منى وفيق - سطر في الخواء!

" مأساتنا الحقيقية أننا نشبه الرّصاصة التي لم تنطلق من جعبتها و ظلّت حبيسة بندقيّة يقرضها الصّدأ " محمد برادة

جمر .. جسر.. و شمس خضراء .. قمر يولد من سحابة .. ثمّ طائر حبيس في الرّوح يتخبّط . كذا ظلّ خافقه المعكّر طيلة فترة الصّباح . أمّا عقله الحاصل على دكتوراة باريسيّة فانطلق بخربشاته في إثر هذا الكون و فوضاه المنظّمة... خطوط حمراء و أخرى بيضاء .. و هو بينها الممنوع من الوقوف , من السّكون , من الحراك!!
.. أجوبة عديدة و عديدة ينتظرها .. يطاردها .. و هو يعي أن لا شيء سوى شعوره الأشدّ حميميّة في السّاعة الأكثر صمتا يستطيع أن يمنحه إيّاها !!
ياالله !!! عن هكذا انتشاء كان يبحث دؤوباً و هو يرهف السّمع لهاته الموسيقى الصوفيّة الرّوحيّة .. هو ذا يكاد يشتمّ رائحة زهر اللّيمون تفوح دافئة و تغمر الفضاء .. و هي ذي أخيرا روحه تتحرّر، تنطلق، وتسكن أبعد نقطة في الأفق!
أخرجه رنين الجرس من توحّده . اللّعنة ثمّ اللّعنة ثمّ اللّعنة !!!! أيّ مزعج هذا الّذي أتى ليقطع عليه رحلة البحث عن شظايا الذّات؟!؟!!
.. إنّه يفضّل أن يختبىء بجرحه الغائر .. لذا ألصق تلك اللاّفتة على باب مكتبه : " طبيبك النّفسيّ هو نفسه يحتاج لطبيب نفسي .. أرجوك عد لاحقا "
.. ربّاه .. أمن الممكن أن تكون المساعدة الاجتماعيّة قد عادت مجدّدا ؟! أنّى له أن يقابلها ؟! أن يصرخ قائلا أنّه لازال يحارب هزيما .. ضعيفا يسكن أعماقه و يحاول أن يحتجّ عليه ؟! كيف سيخبرها أنّه عاجز عن أن لا ينفر من جسد فقد احترامه و حبّه لنفسه بعد أن اختزلوه فجأة .. كيف ؟؟؟!!
.. مذاق كالحنظل في شفتيه .. أخذ يحدّق في الفراغ .. قلبه ينفطر كمدا لكلّ الّذي يحصل !!
".. و أرجو أن لا يخيب ظنّي بك .. و يكون موقفك واعيا , متحضّرا و إنسانيّا .. قف بجانب زوجتك حتّى تتخطّى أزمتها هاته .. هي الآن محطّمة يائسة حدّ القتام بعد أن اغتصبت اغتصابا جماعيا .. أعطها من الحنان و الحبّ و التفهّم ما يكفيها لعمر بأكمله .... "
بهذه البساطة أخبرته المساعدة الاجتماعيّة أنّ شرذمة من المتسكّعين قامت باغتصاب زوجته .. و بهذه البساطة تسأله أن يتقبّل الأمر بل و يملأ زوجته أملا ويسقيها ودّا كثيرا .إنّها لا تعلم أنّ كلماتها هاته هي دمعة فوق الخدّ تحرق !
لم يكن جرس المنزل هو الّذي يرنّ بل الهاتف , و من فرط توتّره لم يميّز الأمر.. إنّه (جاك) يسأل عن أحواله .. ترى مالّذي ذكّره به الآن ؟! يقول أنّه قادم في غضون أسابيع إليه , فقد عرض عليه العمل كمستشار بيداغوجيّ في مادّة التّثقيف الجنسيّ هنا .ماذا .. تثقيف جنسيّ هنا في هذا البلد المتقوقع داخل رواسب عتيقة وتعصّب بليد؟! لم يمنع نفسه من القهقهة .. هاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاها .. عن أيّ تثقيف جنسيّ يتحدّث هذا (الجاك)؟‍!
وووووووووو .. ترجع به الآن ذاكرته المهلهلة إلى الوراء .. لشدّ ما يحنّ إلى أيّام دراسته لعلمي النّفس و الإجتماع بباريس .. سرت في جسده قشعريرة غريبة إذ تذكّر يوم أغبط (جاك) على موقفه من اغتصاب خطيبته حيث أنّه قدّم لها كل دعم معنويّ , و تابع مغتصبها حتى قدّمه للعدالة. بل إنّه لم يكتف بهذا و قام بالتّطوع لمتابعة حالة المغتصب النّفسيّة لمساعدته .أيّ إنسانيّة و قوّة و نبل يملكها (جاك) و أشباهه ؟!! لكم أعجب به يومها .. قد فرح به فرحة القرعاء بشعر أختها كما يقال! .. و كان قد أقسم أنّه لو وضع في موقف مماثل فسينحو منحى هذا الفرنسيّ المميّز .. لكن للأسف , نتائج الخوض أبرز من نتائج الإطّلاع!!!
.. صوت رخيم ناداه ببوح حزين : "عبد الواحد .. عزيزي .. كاد شوقي إليك يقتلني "
إنها شروق .. أجل زوجته .. تشبتت نظراته بياقة معطفها دون أن أن ينبس ببنت شفة .. دنت منه و قبّلته على خدّه وسط استغرابه الشّديد . أما هو فصمت في شبه وجوم ومنع دمعة ساخنة أن تطفر من عينيه .. ما عساه يفعل الآن ؟!هو ليس بضليع في علم الحروب النّفسيّة لكنّه فاشل في الظّهور عكس سجيّته .. فاشل .. فاشل!!لذا لم يتمكّن من ألاّ يواجه نظراتها البريئة بفتور ..
يرنّ جرس المنزل .. و يتنفّس الصّعداء .. فستتأجّل المواجهة بينهما لوقت لاحق . لكنّها المساعدة الإجتماعيّة من جديد .. رحماك يالله !! ما من مفرّ .. أيّ لعنة تلاحقه ؟!
- إنني جدّا آسفة .. أخطأت العنوان .. ليست زوجتك المعنيّة بحديثي معك هذا الصّباح .. المعذرة .. إنّه خطأ بسيط ..
هذا ما قالته و غادرت . يال البرود !! قطعا لا تدري هي ما سبّبته له بخطئها البسيط هذا !!!!
جاريا كربابة في دمه يعود صوت شروق ليسأله :
- ما تعنيه هذه السّيدة عزيزي ؟
ينظر إليها في حنوّ كبير و لا يتمالك :
- لا شيء عزيزتي .. أتت فقط تقول لي أنّني حاولت أن أكتب رجلا خلتني كنته دون أن أنتبه أنّ يدي ملأى بالثقوب .. أتت تؤكّد أنّي لم أكن سوى سطر في الخواء !!

منى وفيق
قاصة من المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى