مالك عزام - فتاة على الخط الأحمر..

يحلُ الغسق.‏

وتغادر الدار فرحةً. يفسدها عرقٌ أخضر، يتوهج في أعماقها كحباتٍ مضيئةٍ. تقطع شارعاً مُناراً. تصلُ الحديقة العامة، مصابيح الكهرباء تنشر أنوارها في أرجائها.‏

نجلس على مقعدٍ قريب من البابِ، تَرْقَبُ مجيئه.‏

سيلتقي بها، وسيقدم لها الخاتم الذي تنتظره.‏

أينعث أنوثتها في صدرها مبكرةً، وأزهر صباها على وجنتيها نضارةً سيطلب يدها من والدتها العجوز، ويتم الفرح في وقتٍ قصيرٍ.‏

بعد صدٍ ورد الكثيرين وجدتْ فيه الشريك المناسب، وحسب المواصفات التي وصفتها، وتمسكت بها.‏

مالٌ وفيرٌ، سيارةٌ حديثة، ومنزل كبير. فيه زوج يزينها بالعسجد والجواهر، ويغسلها بالعطور.‏

رجلٌ قطعَ منتصف الطريق. قال لها، إنه عاد إلى الديار ثرياً، بعد اغترابٍ طويلٍ.‏

لا يهمها شكله، أو سنه، بقدر ما يعنيها، تلك الشروط التي تريدها فيه. همَّها أن نقبر الفاقة والحرمان، وتلج خمائل الثراء والفرح.‏

تعيشُ في المدينة، مع أمها وأختها بديعة.‏

دارُها مستأجرةٌ في حيٍّ قديم.‏

وشقيقتان متشابهتان.‏

تفرقهما شامةٌ رقيقةٌ على وجنة بديعة.‏

لكنهما تختلفان في الطبع والهدف.‏

تتساجلان في حِواراتٍ ساخنةٍ، لا تهدأُ إلا بانصرافِ إحداهما.‏

بسمة تحبُ الحرية والسهر، أما الثراء فهو هدفها الوحيد. رفضت الكثيرين، الذين سعوا إليها.‏

وتلك تتمسك باليسر والعمل، فاحترفت الخياطة تنتظرُ القادم المناسب، الذي يطرق بابها.‏

اختارت بسمة من سيحقق شرطها، طالما تملك الصبا والجمال.‏

كثيراً ما عارضتها بديعة على نهجها المضطرب، وكانت تقول لها في كل حوارٍ:‏

- تسببين لي الكثير من المتاعب والمواقف المحرجة. يا بسمةً. طالما استوقفني أصدقاؤك وصديقاتك على الطريق يظنونني أنتِ يا متعبة.‏

من أجلك غيّرت مظهري: فاستبدلت الملابس القصيرة بالطويلة، ووضعت القلالة على رأسي، كي أصرف أبصارهم عني.‏

تصمت وهي تغلق ماكينة الخياطة وتتابع، تسمعها بسمة وهي تدهن أظفارها غير مهتمة:‏

- لا تنظري إلى الأعلى.. تبصَّري وكافحي.‏

تجيبُها وهي تمضغُ لبانةً:‏

- لن أسيرَ كما ترغبين.‏

أتريدين أن أخيط الملابس. وأدفن شبابي في ثيابك. وأقعد في البيت، أنتظرُ من يأتي ويشتريني، وينقلني من بؤسٍ إلى آخر.؟‏

- ألا تخشينَ الألسنَ؟‏

- لا أُمارسُ الخطأ. أفهمُ الحرية في السرِ والعَلَنِ. ألا تعرفين أنّ الأكثرية يسيئون، ويخفون ما يفعلون. ويتظاهرون بالنقاء. يتسابقون في طريق المظاهر الخادعة.‏

يتصيَّدون عثرات البسطاء. ينسجون الأكاذيب حولها، ويتسلوّن بها في أوقاتهم.‏

****

تتدخل الأم، كي تبين الأمر، وتقرب الأفكار لبعضها، لكن بسمة تتركُ الدار محتجةً، تبحثُ عن عملٍ يناسبُ طموحها، يُغنيها عن حاجة أسرتها.‏

****

هذا الثريُّ، هو الشريك المناسبُ، الذي سيضع حداً لكل من يريد لها أن تتعثر أو تُخفق. يتجسدُ هدفها فيه، لَنْ تدعه يفلت من يديها، بعد أن أحبها-، وتعلق بها.‏

كثيراً ما دعاها لنزهةٍ قصيرةٍ في سيارته، بأماسي الصيف اللطيفة، وقدم لها الهدايا والعطور.‏

وكثيراً ما ألحت عليه، أن يزورَ دارها، ويتعرف على أُسرتها؛ لكنه، يحجمُ عن طلبها متذرعاً بحجج مختلفةٍ.‏

وتدورُ الفراشة حول النور، تدنو منه وتبتعد: تتعثر بخيوطهِ، وتنبهرُ.‏

*****

يبدو العشب الأخضر، تحت الأنوار بساطاً قاتماً مبللاً برذاذ نافورةٍ تهدأُ وتثورُ‏

ما زالت بسمة تتفحص الوجوه المقبلة، لعلها تلمح وجهه يقترب منها مبتسماً، يمد يده ويصافحها معتذراً عن التأخير. يجلس بجانبها، يأخذ راحتها. بيده، يُمتّع بصرها بالخاتم الذي وعدها به، ستفرح وتقفز طفلةً سعيدةً في الهواء، أو عصفورةً حطتْ على بيدرٍ غنيِّ بالغلالِ.‏

الوقتُ يمرُ ثقيلاً بطيء الدوران، كرمى طاحونٍ هرمٍ، ويتراءى لها سرباً من طيور الليل، تحوم حولها، تضربها بأجنحتها السوداءَ، فيزيغُ بصرها، ويكتئب فؤادها.‏

وتأكدتْ أنه نكص وعده... ...‏

*****

تعود إلى الدار، وفي أعماقها ضبابُ الخيبة والقلق، كيف ينكثُ عهده، وهو الذي لم يتخلف يوماً؟.‏

كانت حائرةً. ماذا ستقول لأمها وأختها، بعد أن راهنت أمامهما، وبات الهدف عصفوراً بين يديها، ويطيرُ؟‏

يفشي لونٌ قاتمٌ، الخافق بين أضلعها وتعصره، فتسري في أوصالها رعشةٌ تهزُ أعصابها وتتلاشى... ...‏

تشعرُ بالمرارة تسدُ طريقها، وتوقف عجلة اندفاعها....‏

هل كان يخدعُها، كما خدعتْ الآخرين من قبله، الذين سعوا إليها، وكانوا أقل وزناً منه.؟‏

أعرض له أمرٌ، وليس له فيه حيلة؟‏

أم تلهى وقتاً ريثما غنم طيفاً معيناً، اختاره هدفاً ومضى؟‏

هاتفه الجسر الوحيد، الذي يوصلها إليه.‏

*****

تهتف له وتصغي، ترتبكُ، تتمنى أن تسمع صوته، إنها تميزهُ جيداً. يزداد خوفها عندما تسمعُ صوتاً آخرْ. تعيد السماعة إلى مكانها بسرعةٍ، وتمضي كسيرةً.‏

يتكرر اتصالها الخاطف، ويغمرُ الحزنُ مساحةً واسعةً، من حنانها الصغيرْ.‏

تبحث عنه، تسأل من يعرفه، وهي تحرص على إخفاء شجونها، تتردد إلى الأماكن التي كانت تجمعهما، لعلها تمسك خيطاً يشدُها إليهْ.‏

كانت كمنْ يبحثُ عن قطرةِ ماءٍ، تبخرت في الهواء. واكتأبت على اختفاء ذلك الرجل.‏

اكتشفت أنها لا تحبه، كانت متيمة بأريجِ الثراء في ثيابه، ورائحة عطوره.‏

وجدتْ نفسها تشرف على منعطفٍ خطيرٍ، تبحثُ عن خط النجاة، وهو بين يديها.‏

*****

وتعلم بسمة أن من أحبها، وجاهرَ لها بحبه، يرتع الآن في منتجعٍ بعيدٍ، مع من اختارها هدفاً.‏

وتهب الريح في أعماقها من جديد، تقش بيدرها. تتركه خاوياً، يعمي الغبار بصيرتها، فتختلط الدروب تحت قدميها.‏

وينبت في صدرها عرقٌ له روائح عديدة، تفتحت منه زهرةٌ سوداء، أرخت بظلها على فؤادها، فصارت تلمح في وجه كُّل من تعرفه أو تصادفه سواداً.‏

ورأت الوفاء غادةً محاصرةً، تطير السهام إليها من كل جهةٍ.‏

وشاهدت الصدق قلعةً، يتسابق الأقزامُ إلى أسوارها يزيفّون حجارتها، تتجمع طيورها للإنقضاض عليهم.‏

******

تنهض بسمة كوردة، تمضي بنفس الاتجاه، تحجب نظارةٌ سوداء عينيها الجميلتين، ترتدي ثوباً قصيراً ملوناً، تزرع على شفتيها الابتسامةً غريبةً مبطنةً. تبغي العثور على ضالتها الضائعة بأقصر سبيل تشدها روائح السجائر المعطرة، وتجذبها -أنوار- مخادعة. سوداء.‏
أعلى