بهجت العبيدي - العالم الغربي... نظرة محايدة.. قضية الدكتور حسن موسى المحامي نموذجا

استيقظت النمسا في يناير منذ سبع سنوات على خبر ملأ كل وسائلها الإعلامية، كان بطله الناشط في العمل الإسلامي والعربي والمصري العام المحامي الشهير الأستاذ الدكتور حسن موسى رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان بالنمسا حيث تم القبض عليه بتهمة الاستيلاء على المال العام - مبلغ ٨ مليون يورو - كانت تدفع لمشروعه التعليمي الكبير في قلب العاصمة النمساوية فيينا.

ولكي نعلم خطورة هذه التهمة على صورة المسلمين والعرب، فهذا يدفعنا للتعرف على الرجل "المتهم" قليلا، فالشاب اليافع أو بالأحرى الصبي حسن موسى كان قد غادر القاهرة متجها إلى فيينا لدراسة الحقوق بجامعتها العريقة كأول عربي ومصري يدرس القانون في المنطقة الناطقة بالألمانية، كان ذلك بعد أن شارك في انتفاضة ١٧ و ١٨ يناير ١٩٧٧، تلك الانتفاضة التي رفض فيها مع الشعب المصري إجراءات الرئيس المصري الأسبق أنور السادات الاقتصادية والتي رفع من خلالها أسعار الخبز، اعتقل الشاب في تلك الأحداث في سجن القلعة من ١٨ يناير ٧٧ إلى ٢٣ مارس ١٩٧٧ فقررت الأسرة إبعاده عن مصر ليلتحق بخاله الذي كان يعمل بمنظمة الأوبيك بالعاصمة النمساوية فيينا ليدرس بها القانون.

ومن هنا يشتبك مع المجتمع النمساوي اشتباكا قويا، فما أن تحصَّل على ماجستير الحقوق في العام ١٩٨٦ إلا وتقدم لنيل درجة الدكتوراه التي اختار لها مجال القانون المقارن ليختار موضوعا غاية في الأهمية، فإذا كان للغرب نظامه في الحكم وهو النظام الديمقراطي فإن للإسلام هو الآخر نظرية في الحكم هي الشورى، فاختار موضوع الدكتوراه الخاص به "النظرية السياسية: الإسلام وأصول الحكم، مقاربة بين الشورى والديمقراطية". ليصبح أول من يشتغل على هذا المجال في المنطقة الناطقة بالألمانية ويبرهن على أن الفكر الإسلامي له نظرية في الحكم تقوم على الشورى التي تقابل الديمقراطية في الغرب. ليؤكد عراقة النظم الإسلامية والتي تقف كتفا بكتف مع النظام الغربي.

نكمل تلك الخلفية التي سنحتاجها لاحقا حينما نستعرض ما ذكرته النيابة العامة في نهاية تلك القضية التي اتهم فيها بتبديد المال والتي استمرت سبع سنوات، ونقول: بعد أن تحصَّل على الدرجة العلمية المرموقة عمل في المحاماة وتم تكليفه من وزارة التعليم النمساوية بإقامة الأكاديمية الإسلامية التي كانت مهمتها تخريج مدرسين لمادة الدين الإسلامي وإعداد الأئمة والدعاة لدولة النمسا، والتي تبعها بعد ذلك بمشروعه التعليمي الأكبر الذي يهتم بالنشء المسلم منذ الميلاد من خلال مجموعة من الحضانات الإسلامية يتبعها الدراسة في مجموعة من المدارس في المراحل التعليمية المختلفة: الابتدائية والإعدادية والثانوية، والتي يدرس بها المنهج النمساوي الكامل بالإضافة إلى منهج عربي إسلامي مستمد من مناهج مؤسسة الأزهر الشريف، هذا الذي نجح فيه نجاحا كبيرا، وهذا الذي أيضا يجعل سهام التهمة التي وجهت إليه تصيب المجتمع المسلم والعربي بالنمسا، وهذا بالفعل قد وقع بشكل يبدو أنه كان متعمدا، فلقد كانت التغطية الإعلامية كما قلنا آنفا هائلة لهذه التهمة التي وجهت إليه، خاصة وأنه قد تم القبض عليه وأودع الحجز لمدة عشرين شهرا.

أمضى الطعان

تابع المجتمع المسلم والعربي والمصري بالنمسا على وجه التحديد هذه القضية بشغف شديد، حيث تشككت الغالبية من المتابعين من أبناء الجالية في الاتهامات التي وجهت لأحد أهم الفاعلين في العمل الإسلامي والعربي والمصري العام، ولكن للأسف كان هناك فئة من أبناء هذه الجالية اسْتَنتْ للرجل السكاكين وأخذت تقطيعا فيه قبل أن يصدر القضاء النمساوي حكما نهائيا في هذه الاتهامات، فوجدنا من يتشفى في الرجل، ورأينا من ينشر كافة الأخبار التي تتناول المتهم بالسلب وتكيل له الاتهامات على صفحات التواصل الاجتماعي في حالة تعكس أولا عدم التريث حتى الوصول إلى حكم بات، وثانيا: حالة التشفي في أحد أبناء جلدتنا. وكان ذلك أسوأ ما في هذه القضية وأمضى الطعنات حيث كشف عن جانب مقيت من جوانب شخصيتنا في المهجر.

وهج القضية

مع الوقت بدأ وهج القضية يتلاشى شيئا فشيئا، وابتعد عن الرجل بعد أن تم إطلاق سراحه من ابتعد، وهم الغالبية العظمى، وظل بجوار الرجل من آمن ببراءته - وهم أقلية من الأصدقاء - وهناك ندرة انتظرت حكما نهائيا في القضية لتحدد موقفها، ولقد كان الغالبية العظمى ترى أن الحكم سيكون ضد الرجل وذلك قياسا على تلك الفترة الكبيرة التي قضاها في الحبس الاحتياطي، ظانين أن النيابة في دولة عريقة بالقانون مثل النمسا لا يمكنها أن تحتجز متهما للمدة القصوى دون أن تكون متأكدة كل التأكد من ارتكابه للتهم التي كيفتها قانونيا له.

وكان المتهم هو الوحيد المؤمن إيمانا راسخا ببراءته فعلى مدار ٥٦ جلسة قدم فيها المستند تلو المستند والدليل تلو الدليل والحجة وراء الحجة ليثبت براءته، والذي يقول: إنها ليست براءة شخصية بل هي براءة فريق وتوجه إسلامي عروبي مصري على أرض النمسا.

النيابة أخطأت

الآن يمكننا أن نغوص قليلا في تراكيب المجتمعات الغربية، والتي تفصل فصلا تاما بين سلطاتها، والتي لا سلطان لسلطة فيها على سلطة، فبعد سبع سنوات من التقاضي تعلن النيابة العامة للاقتصاد و مكافحة الفساد أن الإجراءات التي اتبعتها النيابة العامة لبلدية فيينا كانت خاطئة وأن الناشط الأستاذ الدكتور حسن موسى المصري العربي المسلم بريء من كل التهم التي وجهت إليه، في ذات الوقت الذي تعلن فيه بلدية فيينا، أنه بعد مراجعة الأموال ووجوه صرفها، فإنها تنسحب من القضية لأنها لم تجد هناك شائبة تشوب وجوه الصرف وليس هناك سوء تصرف في هذه الأموال ولم يحدث لها ضررا من التعامل مع الدكتور موسى أو الجمعية التي يرأسها.

الأكثر من ذلك بل والأخطر والذي يدق ناقوس الخطر لأبناء الجالية الإسلامية والعربية هو إعلان النيابة في مرافعتها النهائية التي انتهت بطلب البراءة بأن القضية قد تم تسييسها، والخطورة يمكن أن يدركها القارئ الكريم بوضوح شديد إذا علم أن المشروع التعليمي الذي كانت الأموال قد منحت له هو دور حضانة ومدارس إسلامية بفيينا، فحينما تعلن الصحف والإعلام النمساوي بناء عن الحكم الصادر من المحكمة أن القضية قد تم تسييسها فهذا يؤكد من ناحية أن هناك تيارا معاديا لهذا النوع من التعليم داخل مؤسسات النمسا، ومن ناحية أخرى فإنه يعكس عدم رضوخ أو خضوع المؤسسة القضائية لأي نوع من الضغوط السياسية، وهذا يعكس قدرة المجتمع الغربي - النمسا مثالا - على تصحيح الأخطاء، وعلى المضي قدما في تحقيق العدالة التي هي قيمة إنسانية وإسلامية، والتي هي أساس الملك.

أنواع التعويض

لم تكتف النيابة العامة للاقتصاد و مكافحة الفساد بإصدار حكمها ببراءة المتهم فحسب، بل توقفت في شجاعة عند الأضرار التي لحقت به، وقبل أن تعددها طرحت سؤالا استنكاريا: هل من ينفق من أمواله الخاصة ويضعها في مشروع تعليمي تثقيفي يمكن أن يمد يده لتعبث بالمال العام؟!.

ذكرت النيابة العامة للاقتصاد ومكافحة الفساد، في شفافية واضحة، أن المتهم وقع عليه عدد من الأضرار صنفتهم: ماديا ومعنويا، فلقد تم تقييد حريته حينما وضع في الحبس الاحتياطي لمدة عشرين شهرا، وهذا يستلزم تعويضا مناسبا، ووقع عليه ضرر من نوع آخر وهو ضرر اجتماعي حيث تم النيل من سمعته، مُذكِّرةً بوضعه ومكانته الاجتماعية كمحامي التي أصابها ضرر بالغ، وهذا يستدعي تعويضا آخر يأتي في مقدمته رد اعتباره إعلاميا بأن تقوم كافة الصحف النمساوية التي تناولت اتهامه بنشر البراءة بنفس الحجم في ذات الموضع وعدد الموضوعات بل وقدر عدد الكلمات، وهذا ما قد تم بالفعل، أما الضرر المادي الآخر الذي وقع عليه فهو حرمانه من الوصول إلى حساباته البنكية، هذا الذي أدى إلى أن يعيش هو وأسرته في حالة الشظف بالحد الأدنى من مستلزمات الحياة، وهو ما يفرض تعويضا آخر للمتهم، بالإضافة لتعويض هؤلاء الذين فقدوا وظائفهم - وهم أكثر من ٧٠ مدرس ومدرسة ومثلهم من العاملين في دور الحضانة - بسبب الإجراء التعسفي الذي قامت به النيابة العامة لبلدية فيينا.

هنا أيضا يمكننا الوقوف عند هذا الوضوح وهذا الكم من التعويضات، فلم نجد، نتيجة للخسائر التي سوف تتحملها الدولة، أي محاولة للهروب من هذه التعويضات، هذا الذي يعكس حرص النيابة العامة للاقتصاد و مكافحة الفساد على تطبيق القانون دون النظر إلى اسم المتهم ولا أصل جنسيته ولم تلتفت لعقيدته خاصة وأن له موقف من القضايا العربية المصيرية والتي على رأسها القضية الفلسطينية حيث يعلن بوضوح وقوفه مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وكان قد عارض زيارة الرئيس السادات للقدس وما نجم عنها من اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية في كامب ديفيد، كما عارض اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، واتفاقات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، هذا الذي يستمر في إعلانه مؤكدا أنه لا سلام بيننا وبين إسرائيل قبيل عودة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الذي بين الفينة والأخرى يقيم ويشارك في فعاليات داخل الوطن العربي وخارجه لدعم القضية المحورية للأمة وهي القضية الفلسطينية، والتي يظن أن هناك ظلال لها في الاتهامات التي وجهت له.

الخلاصة

لا يمكن لأحد أن يزعم، بعد هذا العرض لقضية واقعية، أن المجتمعات الغربية مجتمعات مثالية، بل علينا أن ندرك أنه مهما كانت المجتمعات متقدمة، فإنه يظل هناك نواقص في الإجراءات وعيوب في التطبيق، فضلا عن التوظيف السياسي لأية قضية، هذا من ناحية، وعلى الجانب الآخر فإننا يمكننا أن نرى بأم أعيننا من خلال هذا السرد الذي قدمنا كيف نضجت هذه المجتمعات لدرجة تستطيع من خلالها تصويب الأخطاء، كما يمكننا أن نلمس بوضوح أن استقلال المؤسسات وفي القلب منها المؤسسة القضائية يضمن لكل من يخضع إلى تحقيق أن يصل في نهاية درجات التقاضي إلى حقه كاملا، كما يضمن أن تعود لأي متهم كرامته بحكم القانون.

ولنا هنا ملاحظة في غاية الأهمية، وهي عدم استنكاف النيابة العامة للاقتصاد ومكافحة الفساد في إعلان الخطأ الذي وقع فيه المستوى الأدنى "النيابة العامة ببلدية فيينا"، وهو ما يعكس السعي الحثيث للوصول إلى الحقيقة دون الالتفات لأي شيء آخر، وهو ما يضع المؤسسة القضائية فوق جميع المؤسسات التي تسعى إلى تحقيق العدل الذي هو أساس الملك.

هذا الذي يؤكده عالمنا العربي والإسلامي الكبير ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع حينما طالب بحتمية العدل وتجنب الظلم الذي يودي بالمجتمعات ويخرب العمران .. فالشريعة أو القانون عنده هي ضمان للعدالة بين الناس إذا ما تحققت تحقق بها عز الملك، وعز الملك لا يتحقق إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، وأن العدل عند ابن خلدون مفروض بحكم إلهي.

بهجت



بهجت.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى