بوي جون - حجر أبيض.. فصل من رواية

1

بعد مرور ثلاثة أيام على استيلاء الجنرال “عبود” على السلطة، قدم إلى “نمولي” كاهنٌ جديد. كان ألمانياً ما تزال حروق الحرب العالمية الثانية بادية على جسده، منذ اليوم الأول لوصوله أكد الأب “مارشيلو”، أنه مختلفٌ عن سلفه الأب “سلفسترو”، وبشكل يثير الانتباه، وعلى عكس ما كان سلفه يفعل، أخذ يتجول في المدينة، ويتحدث مع كل مَنْ لا يرفض الكلام معه.

بل قيل إنه اتخذ لنفسه مجلساً في إحدى الإندايات ذات يوم، ورغم أنه لم يشرب شيئاًً، حيث اكتفى بطلب الاستماع لإحدى أغنيات “فرانكو ومبا”(1) من مشغل الأسطوانات، تفشى بين الناس خبر أن القس الجديد محض سكير، يقضي جل يومه شارباً الجعة في الإنداية، ومضى البعض بعيداً فزعموا أنهم شاهدوه يحمل إحدى الفتيات على دراجته من مكان النقارة، إلى مكان لا يمكن أن يكون الكنيسة بأي حالٍ من الأحوال.

كانت تلك المزاعم تبلغ مسامع الراهبات فيشعرن بالحزن الشديد، لأن الأب “مارشيلو” حسب رأيهن يحط من مكانة الكنيسة، ويدمر كل السمعة الطيبة والمظهر المهيب لها، التي غرسها في النفوس الأب “سلفسترو” على مدى عشر سنوات، من نكران الذات وتجاهل الدنيا.

التزم الأب “سلفسترو” ببرنامج صارم، لم يشذ عنه منذ وصوله المدينة وحتى مغادرته إياها. لقد كان ينهض من النوم عند الرابعة فجراً، ليقود الراهبات في صلاة الصباح وطلب التشفعات من الأم العذراء. وكان يستمر في هذا الطقس حتى السادسة تماماً؛ حيث يركب دراجته ويذهب إلى النهر، لجلب ماء الاستحمام يرافقه كلبان سلوقيان، وقد كان يتوقف في الطريق ليلقي التحية على بعض الأشخاص، ويقوم بملاعبة بعض الأطفال قبل أن يغمرهم بالحلوى ثم ينطلق.

أما في ساعات الظهر فقد كان يوزع وقته، بين تفقد أشجار المانجو وشجيرات الموز في الفناء الخلفي للكنيسة، دون أن ينسى إسداء بعض النصائح والتوجيهات الصغيرة للإخوان الذين يربون خلايا العسل، لكن الجزء الأكبر من وقته كان يذهب في إلقاء الدروس لتلاميذ الصفين الرابع والثالث، قبل أن يدخل في القيلولة حتى الثالثة عصراً، حيث ينهض بعد ذلك ليقوم بأداء بعض التمارين الرياضية قبل أن يتناول وجبة الغداء.

كانت وجبة غدائه دائماً، تتأرجح بين شريحة لحم صغيرة، وأرز بـ”ملاح الجنجارو”، أو القليل من الأُسوبي(2) بعصيدة دقيق “البافرا” في بعض الأحيان، لكنها لم تكن لتخلو قط من القليل من “النغونغو”(3) المخلوط بالعسل البري، إذ أن هذه الوصفة الغريبة من “النغونغو”، كانت الأثيرة إلى نفسه لأنها كانت تذكره دائماً بالقديس المحبب إلى روحه، “يوحنا المعمدان”، الذي كان حسب رواية القديس “لوقا” للإنجيل، يقتات على الجراد والعسل البري، عندما كان في الخلاء منشغلاً بإعداد الطريق للرب. وكان الأب “سلفسترو” يحرص كل أسبوع، ومن باب المحافظة على بطنه خالية من الديدان، على تناول طبخة “اللوبرتلنق”(4) شديدة المرارة، حيث كان يشدد على طاهيته البارياوية قائلاً:

-لا تجعليه يفقد طعمه، أريده كما هو، مرَّاً يا “فوني”.

أما بعد الغداء، فكان يوزع نفسه بين تفقد المناشط الكنسية، حيث تراه بين جوقة التراتيل يُظهِر اهتماماً بأدائها تارةً، وتارةً أُخرى تراه يشجع لاعبي كرة السلة، قبل أن ينطلق إلى مجالسة طالبي الأسرار المقدسة حتى الساعة السابعة مساءً، حينها يأتي إلى حلقة الدرس أعضاء جوقة التراتيل، ولاعبو كرة السلة، وأطفال الكورس لختم اليوم بصلاة قصيرة، قبل أن يطلب من الجميع، الذهاب كل واحد منهم إلى طريقه يصحبه سلام المسيح، ليغرق هو بعد ذلك في صلاة المساء.

2

بينما الراهبات يتجادلن حول ما يمكن فعله للأب “مارشيلو”؛ كانت شعبيته تنمو بين عامة الناس، وقد كان الكثير من العامة يحسون بالانتماء إليه، أو بكلمات أكثر دقة يحسون أنه ينتمي إليهم. لقد كُنَّ في حيرة من أمرهن، لأن الأب “مارشيلو” أخذ يمعن في سلوكياته المناقضة لكل تركة المحترم “سلفسترو” يوماً بعد يوم، زائداً رصيده من إعجاب عامة الناس، ومع ذلك فإن دخوله الإنداية لم يكن السبب الذي غمره بالصيت، بل المعجزة التي فعلها لأسرة “إيتو أوجا”.

خمسة أطفال، وزوجة مصابة بنوبات “الجوكجوك”(5)، هؤلاء الستة هم أفراد أسرة “إيتو أوجا”، الذي كان يقضي جل وقته في النهر، ورغم أنه كان صياداً يحالفه الحظ على الدوام، إلا أنه رغم ذلك كان يعاني من أمرٍ حار الناس جداً في تفسيره، كانت الصاعقة تضرب منزله كل خريف، محدثةً دماراً كاملاً، ليبدأ هو في تشييد المنزل من جديد، ومداواة زوجته التي كلما ضربت الصاعقة المنزل أخذتها نوبةٌ من جنون “الجوكجوك”.

وكانت كلما اشتدت بها النوبة أحدثت خراباً هائلاً في ممتلكات الجيران، قبل أن تهرب إلى الغابة، ليبدأ رحلة البحث عنها، وكانت الرحلة تمتد إلى عدة أيام في بعض الأحيان. في البدايات كان الجيران يساعدون في البحث مع “إيتو”، لكنهم في النهاية ملوا تكرار البحث كل عام، خاصة أن البحث كان يسبقه التخريب الذي يشمل ممتلكاتهم أيضاً في أغلب الأحيان.

كان الأب “مارشيلو” يدخل إحدى الإندايات ليمارس هوايته المفضلة، وهي الاستماع لما يطلبه الزبائن مع كؤوسهم من موسيقى، حينما عبرت أمامه امرأة شبه عارية؛ فقد كانت ترتدي “قنيلّة” فقط، فيما كان يجري خلفها رجلٌ خائر القوى، ويبدو منهاراً بشكل كامل، لكن مع إصرارٍ شديد على اللحاق بها، خرج جميع مَنْ كانوا جالسين داخل الإنداية، لكنهم سرعان ما عادوا أدراجهم إلى طاولاتهم، دون أن تظهر عليهم أي نية للمساعدة. إزاء هذا الشعور المتخاذل عن المساعدة وجد “مارشيلو” نفسه وحيداً، ينظر إلى المرأة وهي تغرق في قوس الأُفق رويداً رويداً، فيما الرجل خلفها يبدو تعِباً لكن دون أن يظهر قابلاً للانهيار، داخل الإنداية صُدم الأب “مارشيلو” برجل نصف سكران، بفعل جرعات “العسلية” المفرطة، يقول:

-أبانا الذي في الإنداية نجِّها من الشرير.

-هذا كلام رجل سكران، فمَنْ يستطيع هزيمة شياطين زوجة “إيتو”.

هذا ما قاله رجلٌ أراد منع الأب “مارشيلو” من الغضب، لكن الأخير نهض وهو يردد:

– رأيتُ الشيطانَ يسقط كالبرق من السماء، ورأيته يزأر كالأسد.

قبل أن يهتف بمَنْ كانوا داخل الإنداية:

-هيا بنا إلى منزل “إيتو”.

لم يتجاوب أحدٌ ممن كانوا داخل الإنداية مع الأب “مارشيلو”، الذي كرر:

-هيا بنا لنرسل ذلك الشيطان إلى الهاوية.

لكن أحداً لم يتجاوب مع نداءاته، هذه المرة أيضاً.

3

أخذ الجميع في كل أنحاء “نمولي”، يسخرون سراً وعلناً من العمود النحاسي، الذي نصبه الأب “مارشيلو” في منزل “إيتو”، حتى يرسل به الشياطين التي تنزل مع الصاعقة إلى الهاوية، وهي تلك الشياطين التي تسبب الجنون لزوجته، لقد شرح الأب “مارشيلو” فكرته لـ”إيتو” اليائس من إيجاد أي حل لمشكلته مع الصاعقة، بتبسيطٍ يناسب صائد أسماك.

-الشياطين يا بُني، تحاول باستمرار الصعود إلى أبينا الذي في السماوات، لكنّ أبانا السماوي بدوره يقوم بجلدها مستخدماً الصواعق، حتى تقع تلك الشياطين اللعينة في هاويةٍ داخل باطن الأرض، ولسوء حظك يا بُني…

هنا ظهر العطف الدافئ على صوت الأب “مارشيلو” الذي ما يزال يواصل الكلام قائلاً:

– … فإن منزلك يا “إيتو” يقع على فوهة تلك الهاوية بالكامل، ونحن بهذا العمود نفتح ثُقباً كافياً لجذب أي شيطان إليها.

لم تبدد كلمات الأب “مارشيلو” البسيطة هذه، قلق “إيتو أوجا”، بل زادته قلقاً على قلق، فبعد أن كان يائساً فقط من إيجاد الحلول، أخذه قلقٌ من نوعٍ آخر، وقد أصبح رأسه مثل بركة مليئة بمختلف فقاعات الأسئلة، مثل: لماذا بيتي أنا بالذات؟ ماذا فعلتُ حتى تُوضع هذه الهاوية تحت منزلي؟

لكن السؤال الأهم الذي كان يشغل باله، ولن يتركه على الأرجح ينام ليالي، لو تأخر المطر عن الهطول هو:

-ماذا لو خرجت كل تلك الشياطين عبر هذا الثقب؟

-لا تخف يا بُني سوف يتمجد اسم الله، كما في السماء كذلك على “نمولي”.

قالها الأب “مارشيلو” وهو يربت على كتف “إيتو”، قبل أن ينصرف وثيابه مبللة برذاذ المطر، الذي بدأ يتساقط، قبل أن يكملا الكلام، لقد ذهب “مارشيلو” تاركاً “إيتو” يحملق في العمود النحاسي، المنتصب ملاصقاً لغرفة النوم، فيما فزعٌ يشبه خشية مريض الكوليرا من الموت، يعمي عينيه عن رؤية أي أمل في الأفق البعيد الملبد بالغيم والمطر.

4

لا يمكن لأحد إلا الجزم، بأن هذه المرة الأُولى في تاريخ “نمولي”، التي ينجو فيها “أندويا”(6) بحياته عقب مطرٍ ليلي، فقد نسي الناس أن يجمعوا “النغونغو” تحت ثقل المفاجأة، وهم يرون جريان الريح عكس سخريتهم، فالمطر الذي امتد هطوله من السادسة حتى الثانية عشرة ليلاً، لم يخلف أثراً لصاعقة واحدة على منزل “إيتو أوجا”.

والآن، ها هم يشاهدون زوجة “إيتو” نفسها، بعد سنوات من إهمال الأطفال والجنون المتواصل، يشاهدونها تسحن الفول السوداني معدةً “الكيموت”، فيما لحم ديك البط يغلي في “قرمة” على الموقد الطيني بجانبها، “إنه أمرٌ لا يُصدق”، قالوا لأنفسهم، فقد كانت تعد فطور السبت للزوج والأولاد. كان مشهداً مؤثراً بحق للناس الذين ضربوا الأمثال بحالة “إيتو” وزوجته كثيراً، عند الحديث عن فقدان الأمل في انصلاح شيءٍ ما، وكيف يمكن للدمار أن يكون عظيماً، عندما تعاني الزوجة من جنون “الجوكجوك”.

ربما بسبب كل تلك المشاعر المختلطة، من الاندهاش وعدم التصديق، لم يجد الناس شيئاً محدداً لفعله، أو قوله، وهم ينظرون إلى “إيتو” سعيداً، وزوجته تتصرف مثل أي امرأة حكيمة يوم السبت، والعمود النحاسي ينتصب مثل تعويذة غامضة بالنسبة إليهم. لم يجدوا شيئاً سوى أن يقولوا:

-هذه معجزة!

ولأن خلف كل معجزةٍ نبي، فقد ازدادت على الفور أعداد زائري الكنيسة، من كل أنحاء المدينة، ولأن الكثير من الناس يطلبون المعجزات، لإزالة بعض شوائب الشك عن يقينهم بصحة الإيمان، أو من أجل الافتخار الصرف، بالانتماء إلى كنيسة تأتي بالمعجزات، فقد هجر الكثير من الناس طوائفهم من أجل الانضمام إلى كنيسة النبي.

لكن الخبر سرعان ما دار مع الريح، وانتشر في اتجاهات الريح الأربعة، فجاء الناس أولاً من جميع أرجاء “الاستوائية”، بعد ذلك قدم بعضهم، حتى من أقاصي “بحر الغزال” البعيدة؛ المتاخمة لإقليم “دارفور”.

لقد جاءوا جميعاً لمشاهدة النبي الذي ظهر، نعم النبي الذي ظهر، فقد أخذت حقيقة ما حدث لـ”إيتو”، تتغلف بأخبار عدة وحكايات عجيبة، كلما ابتعدت عن المدينة.

الذين على الجانب الآخر من النهر في “كاجوكاجي”، سمعوا أن قساً يطرد الشياطين قد نجح في طرد “بعلزبول” من منزلٍ في المدينة، وفي “طمبرة” تداول الناس باهتمام بالغ، كيف أن نبياً أُوتي المقدرة على إزالة السحر المُرقّم، بمجرد إلقاء النظر على الرقم المرسوم على جسد الضحية، قد ظهر في “نمولي” شرقاً. أما هناك في “بحر الغزال” فقد علم الناس بكامل اليقين، أن إقامة الموتى أصبحت حقيقة على يد ذلك النبي الذي يقيم مختلف أنواع المعجزات الآن في “نمولي”.

5

على “نمولي” تدفق الناس بشكل لم تشهده المدينة قط، ربما منذ أن أنشأها “غردون”، وأصبح الناس يطلقون اسمه الفخيم النبرة، على سلسلة الجبال التي تحيط بها من الغرب والشمال، حتى إن نهاراتها الكئيبة التي كانت تغمرها، على مر السنوات، أصداء “الفنادك”، المنشغلة بتحويل شرائح “البافرا” إلى دقيق عصيدة، تحولت إلى صخبٍ ماجنٍ بفعل الحجيج.

وكُتِب عليهم بسبب الفضول والشغف الذي جاءوا به، أن يكونوا في حالة دائمة من الحركة بين منزل “إيتو”، لمشاهدة العمود النحاسي، والكنيسة لرؤية الأب “مارشيلو”، لكن الأخير امتنع وبشكلٍ صارم عن مقابلة أولئك الحجيج، مكتفياً بالظهور في قداديس الأحد وحزن شاحبٌ كالموت يبدو جلياً بين تقاطيع وجهه، لأن شعوراً من الرعب والندم تملكه عند سماعه أن أكثر الذين يأتون إلى الكنيسة يعرفون عنه أكثر مما يعرفون عن يسوع المسيح، بل وتمنى كثيراً في أشد نوبات حزنه أسفاً، لو أنه ترك “إيتو” وزوجته فريستيْن للصاعقة والجنون.

لقد جلب الحجيج معهم كل ما يمكن جلبه من أشياء، حتى رأى البسطاء من الناس أنهم لن يرحلوا أبداً. وكم استاء الأهالي وهم يشاهدون أبقار “الدينكا” و”المنداري”، وهي تعيث أكلاً في كلِّ شيءٍ أخضر، فيما انزعجوا أيما انزعاج من “البروكولي” الذين كانوا يجوبون المدينة صائحين بعودة المسيح الوشيكة، وما تعنيه تلك العودة من نهاية للدنيا، وكل ما فيها من موسيقى وجعة وبنات.

لكن الشخص الوحيد الذي لم يهتف مع الجميع، عندما هتفوا بأن معجزةً قد حدثت، كان “دانيال جروقو”، ذلك أن شكاً لم يخالجه على الإطلاق في أن العمود النحاسي المنتصب أمامه، لا يمكن أن يكون شيئاً آخر سوى مانع صواعق، نسخة بدائية الصنع، من تلك الموجودة في كتب العلوم القديمة، لكنه مع ذلك، نظر إلى أمر هذه المعجزة المدّعاة، بتقدير بالغ، قائلاً في نفسه:

– ماذا يضير، لو كان الجهل، ينفع ويرفع؟

لقد كان الأمر بالنسبة إليه، من أكثر لحظات الجهل إيجابية وفائدة، لأن المعجزة، جلبت كل ما ينقص المدينة من متعٍ وجنون.

فالناس من حجيجٍ وأهالٍ غرقوا في الحياة الجديدة، التي تشكلت سريعاً في المدينة، فـ”الدينكا” الذين جاءوا على أمل أخذ إكسير إطالة الحياة لكبارهم حتى يستمتعوا بنصائحهم الغالية، فقدوا سريعاً وتحت تأثير أفلام رعاة البقر، التي كان بعض الهنود ممن يقيمون في “كمبالا”، يقومون بعرضها في السينما التي أسسوها للترويح عن الحجيج، أو هكذا قالوا بفخر عند افتتاحه؛ فقدوا تقديسهم الشديد والأكثر مما يلزم للأشياء، ونتيجة لذلك أسسوا أولى الجزارات الحقيقية التي تعرفها المدينة. وقد كان الناس قبل ذلك يعتمدون في أكثر الأحيان على لحوم الصيد البرية.

وقد أصبح بإمكان الناس شرب الشاي في أي وقتٍ يشاءون، دون أن يحتاجوا إلى مناسبة، بفضل التجار الصوماليين، الذين أغرقوا بشاحناتهم المدينة، بائعين بأرخص الأثمان، السكر المكعب والشاي الكيني الأصيل.

وجاء أيضاً بعضٌ من الأحباش، عارضين طرقاً جديدة لشرب القهوة، دون أن ينسوا حمل صور الإمبراطور “هيلا سلاسي” معهم، ففي المقهى الذي يحمل اسم “إثيوبيا الجميلة”، يواجه الداخل وجه رجلٍ وسيم شبيه بالمسيح الذي في الأيقونات المنجزة حسب رواية القديس “لوقا” للإنجيل، مع فارقٍ لا بد منه، لاسيما لرجل سوف يتجادل الناس كثيراً حوله، ودون أن يتوصلوا إلى اتفاق، حول ما إذا كان حفيداً للمسيح أم يهوذا، ذلك الفارق هو زيّه العسكري الأنيق، والشرود المبالغ فيه الذي يشع من عينيه.

وأصبح مؤكداً مع مرور الأيام، أن أكثر الناس قد نسوا أمر المعجزة، ولم يعد هناك ما يذكرهم بها، سوى بار صغير على ضفة النهر، أسسه البعض من اليوغنديين، وقد أطلقوا على البار، ودون أن ينتابهم أي شعورٍ بالحرج اسم “مارشيلو”، وقد وضعوا فوق بابه لافتة كُتِب عليها بخطٍ فاقع: “وبعد انتعاشهم بالويسكي تذكروا كل المعجزات التي حدثت لهم”.

6

منذ البداية نظرت الراهبات بشكٍّ وارتياب، إلى المعجزة التي نُسبت إلى الأب “مارشيلو”، لكنهن صمتن مخافة أن ينتشر الشك بين عامة الناس، إذ لا فرق بينهن والشيطان، من ناحية التشكيك في معجزات الرب يسوع، لكنهن كن يراقبن كل الأمور التي كانت تحدث في المدينة بصبر وصلاة.

لكن غضباً غير مسيحي الطبع، كان يستحوذ عليهن في بعض المرات، فيعتقدن جراء اليأس أن الله ربما يرى “نمولي” صغيرة لدرجة يمكن الاستغناء عنها، وبكل يسر في الحرب الدائرة، بينه من جهة والشيطان وأعوانه من جهة أُخرى. وإلا فما معنى وتفسير أن يتدفق على المدينة، كل يوم، مَنْ لا يفعلون غير تعزيز موقف الخطيئة، وهم السحرة القادمون من جهات “طمبرة”، وبعض “الدينكا” الطامحين في الحياة إلى ما لا نهاية، لا لشيء سوى كيما يُتاح لهم الإكثار من الأبقار، ناسين أن الشره خطيئة تجر إلى خطايا مميتة، والهنود بأفلامهم التي تُوحي للبسطاء أن خلاص الإنسان يمكن أن يكون محصلة مواجهته لأعدائه، بالأساليب التي يعملون بها، بدل إلقاء المشكلات على الرب يسوع المسيح الذي يطلب ذلك صارخاً: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين، وثقيلي الأحمال فأنا أريحكم”، والأحباش الذين يفسدون الرجال بجعلهم يحبون القهوة أكثر من نسائهم، لكن الأسوأ هو إفسادهم الناس بجعلهم يتجادلون من غير فائدة، عما إذا كان المسيح جد الإمبراطور “هيلا سلاسي” أم لا، وإذا كان جده بالفعل فهل تراه سوف يساعده بما له من سلطانٍ، إذا وجده يوم الدينونة يحترق. لكن الأكثر إقلاقاً كانوا “البروكولي” الذين قدموا من “كاجوكاجي”، بقولهم إن الكنيسة ليست بحاجة إلى امتلاك المزارع، وأقنة الدجاج، وتربية النحل، لأن نهاية الدنيا قد تجيء في أية لحظة، والكتاب المقدس الذي ذكر أن الأسود سوف تلاعب الحملان، لم يذكر أمكنة للنحل والدجاج والأرانب في ملكوته.

كن يقلن كل ذلك وغيره، قبل أن يتذكرن نذور المحبة والتواضع والعفة التي نذرنها، وكل ما تعنيها تلك النذور من عدم الحكم على الآخرين، وتقبل الأحزان بمحبة لأنها من مشيئة الرب، وإذ ذاك يقرعن على صدورهن نادمات قائلات: “يا يسوع اغفر لنا خطايانا ونجِّنا من نار جهنم، وخُذْ إلى السماء كل النفوس خصوصاً تلك التي بحاجة عظمى إلى رحمتك”. كان ذلك ديدنهن حتى حدث ما لم يكن صبرهن من القوة لدرجة احتماله اعتماداً على يسوع فقط.

7

بينما كانت الراهبات يجاهدن الجهاد الحسن، حتى لا ينجرّ مَنْ بقي من الفتيات، اللواتي كُن يقمن بالترتيل والإنشاد في جوقة الكنيسة، وتأمل الراهبات من أعماق قلوبهن، أن يخرج من بينهن راهبات المستقبل؛ وراء الغوايات الجديدة التي أصبحت من القوة بحيث أنها كانت تجرف كل شيءٍ في طريقها، حدث ما لم تكن الراهبات يتوقعنه أبداً.

هل قلتُ مَنْ بقي من الفتيات؟ نعم بالضبط أقصد مَنْ بقي من الفتيات، ذلك أن المساءات خارج الكنيسة، صارت وبفعل الحجيج صاخبة جداً، وبالقدر الكافي لجعل أية فتاة، تبحث عمن يقدر لها جمالها، تشعر أن مكانها الصحيح هو ذلك الصخب من الأولاد الذين يتبجحون في بناطيلهم الأبازين وقمصانهم الموردة، برسومات تظهر فيلة تشرب الماء تارة، أو بقطيع من الغزلان على سهوب شديدة الشبه بسهوب “جونقلي”، وتظهر في نفس الرسوم أيضاً، جماعة من الذئاب وقد لمعت أنيابها تربصاً بالقطيع المسكين، لكن الرسومات المفضلة إليهم دائماً، كانت تلك التي تصور أولاداً يتصيدون طيوراً، على أشجار زونيا شاهقة الارتفاع مستخدمين نبالاً يدوية.

كان أولئك الأولاد ينتظرون الفتيات كل مساء منتفخي الصدور بمسرات الحياة، أما الفتيات فكن يخرجن من المنازل بأعذار شتى، من بينها وفي مقدمتها الكنيسة نفسها، لقد كن يقلن إنهن ذاهبات إلى الكنيسة التي لم يكنّ يصلنها قط، فقد كُنَّ يذهبن إلى النهر حيث يلعبن لعبة المطاردة التي تنتهي بالتدحرج في أوضاع من التشابك بين كل ولدٍ وبنت، وفي بعض الأحيان كُنَّ يلعبن مع الأولاد لعبة الاختباء المعروفة محلياً باسم “دسودسو”، وقد حُورت بحيث كان كل الأولاد يبحثون عن كل البنات، بدل أن يبحث شخصٌ واحدٌ عن الجميع كما هو الأمر في النسخة الأصلية من اللعبة. كانت البنات يختبئن في أماكن متباعدة بين الشجيرات فوضوية النمو، وكان اللعب لا ينتهي إلا بسقوط شمس الغروب، على القمم الشاهقة لأشجار المانجو الضخمة، على الضفة الأُخرى من النهر.

بعد انتهاء اللعب كانوا ينصرفون عائدين أدراجهم إلى المدينة، وكانوا يتوقفون عند السينما إذا صادف اليوم نهاية الشهر، لأن الهندي “راج سينغ” يقوم بعرض مجتزآت من الأفلام التي يعتزم عرضها في الشهر الجديد، وكان يقوم بذلك عبر شاشة متحركة خارج صالة العرض، في الشارع العام، حتى يتمكن الجميع من رواد، ومارة، ومتسكعين مشاهدتها مجاناً، أما إذا لم يكن اليوم نهاية شهر، فقد كانوا يقصدون بار “مارشيلو”، الذي تُنظم فيه مسابقات يقوم الحضور خلالها بوضع رهاناتٍ على مَنْ سوف يكون الأفضل بين الراقصين، هاتفين بحماس:

– الولد اللابس أبيض، فائز أكيد.

– بجنيه ونصف جنيه، الولد اللابس طاقية حمراء، هوالفائز أكيد.

أما في أيام الآحاد، فيتخذ التسكع شكلاً آخر، حيث يقضون كل المساء متنقلين بين “النقاقير”، لكنهم كانوا دائماً يختمون اليوم بشكل طقسي، حيث يقضمون قطع “السمبوكسا” في تلذذٍ، وهم يضربون الوعد لبعضهم البعض بالالتقاء غداً.

ما حدث هو أن “كاترين تومبي” اختفت دون مقدماتٍ أو أعذار، انتظرت الراهبات مجيئها يوماً ويومين وثلاثة أيام، لكنها لم تجئ خلال أيام من الانتظار المضني. لقد كانت الحاجة إلى عودتها ملحَّة، لأن الأم الكبرى سوف تصل في غضون أيام، من أجل أن تتفقد الأخوات، وترى بنفسها إن كنَّ يبلين البلاء الحسن والمطلوب، في ما يتعلق بجذب الفتيات إلى حياة الرهبنة والنذور، ومن أجل ذلك سوف تتحدث على وجه الخصوص مع “كاترين” طويلاً حول ما ينتظرها من تحديات، في سبيل خدمة يسوع المسيح، هذا العريس الجميل الذي اختارته، من دون سائر رجال الدنيا.

في المرة الأخيرة التي جاءت فيها “كاترين” إلى الكنيسة، لم يكن هناك ما يشير إلى أنها قد تغير رأيها، في أن تحقق حلمها بأن تصبح راهبة، وهو ذلك الحلم الذي سيطر عليها بشكل كامل، حتى إنها كانت تتوقف أحياناً عن الاستحمام، لتتأمل جسدها الذي يُحاكي في قوامه أجساد حوريات البحر التي تعج بها الأفلام، التي كان الهندي “راج سينغ” يعرضها في سينماه، تاركاً البسطاء من الناس يطرحون السؤال على أنفسهم: “كيف يمكن لنا نيك هذه السمكية تحت السرة؟!”.

كانت “كاترين” تسأل نفسها متأملة جسدها الجميل، فيمَ يا ترى يختلف هذا الجسد عن أجساد الراهبات، حتى يحاول البعض ثنيها عن سعيها المجيد، في أن تصبح الراهبة الأُولى في “نمولي”؟ بل وكانت تأسف جداً لأن بعض الوقحين، كانوا يستاءون من يسوع الخواجات هذا، الذي تُضيع من أجله “كاترين” جمالها، لأنه سوف يُعطى جمالاً مثله مائة مرة والحياة الأبدية. لكن الحق يُقال، فإن الذين كانوا يظهرون هذا الاستياء، هم المؤدبون من بين معجبيها الكثر.

أولئك هم المؤدبون فعلاً، فقد انطلق بعض المعجبين في التعبير عن إعجابهم بشكل بالغ الوقاحة، وذلك عبر الكتابة على كل ما يمكن الكتابة عليه، فبينما كتب البعض على جذوع الأشجار الضخمة: “أحب كاترين”، أو: “أموت في كاترين”، دون أن ينسى الكاتب رسم قلبٍ، مثل تلك القلوب المرسومة على ورق الكوتشينة، مع إضافة تفصيلٍ صغير إلى العبارات المنمقة بالعشق، ذلك التفصيل هو سهمٌ يخترق ذلك القلب. وامتدت الوقاحة بالبعض إلى درجة أن سولت لهم النفس العاشقة لكن الأمارة بالسوء، أن يقدموا على القيام برسم أنفسهم، وآلاتهم الذكورية منتصبة، فيما رسمٌ لفتاة يمثل “كاترين” تمر أمامهم، لكن بثديين يُشبهان نصفيْ برتقالة على جذع دليب.

لقد كانت تلك التأملات تستغرق منها وقتاً طويلاً، حتى تُباغت بالصابون يغمر جسدها المغري، فيما صوت أمها الحاد يصرخ بها:

-يا “كاترين” ما تنومي في الحمام.

لكنها ومهما كانت التأملات طويلة، سواء أكانت تلك التأملات في الحمام، أم أمام المرآة تمشط شعرها الغزير، كانت تنتصر دائماً لحلمها في أن تصبح راهبة.

8

في البداية ظنت الراهبات أن تأخر “كاترين”، لن يطول أكثر من بضعة أيام أو أسبوع على الأكثر، وقد يكون على الأرجح بسبب المشاغل الكثيرة التي لا تنتهي، في المنزل الذي يتدفق عليه الضيوف بأعذار شتى، لكن مع اتفاق جميع تلك الأسباب في إحداث المحصلة النهائية من التعب نفسه، ذلك التعب الذي تتوزع أسبابه بين الاعتناء بالضيوف تارة، وتنظيف الغرف التي ينزلون فيها تارةً أخرى، كل ذلك مع الحرص المطلق، على التأكد من إطعامهم حد التخمة.

ورغم أن الراهبات كن يعرفن كل تلك الأمور جيداً، فإنهن لم يملكن قط الشجاعة على التحدث مع أمها، وكيف لهن الجرأة على القيام بذلك وقد كانت الأم ترى فيهن جميع أسباب لا مبالة وتبلد ابنتها عن جميع ما كانت تتمناه لها كأم؟ ورغم أنها وقفت مع ابنتها ضد رغبة والدها الذي أراد صرف نظر الابنة عن حلمها في أن تصبح راهبة بقوة السلطة الأبوية، لا سلطة المنطق.

إلا أنه رغم ذلك لا يمكن بأي شكل من الأشكال، اعتبار تلك الوقفة نوعاً من التضامن في الأهداف. لقد كانت وقفة بدوافع من الحب الأمومي الصرف، أكثر منها مؤازرة لها وتضامناً معها في خيار. فقد كانت تتمنى لها على الدوام بعد التخرج في الثانوية العامة، الزواج من موظف وسيم من من خريجي جامعة “مكرري”، لكنها كانت مستعدة للتنازل والقبول بواحد من خريجي “رمبيك الثانوية”، وذلك كحدٍ أدنى يمكن القبول به إذا تعذر الحصول على خريج “مكرري”.

لم يكن من المنطق أبداً إقدام الراهبات على القيام بخطوة خطيرة، مثل مقابلة والدة “كاترين”، لولا جسامة القلق الذي كان ينتابهن، وهذا ما كان عليه الأمر بالضبط، فقد مضى أكثر من أسبوع دون أن تظهر “كاترين”، فيما وصول الأم الكبرى أصبح متوقع الحدوث في أية لحظة، وستكون كارثة كبيرة، إذا وصلت الأم الكبرى دون أن يُتاح لها أن ترى “كاترين” التي سمعت عنها كثيراً، ليس من رسائل الراهبات فقط، بل أيضاً من كل الذين قابلتهم في “نيروبي”، في زمن الجذب الكبير إلى المدينة بفعل معجزة “مارشيلو”.

وربما ذيوع صيتها هذا في الكثير من جوانبه، يعود إلى حقيقة أنها كانت الوحيدة، التي لم تنجرف إطلاقاً خلف الملذات التي جلبها الحجيج معهم، حيث لم ترَ في تلك الجلبة، غير نوعٍ من التجارب التي ينبغي للمؤمنين اجتيازها بالصوم والصلاة والغضب في بعض الأحيان، هذا الإيمان العميق بالذات، كان بين جميع الأسباب هو الذي يجعل من إيجاد “كاترين” أمراً وواجباً لا بد من الوفاء به، وكان يشعل من جذوة البحث كيفية العثور على جوابٍ للسؤال الصعب: “ماذا سوف نقول للأم الكبرى إذا أتت ولم تجد كاترين؟”. إنه بالفعل سؤالٌ صعب، ماذا يتوجب عليهن القول، وقد ضيعن راهبة لا تنقصها كيما تصبح راهبة رسمية، سوى إقامة قداس إلهي فقط، من أجل إسباغ الرسمية على نذورها، وسوف يكون مدعاة للشعور بالمرارة الشديدة، أن لا يحدث هذا في الوقت الذي نجحت فيه الأخوات هناك في “أويل” من تزويج الأخت “ألويل”(7) ليسوع المسيح، لتصبح راهبة في ذلك الجزء الصعب من الإقليم.

أخيراً عادت الأُخت “ساندرا” المرحة، عادت والحزن يكلل وجهها بشكلٍ لا يمكن تصديقه، خاصة لكل مَنْ رآها من قبل، فهذه الكائنة اللطيفة التي يبدو وجهها أقرب إلى قناعٍ من الابتسامات، أكثر من كونه وجه إنسان له قلبٌ ومشاعر، من بينها الغضب بطبيعة الحال، يعضد هذا الشعور أنها لم تُرَ قط متجهمة الوجه، ولمدة طويلة تُقارب الثماني سنوات، وهي المدة التي قضتها في المدينة منذ وصولها إليها، تاركة خلفها الترف التي كانت تعيشه بعيداً في أوروبا، في وطنها المعروف فقط بين سكان المدينة بتصدير الألبان الدسمة، وذلك بعد قطعها نذور العفة والتواضع والطاعة أمام الكنيسة، لكن الأهم هو قطعها لنذور المرح أمام نفسها، ذلك الحزن الغريب على الوجه البريء، هو ما جعل الأخوات يعرفن أن شيئاً جللاً، لا بدّ أن يكون حدث، وإلا فما الذي كدّر وجه الأخت المرحة، بهذا الشكل الذي يُبكي فعلاً؟

-ما الذي حدث؟

تساءلت إحدى الراهبات، واضعةً يدها بخوفٍ على صدرها.

-هل حبسها والدها؟

أضافت أُخرى.

-هل أصابها مكروه؟

قالت راهبة أُخرى بذعر.

-باسم يسوع الممجد على الصليب، لا تقولي إنها غيرت رأيها.

أضافت أُخرى بذعرٍ أكبر.

حتى الآن ما تزال الأخت “ساندرا” المرحة صامتة.

-هيا تكلمي مهما يكن الأمر.

قالت الراهبات مُهمهمات.

-بالفعل غيرت رأيها.

أخيراً تحدثت الأخت “ساندرا” المرحة، قبل أن تضيف للأخوات اللواتي جمدن من الذهول:

-وبمحض إرادتها، وسوف تتزوج الشهر القادم.

ربما وبسببٍ من الجملة: “بمحض إرادتها”، كُتِب لكل المجهودات التي بذلتها الراهبات الفشل، ولم تجد الأم الكبرى عند وصولها شيئاً لتفعله، غير أن تحمل إحساساً عميقاً بالمرارة في قلبها، وأن تردد بلسانها: “كم إلهنا عادل وأحكامه نافذة!”.

9

استغرق الزواج بحفلاته، وكل ما يمت إليه بفرح، قرابة السبعة من الأيام والليالي، التي كف الناس خلالها جميعاً عن الشرب والأكل في بيوتهم أو في المطاعم مقابل نقودهم، وقد بُذل الشراب لكل مَنْ هو قادرٌ على الشرب بالمجان، حيث كانت براميل “المريسة” ومشروب “الكينجي مورو” المصنوع من السمسم، متاحةً للمارة، فيما كان يُدعى للغداء كل مَنْ كان يمر بالشارع.

كم كانت الموائد شهية؛ “النغونغو بالعسل”، وطحين السمسم المعروف محلياً باسم “الكيموت الأسود”، تمييزاً له عن طحين الفول السوداني، الذي يظهر لوناً فاتحاً، لذلك كان الأهالي يسمونه بـ”الكيموت الأبيض”، والعصائد بمختلف أنواعها: الذرة، الفتريتة، التلبون، الذرة الشامية، البافرا. أما اللحوم، فكانت متنوعة لترضي كل ذوق، حيث بدأت بأطباق لحوم الماشية، ومروراً بالطيور الداجنة، مثل الدجاج والبط المنزلي، وكانت هناك أيضاً اللحوم البرية، ومنها لحم دجاج الوادي المدخن، الذي يحبه الجميع، وكان هناك وبكمياتٍ معتبرة حساء جلد فرس النهر، وقيل إن “جمعة يورو”(8)، قد تغنى بأغنيته الشهيرة المسماة “كاترين”، في ذلك العرس الذي أصبح خالداً وأسطورياً، وأصبح مع مرور الوقت أداةً، تستخدم لمعرفة مدى الإسراف في كل عرس، وذلك عبر استخدام منهج المقارنة بالقول:

– هذا الزاوج، يكاد يفوق عرس “كاترين”.

لكن كل تلك البهرجة، لم تكن لتُنسي الناس، أن يطرحوا على أنفسهم السؤال: كيف التقى الاثنان؟

كان الجواب على السؤال سهلاً، على النحو التالي: في اليوم الذي عادت فيه “كاترين” إلى المنزل، لتفكر ولآخر مرة عن مستقبلها والرهبانية، طلبت منها أمها أن تقوم بإيصال كيس “جنجارو”، جُلِب من يوغندا إلى إحدى القريبات التي تسكن بعيداً عن المنزل بعض الشيء، وفيما كانت تسير في الطريق هجم عليها كلب، لقد كان كلباً مسعوراً تمكن بما يملك من وحشية، من تمزيق ثيابها، تاركاً خدوشاً تنزف دماً على ساقها الجميلة، وكان الكلب الوقح يحاول معاودة الهجوم للمرة الثانية، عندما تقهقر فاراً بعد تلقيه ركلة قويةً، من شاب كان يمرُّ بالشارع نفسه.

لم يكتف الشاب بالتصدي للحيوان المسعور فقط، لكنه أصر بالإضافة إلى ذلك أيضاً، على مرافقتها حتى منزل قريبتها، وقد سارا معاً كل المسافة المتبقية، دون أن يتبادلا الحديث، لكن في مساء نفس اليوم، كان الشاب يمر أمام منزل “تومبي” قبل أن يقف وهو يقول:

-أنا “دانيال جروقو”.

قالها وهو ينظر إلى الفتاة التي وقفت بدورها، وجردل الماء يكاد يسقط من بين يديها، فهذا هو إذن “دانيال جروقو” الذي يتحدث الناس عنه في كل مكان، وهم يصفونه بالأستاذ الذي يصعب الكلام معه، كما أنهم يقولون عنه أيضاً إن وقته غالٍ جداً لدرجة أنه لا يضيعه بالونسة مع البنات، يأتيها بلحمه ودمه، وكل ذلك بعد أن وجد من وقته الغالي، متسعاً لإنقاذها من الكلب المسعور وإيصالها حتى منزل قريبتها.

-أستاذ “دانيال”!

ردت بصوت المباغتة.

-نادني “دانيال”.

قال هو.

-أنا “كاترين تومبي”.

أجابت.

-السستر؛ الراهبة.

رد باندهاش.

-شوية ويحصل.

قالت مفلتة ضحكة من بين شفتيها.

-سوف آتي غداً.

قال وهو ينصرف مبتسماً.

لم يجد كل مَنْ سمعوا عن قصة الكلب المسعور على ذلك النحو المحبوك بالطريقة التي كانت تجيب على سؤال كيف التقى الأستاذ دانيال بالراهبة كاترين؛ سوى القول:

-حتى الكلاب تستطيع فعل المستحيلات.

لكن، وكحال المشردين في الدنيا، لم تذكر الأغنيات التي غُنيت في تخليد العرس، الذي كان الحدث الأبرز لسنوات في تاريخ المدينة، اسماً لذلك الكلب المسعور، الذي الذي لولاه ما كان لذلك الزواج أن يكون.




ـــــــــــــــ
(1) فرانكو ومبا: من أعظم فناني موسيقى الزيكو الكنغوليين.
(2) نغونغو: حشرة تؤكل لغناها بالبروتين.
)3) أسوبي: طبخة تصنع من أوارق نبات اللوبيا.
(4) لوبرتلنق: طبخة شديدة المرارة، من أطباق قبيلة الباريا، تصنع من ورق نبات بري متسلق.
(5) جوكجوك: حالة شبيهة بالزار.
(6) أندويا: النغونغو الذي يجمع صباحاً عقب المطر.
(7) ألويل: الراهبة الأولى من قبيلة الدينكا.
(8) جمعة يورو: فنان شهير في مدينة نمولي.




* عن موقع البعيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى