كما هي، لم يشغلها غياب اللبن بقدر ما شغلها غياب بائعه
وقالت بحزن: حتي الصوت الوحيد الذي يزورني لم يأت. أخذت الحلة وأغلقت الباب بتنهيدة رقيقة.
وبينما كانت السِت نوال بمنزلها الذي لا تغادره تقريبًا، سمعت صوت جرس دراجة، ففتحت الشباك مسرعة لعله يكون عبد الجواد اللبان، ولكنه كان بائع أنابيب البوتجاز وضجيج مفتاحه المعدني علي الأنابيب؛ أغلقت الشباك وعادت خائبة تجلس علي كرسي الغسيل الخشبي تفركُ ملابسها الأنثوية وتلوم قلة عقلها: مالذي سيأتي به بعد الظهر! ولماذا توحشته هكذا!
خطر ببالها بأن تنزل وتسأل عنه، ولكن سرعان ما أدركت جنون الفكرة وطيشها، وقنعت مرغمة بأن تنتظر صباح اليوم التالي، فكرت أن تسأل أحد من الجيران، الذين كانوا بالفعل يتحدثون علي السلم يلومون الرجل بأنه لم يأت اليوم! وهو اليوم الوحيد الذي تغيب عنهم منذ عرفوه.
مر اليوم ثقيلًا علي الست نوال، ولم تشرب اللبن علي عكس بعض الجيران؛ فمنهم من اشتري لبنًا معلبًا وتناسي عبد الجواد، ومنهم من كان يفيض لديه قليل من لبن أمس، ولكن الأطفال لم تُحرم ذلك اليوم من لبن الأمهات.
مضي اليوم وجاء صباح السبت، ومر عبد الجواد ينادي البن، اللبن الطازةب وفات علي البيوت كالمعتاد، فوجد بيوت غلايتها وزجاجتها كما هي مع الحِساب، وبيوت لم تضع ولا غلاية ولا زجاجة، فاستحي أن يطرق الباب، وبيوت اعتاد علي طرقها لم تفتح. كان الحُزن والتعب يبتلع ملامحه.
وعند منزل الست نوال؛ وجد الغلاية والنقود، وفوجئ بها تفتح الباب؛ كانت أنقي من اللبن الذي يبيعه وأكثر انسيابية منه عندما يصبه في زجاجة كثيرة المنحنيات، كانت تلك المرة الأولي التي يري فيها الست نوال، ولم تكن الأخيرة!



* منقول عن جريدة أخبارالأدب المصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى