مصطفى نصر - إبراهيم الهلباوي مثال يتكرر في كل عصر

أشتهر إبراهيم الهلباوي كأهم محام مصري ظهر في الآونة الأخيرة، وكان المصريون في القرى والأحياء الشعبية، عندما يتشاجرون، يقول أحدهم للآخر:
- ديتك خمسميت جنيه، أقتلك وأدفعهم للهلباوي، فيطلعني من القضية زي الشعرة من العجين.
ولم يكن المتحدث يمتلك خمسمائة قرش، وإنما هو كلام وتهديد لا يمكن تنفيذه، فقد كان أجر إبراهيم الهلباوي خمسمائة جنيه في القضية، وقت أن كان مرتب مأمور قسم الشرطة لا يزيد عن ثمانية جنيهات. وأصبح الهلباوي مضرب الأمثال في فصاحته وقدرته على الإقناع، وذكرته الأفلام المصرية في حواراتها خاصة التي يكتبها أبو السعود الإبياري. فيقول إسماعيل يس في فيلم " قطر الندى " عن نفسه، " إنه أحيانا يكون مفوها ولا الهلباوي" بمعني إن رجل الشارع العادي يعرف من هو الهلباوي.
ويقول العقاد عنه:
كان ذا ذلاقة لسانٍ لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها.
ويقول عبد العزيز البشري عنه: إنه شيخ يتزاحف على السبعين إن لم يكن قد اقتحمها فعلاً، عاش مدى عمره يحبه ناس أشد الحب ويبغضه ناس أشد البغض، إلا أن هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم جميعاً إلا التسليم بأنه رجل عبقري.
كان من الممكن أن يظل إبراهيم الهلباوي محامياً عظيماً يدافع عن قضايا بلاده، وعن المتهمين بقتل الإنجليز المحتلين، ويقضى عمره كباقي خلق الله، يكسب من عمله، ويستفيد من الموهبة التي منحها الله إليه، إلى أن يموت فيذكر التاريخ إنه أهم محامي في مصر، لولا حادث عارض مر به فغير تاريخ حياته كلها، وأخرجه من طائفة العباقرة الوطنيين إلى طائفة الخونة. فقد حدثت مذبحة دانشواي الشهيرة وهو في الثامنة والأربعين من عمره. وفي العشرين من يونيو 1906، أصدر بطرس باشا غالي ناروز - وزير الحقانية بالنيابة - قراراً بتشكيل المحكمة المخصوصة لمحاكمة المتهمين في الحادث برئاسة بطرس باشا غالي نفسه، وعضوية كلٍ من المستر هبتر نائب المستشار القضائي، والمستر بوند وكيل محكمة الاستئناف الأهلية والقائمقام له ادلو القائم بأعمال المحاماة والقضاء بجيش الاحتلال، وأحمد فتحي زغلول بك رئيس محكمة مصر الابتدائية وأن يكون انعقادها في شبين الكوم يوم الأحد 24 يونيو 1906.
وحدث لبس في المعلومات مازال سائرا حتى الآن، فالبعض يظن أن إبراهيم الهلباوي كان مدافعا عن متهمي دانشواي، لكنه باعهم، كما يحدث أحيانا بأن ينحاز محامي للخصم ويخون المدعي الذي وكله للدفاع عنه. وسبب ذلك اللبس أن الهلباوي كان مقررا – فعلا – أن يدافع عن بعض متهمي دانشواي، فخرج من بيته ووقف على رصيف القطار بمحطة مصر لكن لإرادة إلهية بأن يختتم حياته بالخيانة والعار لم يجد قطارا ذاهبا لشبين الكوم، وعليه أن ينتظر بعض الوقت حتى يأتي القطار، ولكي تكتمل المأساة فقد قابل على رصيف القطار؛ الياور الخاص لرئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا فأخبره بأن "الباشا " ينتظره في مكتبه لأمرٍ مهم.
فأجل سفره وأسرع لمقابلة رئيس الوزراء، فأبلغوه هناك بأن الحكومة قد اختارته ليكون ممثل إدعاء في القضية باعتباره من أكبر المحامين في مصر.
الغريب أن الهلباوي سعد بهذا التكريم، وقبل على الفور، بل عرض أن تكون أتعابه 300 جنيها مع إنه كان يتقاضى 500 جنيه من الأفراد المصريين العاديين.
وفعل الهلباوي الأعاجيب لكي يدين أهل بلده الأبرياء مجاملة للإنجليز الظالمين. وقد جعل موت الإنجليزي الذي كان بضربة شمس؛ قتلا من الفلاحين وبسبق الإصرار على موته. واستخدم عبقريته في إدانة أبرياء؛ كادت المحكمة أن تبرئهم، فكان سببا في قتل بعضهم وجلد وسجن آخرين. وذلك بقلب الحقائق وبالإدعاءات الظالمة. وانتهت المحاكمة، وعاد إبراهيم الهلباوي إلى عمله الحقيقي محامياً عن الأفراد في مواجهة الحكومة، فحاول أن يمحو عاره دون فائدة، فقد خطب في سرادق ضخم ازدحم فيه أنصار حزب الأحرار الدستوريين من أجل تخليص البلاد من يد المحتلين، وقوبل خطابه بالهتاف والتصفيق، وامتلأ الرجل ثقة وزهوًا وظن أن الناس قد نسوا فعلته الحقيرة لكنه ما كاد يفرغ من خطابه حتى ارتفع صوت في آخر السرادق يهتف:
- يسقط جلاد دنشواى.
وتبعه الكثير في الهتاف ضده، وردد البعض آسفا:
- ده أحنا ما صدقنا نسينا فعلته الدنيئة، جاي يفكرنا ليه؟!
وتقدم للانتخابات البرلمانية، وفي السرادق المقام لمناصريه وأتباعه، أطلق البعض الحمام، من أول السرادق الكبير لآخره، ليذكر الناس بما فعله في الأبرياء في محاكمات دانشواي البغيضة.
كلما قرأت عن إبراهيم الهلباوي تذكرت حالات كثيرة مشابهة، ناس تعيش في أمان واحترام من الجميع، لكن تأتيها لحظة ضعف، تجرفها من مصاف الشرفاء إلى مصاف الخونة. ومن هؤلاء الأخوين " مكي " ففي حياتهما تشابه كبير بالهلباوي، فقد عاشا طوال حياتهما رجلا قضاء على درجة عالية من الاحترام والنزاهة، يدافعان عن استقلال القضاء، خاصة أكبرهما، لكن سوء الحظ الذي صادف إبراهيم الهلباوي صادفهما، فقد فاز الإخوان في الانتخابات البرلمانية بعد نجاح ثورة 25 يناير 2011، ثم فاز مرشحهم محمد مرسي وأصبح رئيسا للبلاد. كل هذا والأخوان القاضيان، كما هما في موقفهما الداعي لاحترام القضاء واستقلاله. وبدأ سوء الحظ يتحرك نحوهما ببطء عندما أعاد مرسي مجلس الشعب المنهار بحكم المحكمة الدستورية العليا. إعادة مجلس الشعب كان بداية لموقف الإخوان من جميع مؤسسات الدولة، فهم يؤمنون بالنظام القديم في الحكم أيام الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، سلطان كلمته هي النافذة حتى لو كان حكمه جائرا، وسياف يتبع الحاكم، فيشير إليه السلطان فيسرع بعزل رأسه عن جسده، وقد أرسل أيمن الظواهري زعيم القاعدة برسالة تهنئة لمرسي بمناسبة فوزه بالرئاسة قال فيها:
- احكمْ بشرع الله، نقفْ بجوارك. ومن البداية، اعلم أن لا شيء اسمه ديمقراطية، فتخلّصْ من معارضيك.
وأعلن أكثر من مدعي بأن الديمقراطية حرام، ناصحين مرسي بالتخلي عنها في أقرب وقت وتركها للمعارضة.
هذا ما كان يحلم به الإخوان وبدأوا في تنفيذه بإعادة مجلس الشعب المنهار. فاعترض المستشار أحمد الزند رئيس نادي القضاة وشن هجوما شديدا على الرئيس قائلا:
- قرار مرسي بعودة البرلمان لن يمر مرور الكرام.
وأحس الأخ الأكبر هنا بأن الفرصة قد واتته ليكون وزيرا، فهاجم زميله – الزند – قائلا:
- تصريحاته سياسية من أجل إفساد العلاقة بين مؤسسة الرئاسة والمجلس العسكري.
وأكمل الأخ الأكبر مهاجما زميله:
- تصريحاته لا تعبر إلا عن نفسه.
وبالفعل نجحت خطة الأخ الأكبر، ونال ما يتمنى وأصبح وزيرا، وأخوه الأصغر نال منصبا أكبر وأهم. وظل موقف الأخوان مؤيدا لحكم الإخوان، وعندما أصدر مرسي إعلانه الدستوري المحصن، والمخالف لكل الشرائع الإلهية والبشرية؛ لم يعترض الأخوان وهما أدرى من غيرهم بفساد هذا الفعل، وعقد الأخ الأصغر مؤتمرا صحفيا يوم الأربعاء 4 ديسمبر 2012، أعلن فيه إنه غير راضي عن هذا الإعلان - لكنه لم يذكر سبب بقاءه في منصبه رغم اعتراضه - وخرجت وقت انعقاد مؤتمره جحافل الإخوان لفض اعتصام المتظاهرين سلميا أمام الاتحادية، بعد أن رفض وزير الداخلية فضه بالقوة، وقال الأخ الأصغر بأن هذا المؤتمر ليس تغطية لما سيحدث أمام قصر الاتحادية، ثم أعلن " بأن البقاء للأقوى "، قالها دون مناسبة، مما يؤكد أن هذا المؤتمر كان تغطية لما سيحدث من قتل وتعذيب وإصابة للمتظاهرين سلميا.
لقد خرج الأخ الأكبر من الوزارة، وخرج شقيقه من وظيفته المرموقة، بعد إلغائها في دستور 2012. لم يحصدا نتيجة انحيازهما للباطل سوى ما ناله إبراهيم الهلباوي عندما انحاز للإنجليز وقت محاكمة دنشواي. فقد عاش أربعة وثلاثين عاما بعد خيانته لأهل بلده تعذب فيها وطارده اسمه الجديد: " جلاد دنشواي " إلى أن مات في عام 1940 وهو في الثالثة والثمانين من عمره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى