حيدر عاشور - عشقٌ أخضر

لم أكن متأكداً أن روحي مملوءة بالحبّ، والقلب يمكن أن يعشقَ في هذا العمر. لم يتغيّر شيء في واقعي، لا خلقي، ولا الناس، ولا السماء، ولا السياسات. أشعر أني طائر بعض الشيء، وأستطيع قول ما لا يقال، كل ما كتمته وأخفيته في ذاكرتي الممتلئة بالصمت والنظرات قد استغرقت عمراً للوصول الى الشجاعة. فالمكان كان خلاصي من هموم اليأس.. هو خطوط القدر التي تشير الى سبل النهاية المكتوبة، مؤكدة سقوط السُرة في أروقة هذا المكان، الدليل أنني رجعت من أقصى البلاد، خاسراً كل شيء، ووجهي غابة من الشعر بفعل اللحية، وقلبي جامد ودمي بارد ولساني لا يجرؤ على الاعتراف بالمصائب. تركت ذلك لمن يبتسم في وجهي ويساعدني وينشر غسيل أوجاعي لكل من يعرفهم ومن لم يعرفهم. المشكلة أنّ الجميع أشبعوني نظرات تتجه الى الأعلى كلما نظرت إليهم، ويتوجهون بكلامهم لأقرب شخص كأنهم يخافونني أو يخفون عني شيئاً، ويحشون كلماتهم بجمل مجهولة المعنى. وأنا لم أكن أرى شيئاً. منقذي كان يجيد إقناع الناس الى درجة أنهم كانوا يصدّقون ما يريد أن يقوله عني. كانوا يضحكون عليّ رغم علمهم من الأخبار الافتراضية أنني غير ذلك وان الزمن دار دورته فقلب حياتي رأساً على عقب. الأعمال الجيدة دائما تنتج صلحاً مع السامع بالضد.. فالحاسد يقول بحسده عبارات ناقصة، مبتورة، مليئة بالغِيبة والكذب، ويلتفّ لسانه ثم ينعقد. أما أنا كنت أمضي دون أن أقول شيئاً. فالمكان كان يحكمني بقوانينَ وشرائع وأصول في الأخلاق وتهذيب الكلام.

لم يحدث أبداً لأيّ شخص زارني وغادرني غير راضٍ عني.. بل يحبني ويتواصل معي. ومن بعيد كان يتابع الزائرين والمنصرفين في لؤم وحسد وكبرياء. فلم يفهم لماذا هذه الزيارات بعد كل ذلك الحديث الملتوي؟.. ولا لماذا لا ينصتون إليه؟.. لم يعد أحد يصدّقه، ولم يكن في استطاعته الاستمرار بأخوّتي وصداقتي الزائفة معه فابتعد عني بعيداً رغم قرب المسافات. وما أن ابتعد وقد تقنّنت الكثير من المشاكل حولي.. لكنها لم تنتهِ. كان وجه ابنه الصغير يترصّدني على قارعة الطريق، والمصادفة كان معي أحد الاصدقاء المشتركين بيننا. وقف الصبي الذي لا يتجاوز عشرَ سنوات أمامي ليقول:[/B]

  • تره لا تفرح بمكانك الجديد، ستخسره قريباً، وأنت أكبر (مگدّي) وكل الذي تأخذه من مال هو من صدقات الزائرين.. أبي عنده مال يشتريك ويشتري عشيرتك..
حزت مع نفسي.. كلمات كبيرة تخرج من فم صغير. هنا همَّ صديقي لكي يصفعه على خده فمنعته، ومن ثم رسمت قُبلة خفيفة على رأسه الصغير، ومنحته مبلغاً بسيطاً من المال، وقلت له:

  • أنا عمك ولي أسمي وبيتي وسيارتي.. لا تقل هذا الحديث عني يا أعز من كبدي. ركض الصبي سريعاً وهو يلتفّ نحوي والخجل بان على وجهه، ولم أره لأيامٍ عديدة، وسمعت أنه يدافع عني دفاعاً يعرّضه أحياناً للضرب من والديه، حين يقول لهم: (عمي يسواكم ويسوى رأسكم).
بدأ وجوم الوجوه واضحاً على كل من سمع بالحادث، فكيف لصبيّ ان يتحدث بهذا الكلام دون ان يسمعه من المقربين إليه، أو أن أحدهم غره بالمال ليقول ما قاله. كان البعض متأكداً من أنه نقل الكلام عن أبيه ولكن الأب لا يجرؤ على الاعتراف بذلك ويغيّر أسلوبه كلما فتحوا حديث الصبي.. يصبح وجهه أسوداً بفعل العصبية، ويده ترتجف وصوته مبحوح فيتحول إلى عاصفة قد هبت من فمه فينسحبوا من أمامه خوفاً عليه وليس منه.

مع الزمن وتقلبات الأيام والسنين التي مرّت بحلوها ومرّها، لم يعد يهمني شيء او تلفت نظري الأفعال ضدي. مشيتُ بشكل مستقيم بحياتي بعيداً عن كل ما يدهشني من تصرف أحمق أو يصدمني قول سفيه. صحيح أنني أمشي ببطء ولكنني لم أرجع خطوة واحدة الى الوراء.. وتعلمت أن أكون في الصف الأخير بعد كل هذا العمر كي أرى ما يحصل أمامي من ترهّل وكبرياء زائف، وما تحويه من علم حديث قد أطلق عليه - صداقة المصالح - فالكلّ يقرب من يعرفهم خوفاً على مكانه. كل هذه التراجيديات لم أعد أفكر بها فقط أنظر إليها، كنت مصمّماً أن أصل إليه كي يراني بعد فراق طويل، وأن يسمع قصتي التي دمّرتُ بها حياتي. وحدسي بالأمان والاطمئنان، أحسست أنه يسمعني، وعرفت باب الدخول إليه، فقد انتظرت على بابه كما ينتظر عاشق خائن أو حبيب أذنب. كنت قد قضيت أياماً وليالٍ ونهارات في مكانه، فوق سديم أرضه حيث عطر ترابه وأنفاس عاشقيه.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى