كاظم حسن سعيد - البريكان: مجهر على الاسرار وجذور الريادة (ج2).

(ج2).

اخبرتني زميلة لي بعدما استدعتني (للاسف ساخبرك بان صديقك البريكان قد قتل )...لقد كانت طعنة لا تحتمل وشعور يصعب وصفه..اتذكر ليلتها لم انم .. وانتابني جزع وحزن عميق ...حتى كتبت قصيدتي عنه قبيل الفجر.كنت ارقبه متارقا وربما صرخ <اولاد الكذا... يريدون ان يقتلوني >.وكان يمر عليه يومان او ثلاثة بلا نوم ..حتى انه خاطب نجله الاكبر ذات ظهيرة, مؤنبا : (ابني انا في حالة من التازم لدرجة اتصورني استطيع ان اقتل . )...وقال لي مرة <هؤلاء مجرمون محترفون > ...كنا انا وهو نتوقع ان يمر بفاجعة.ولهذا حينما زارنى ابنه الاكبر ماجد في منزلي واخبرني بالحادث..قلت له هل القاتل الاكبر او الاصغر فحدد احدهما.في الاشهر الاخيرة من حياته اقترحت عليه <ان يستقدم حارسا او يرحل لبغداد او الخارج..اجاب الخارج يحتاج مبالغ ..اما الرحيل الى بغداد فيصعب على الانسان ان يهجر منزله وبقيت فكرة استخدام حارس معلقة .وكان منزله لا يخلو ليلا فاما انا او ماجد نتواجد في المنزل.كنا نتناوب المبيت.فان الح نجله على المبيت عند امه فلا بد ان ابات انا.كنا نحاول ان نمنع سطوة الرعب من المنزل بما نستطيع.وان نحافظ على شاعر الموت حسب تعبيره (انا شاعر الموت م ).كان يستقل غرفة فاخرة في العلية,ولم يكن احيل على التقاعد.. هنالك في صباح ما صحونا..والقى نظرة مراجعة على درس القواعد ثم دسه بحقيبة بنية انيقة وغادرنا المنزل وافترقنا امام بناية المعهد لامضي لوجهتي ويعبر هو جسرا ضيقا ليلقي محاضراته في المعهد الذي يجاور دائرة الكهرباء حيث ينتصب عاليا خزان الماء <باور هوز>.كان يضع صينية او معادن صغيرة على باب الهول من الاسفل ويقول (لعلني اسمع لو تسلل لص او معتد)..ويهتم بغلق الباب..ولم يتوقع مهارة < الطارق> با لتسلل.ولم يعد ذلك المدرس في بغداد يتناول الوجبات السريعة بلا حذر ويقضي ساعات في نفس الباص الحكومي..مستطلعا حركة الناس والاشياء..لقد تمكنت منه السنوات وصار شبه وحيد واشد حذرا على صحته. وفي ذروة الرعب من النهاية المفجعة كتب قصيدته <من الطارق >.. ((على الباب نقٌر خفيْف على الباب نقٌر بصوٍت خفيض ولكّن شديد الوضوْح يعاود ليلاً، أراقبه أتوقّعه ليلة بعد ليلْه أصيخ إليه بإيقاعه المتماثِل يعلو قليلاً قليلا ويخفت أفتح بابي وليس هناك أحْد من الطارق المتخفي؟ تُرى شبح عائدٌ من ظلام المقابْر؟ ضحيّة ماٍض مضى وحياة خلْت... اتت تطلب الثأر؟ روح على الافق هائمة ارهقتها جريمتها اقبلت تطلب الصفح والمغفرة ؟ رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضةومهرا لاجل الرحيل )). لقد نجا من الموت مرات باعجوبة ..(مرة صعقتني الكهرباء وهويت ارضا ..و كان احساسي الاول بعد نجاتي هو شعوري بالفرح لانني حي..م)..(في الحرب العراقية الايرانية قبيل وصولي منزلي على بعد امتار نجوت من سقوط قنبلة تجاوزت موقع سقوطها م). في اليوم الثاني من الحادث صحبني ماجد من منزلي الى قضاء الزبيرحيث اقيم له مأتم ..هناك ولاول مرة في حياتي شهقت ابكي..وقررت ان اقرأ لنفسي في ذكرى رحيله من كل عام قصيدته (قصيدة ذات مركز متحول).ولم تكن جريمة القتل الا تنفيذا ناجحا تمكن من اسكاته للابد..فقد تعرض لانتهاكات قاسية تمثلت بسرقة منزله مرات عدة ’ودس السم له <حسب ما اخبرني>..وتهديدات ..انتهاكات توجت بالتسلل الى نتاجه الادبي وسرقته بعد ان فارق الحياة في عملية فاجعة , غامضة التنفيذ والدوافع.لقد تفاجأت وانا افتح باب منزلي بظهور البريكان وصديق له فسالني :هل تعرف فلان قلت :لا ..اجاب (لا يهم اريد اصحبك لمنزلي)وفي الباص اخبرني (يا اخي لقد تعرضت الى سرقة .).ولما وصلنا منزله ادركت بانها سرقة غريبة ,فقد كانت قضبان شباك غرفته السفلية معوجة لتشكل فتحة صغيرة ..فيما كان باب الهول مغلقا.وافنينا ساعات نحاول تفهم طبيعة السرقة .وبسب توالي التعرضات كنت قلقا لا على حياته فحسب بل وعلى اعماله الادبية ,فاقترحت عليه ان ينسخ نتاجاته فلم انجح..لقد احس مثلي بالخطر ..فعندما اشتد القصف على البصرة اودع اوراقه في بريد في بغداد ولكنه سحبها فيما بعد..وهذا ما تاكدت منه حينما صحبني ماجد الى العاصمة ليناقش اطروحته لنيل الماجستير..فقد زرنا يومها احد اقربائه الذي سلم مفتاح بريده له وأكد لنا عدم وجود اوراقه الادبية هناك .في زيارتي الاولى لجيكورعبثا بحثت عن <بويب > فلم يعد مخلدا الا في شعر السياب..تجولت في بيته <الكوت>..وشعرت بان جيكور قرية بالغة البعد عن حركة الحياة ..نخيل وقناطر وانهار..موقع مثقل بالحزن والمطر الا انها جزء من مدينة عريقة (ابو الخصيب)..الزبير عكس ذلك ,مدينة تاريخية زاخرة بالتراث تلتصق بصحراء مترامية ..تستقطبك بيوتها الواسعة وترميك الى ذاكرة التاريخ..لكنها بعيدة ايضا عن مركز المدينة ..(كان السياب رجلا بسيطا جدا ..ــ حدثني وهو يبتسم ـ ربما تذكر مقالبه وطرائفه>..وقد زج نفسه خطأ بمحرقة السياسة ..قلت له : يا بدر لا تنس انك شاعر ..وحين اراني بعض قصائده التي كتبهاعن تجربته في لبنان ..علقت (لو كنت مكانك لما ثبتها في ديوان )..واضاف :<اهم ما انتج السياب نغمة <فعل >في انشودة المطر ولكني سبقته وقرات له قبلها ( عَدَمْ..عدم ..
يدبُّ بين الرِّممْ
كأنّهُ قد قُدَّ من هيكل صخرٍ أصَمْ) قلت بنفسي ساثبتها بالكتاب عنه يوما ونسيتها الا كلمات..عدم ..عدم .. حتى وجدتها بمذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد .قلت له (في انشودة المطر ابيات لافتة مثل: <كأن صيادا حزينا راح يجمع الشباك
ويلعن المياه والقدر >فاجابني <ليست للسياب م>..واستغربت متسائلا مع نفسي : هل هي للبريكان اومن الشعر الانكليزي ..فيما بعد سالته عن البيت الوارد باحدى قصائد سعدي يوسف وقد وضعها بين هلالين <اسير مع الجميع وخطوتي وحدي > فتبسم وصمت ..لكنه صرح ذات يوم (من هذا المكان اطلق مصطلحات فتشيع والان وضعت مصطلح تجوهر اصبر قليلا ستراه منتشرا).. كيف ومتى تعرف البريكان على السياب ؟ افي مقاهي البصرة ام في بغداد ؟..لقد ضمت دار المعلمين العالية في زمن متقارب شعراء سيكون لهم شان مهم في الشعر العربي اغلبهم شبه مفلسين ..عبد الرزاق عبد الواحد بدر السياب عبد الوهاب البياتي ..فيما كان اكرم الوتري والبريكان هناك في كلية الحقوق .في منطقة الحيدرخانة وتحديدا في مقهى حسن عجمي ستنطلق شرارة الشعر الحديث..اي حرب سيخوضها هؤلاء الشبان الواعدون امام قرش المتزمتين .

كاظم حسن سعيد
العراق \البصرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى