محمد إبراهيم ولد محمدنا - ليلة صيف

بدت البطحاء لما غمرها النور رائعة بيضاء عميقة بين الواحات، وعلى رمالها تتراقص ظلال النخيل، والقمر في بدايته يبشر بليال جميلة كالعهد بها، وهنا وهناك تناثرت جماعات حول بعض الأواني والطبول التي توقع عليها الفتيات ألحانا ترجع إلى عهد غابر.
كنت قد وصلت لتوي إلى الواحة، لكن أحد الأصدقاء لم يعطني فرصة لأستريح:
- أهلا أحمد

- أهلا بك
- هيا ننـزل، لا تضيع الوقت
- أنا متعب
- في الأسفل سينسيك الغناء كل تعب.
ونزل بي بين أكواخ السعف والمنازل المعلقة إلى قرارة الوادي، حيث امتزجت الأصوات بالعطور في جو احتفالي بموسم التمر، وملنا إلى أولى الجماعات:
- مساء الخير
- مساء الخير
- متى جئت؟
- وصلت للتو، كيف الموسم هذا العام؟
- التمر جيد
- ما ينقص حقا هو المطر.
وبعد تبادل المجاملات عادت الجماعة إلى الإنشاد، وانتبهت إلى الفتاة التي كانت تغني، شدتني بوجهها الأبيض المتألق حتى لكأنه من نفس مادة رمال البطحاء المتلألئة، ورجًعت بصوتها الجميل شعرا شعبيا رقيقا مسكرا وهي تستنهض همم الحضور من الشبان لقول أبيات في نفس المقام وهي عادة تقليدية قديمة، وبدأ بعض الشبان ينظمون أشعارا في بعض الحاضرات ممن حزن إعجابهم، ونظمت أنا بيتين أو ثلاثة فيها وفي صوتها الجميل، ونزل
علي من الإلهام ما لا عهد لي به فجلبت إلي الأنظار وحزت رضاها ورضى غيرها، لكن إعجابها هو ما كان يهمني، فقربتُ مجلسي منها، وزاد وجهها مع اقترابي تألقا وهي توقع بأصبعها على صحن مقلوب، وفي غمرة نشوتي بها نبهني الصديق قائلا:
- ألا نواصل التجول، هناك الكثير من المجالس الأجمل؟
لكنني تمسكت بالبقاء فأضطر إلى الذهاب بدوني بعد أن أكدت له أنى أجد راحتي هنا.
وجنح القمر اليافع إلى الأفول، وبدا أن الليل تأخر إذ بين لحظة وأخرى كان يستأذن بعض الحضور في الذهاب، لكن حرصي على النوم باكرا تبدد أمام إعجابي بالفتاة وما تغني من ألحان آسرة.
وسألتني آخر من بقي معنا من الجماعة:
- كم الساعة ؟
فأجبتها وأنا أنزع ساعتي من يدي وأضعها في جيبي
- في مثل هذه الليلة لا تسألي أبدا عن الوقت.
فضحكت وهي تودعنا محتجة بأن أباها إذا استيقظ فلم يجدها في فراشها سيقيم القيامة.
ولم يبق معي غير الفتاة التي كانت تغني، لكن حماسها للإنشاد خف وبح صوتها ، فحلفت عليها أن تتوقف حرصا على صحتها، ودار بيننا حوار:
- اسمي أحمد
- اسمي خديجة
- تسكنين هنا؟
- نعم، وأنت؟
- في العاصمة.
وتكلمنا عن كل شيء، ولم يبق من القمر غير ضوء خافت يشع على هامة الجبل القريب، وخلت البطحاء إلا من قليلين تدل عليهم أضواء سجائرهم المشتعلة الصغيرة مثل الجمر، أو أحاديثهم الهامسة وهم يمرون قربنا، وقالت:

- حان وقت الذهاب، وأنت تعرف الآباء والفجر غير بعيد.
وانتزعت الصحن المقلوب الذي كانت توقع عليه بصعوبة من الرمال وطلبت مني أن أحمله، فأخذته فرحا وقمت، لكنها بدل أن تنتصب واقفة قفزت على يديها قفزات متتالية حتى جاوزتني قليلا، وصاحت بي:
- هيا
وسحقتني المفاجأة، يا للكارثة، معوقة! نعم ورجلاها متصلبتان تنسحبان خلفها على الأرض، كل هذا الجمال ومع ذلك مقعدة!
ومضينا وهي تتقافز مرة عن يميني وأخرى عن يساري، ودار بيننا حديث لم أذكر منه شيئا بعد ذلك، وصعدنا مرة أخرى إلى نفس المساكن المعلقة على جانب البطحاء، وكانت متعودة كما هو ظاهر على إعاقتها فلم يظهر عليها أي حرج، وسلكت بي طريقا بين أكواخ السعف وقد أطبق الظلام الذي بين غياب القمر وطلوع الفجر حالكا كئيبا، ولم يعد هناك سوى ضوء النجوم، وما لبثت أن توقفت عن القفز وقالت:
- هنا بيتنا، هات الصحن
وأردفت وهي تمسكه من يدي وقد انحنيت لأعطيه لها حتى شعرت بأنفاسها على وجهي دون أن أراها جيدا:
- هل ستعود ليلة غد؟
- بلا ريب سأعود.
لكن القمر اليافع في الليلة الموالية طلع علي وأنا بين أهلي فوق سطح منزلنا في العاصمة وسألني أحدهم:
- يبدو أنك لم تتحمل حر الصيف هذا العام؟
فأجبته:
- كان أمرا لا يطاق.




[SIZE=6]* من "ليلة صيف" (مجموعة قصصية) محمد إبراهيم ولد محمدنا


** عن موقع سدنة الحرف[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى