إبراهيم محمود - لماذا نخاف من الأمراض النفسية؟

يحيلنا السؤال: العنوان، إلى المجتمع الذي نعيش فيه، والذي يتلبسنا داخلاً وخارجاً.
إنه السؤال: العنوان القديم والذي يتجدد باستمرار، ككُرَة الثلج المتضخمة، وأكثر من ذلك، حيث يطرح نفسه، في كل مرة، أكثر مما سبق، أخطر ، وأعنف مما سبق، تأكيداً على أن المجتمع الذي يكون في موضع المساءلة يزداد انقساماً على نفسه، وتشظياً من الداخل، طالما أنه لا ينفتح على الخارج، أنه لا يمتلك إرادة الحياة التي تخوّله لأن يكون مجتمعاً سوياً، كأي مجتمع نابض بالحياة.
إن نظرة عابرة، فقط مجرد نظرة، فيها نوع من المسح المجتمعي لجوانب مختلفة فيه، تشهد على هذه التشرذم، وفي الوقت نفسه، تكون دالة على أن سوية الحياة، كما يستحقها من خلال أفراده في تنوع انتماءاتهم، أدنى من أن تُسمى حياتياً .
المجتمع المحكوم ليس بماضيه، وإنما بما يكبّله بأدواء ماضيه ومشاكله وعدم تسميتها كما هي، ويزداد انكفاء على نفسه، يستحيل عليه أن يتبصر حقيقة ما هو عليه، أن يعرف موقعه في الزمان والمكان، أن يكون لديه شعور بالتحدي، والنظر الدقيق في مرآته الداخلية، ليحيط علماً بذلك الوجه المستشبح الذي يتقدمه .
أشير هنا، إلى أن الدكتور مصطفى حجازي نشر كتابه: التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وبعد ذلك بعقدين من الزمن، نشر كتابه الآخر: الإنسان المهدور، تعبيراً عن الإنسان لم يعد فيه ما يعبّر عن حالة قهرية، لأنه جرى " شفْط " قواه وبلبلتها بالكامل، أي ما يشعِره بالحد الأدنى من إنسانيته، فكيف الحال لو أنه نظر في الجاري، وأهواله، بما كان عليه الوضع قبل قربة عقدين من الزمن كذلك؟ إنه الكارثي بامتياز، ولا أحد يستطيع توقع ما سيحصل خلال هذا العقد الذي نعيشه، حتى بالنسبة للذين يسوسون مجتمعاتهم، باعتبارهم أولي أمرها، أو الحريصين على أمنها وسلامتها ..؟!
كما هو التشخيص الدقيق للإنسان جهة الصحة من الداخل مخبرياً، هكذا تكون مكاشفة ما في الداخل، لمعرفة طبيعة العالم الداخلي الذي يتميز به ساكنه، على الصعيد الذهني والنفسي .
والمصيبة الكبرى، أن الذين يواجهون مثل هذه المكاشفة " الصحّية طبعاً " هم أنفسهم من يعيشون نهب حالات التهويل من جهة من يتدربون على تعبئة نفوس سلبية الإرادة هكذا. ليكونوا ضحايا بصورة مضاعفة: جهة من يبتزونهم في مشاعرهم وعواطفهم، وينهبونهم في حياتهم، وجهة من يوهمونهم ويخدعونهم بوجود عدو، وهمي، ليصبحوا أبطالاً، بدجلياتهم المعسولة .
إن أبسط ما يمكن قوله، وبإيجاز شديد جداً، هو أن القطيعية التي يقال فيها الكثير، أو ما يذكّر ذلك بالحشد، وتلك التكتلية التي تجرّد المجتمع من سيمائه التاريخية، الثقافية والاجتماعية، وتتم لولبته باستحكام خارجي، تتناسب طرداً مع جانب الإفقار المريع للمجتمع والمكون من أفراد محكومين بمجموعة مؤثرات تؤطرهم حياة وموتاً .
وإذا كان لي أن آتي على ذكر مثال، في هذا المنحى، فهو يرتكز إلى المقروء من الأدبيات النفسية الحديثة، ويكون لفرويد الموقع المفصلي فيها، والذي أفصح عن تلك العلامات التي يعيشها الفرد الواحد: ما يجهل منه كثيرا: الهو بعالم غرائزها، الأنا، الدالة عليه، وفيها ما يصعب عليه التيقن منه، لأنها مستنبتة اجتماعياً، والأنا الأعلى التي تمثّل القيم المجتمعية، وهي بدورها تتجسد في المعتبَرين قيّمين على المجتمع .
ورغم قِدَم مقولات فرويد، وظهور تصورات نفسية جديدة، إلا أنها تطرح نفسها على وجه العموم، تعبيراً عن تلك الخطوط الرفيعة والساخنة التي يتداخل فيها الفردي والاجتماعي. وثمة رصيد كبير من هذه المأثورات التي يتولى الفرد الذي يعرض نفسه على طبيبه النفسي، إشهارها بأسمائها دون حساب لأي كان، مما يصله بأسرته أو مجتمعه، حين يشير إلى ما هو كامن في أعماقه النفسيه مما هو مكبوت، وعلى شخص الأب الرهان الأكبر، ومنه بمفهومه البيولوجي، يأتي الأب السياسي، الاجتماعي، الديني، الاقتصادي، والرمزي...إلخ، دون ذلك لا يستقيم داخلياً . يعني ذلك أن الاعتراف في المجتمع الغربي يشكّل المدخل التاريخي القويم للمكاشفة وقابلية الإسهام في بناء المجتمع، وفي الوقت نفسه، للمشاركة في مختلف الأنشطة التي يمكن للفرد الواحد التمايز فيها إبداعاً أدبياً وخلافه.
في مجتمعاتنا: ويل لمن يشير، بسبّابته، أو بأي شكل آخر، إلى جانب مما تقدَّم، إلى أنه يعاني من مكبوتات معينة، وأنه بحاجة إلى من يحرّره من هذه المكبوتات. يعني أن من الصعب جداً ظهور من يختص في طب الأمراض النفسية " هكذا ببساطة " ويفتتح عيادة وهي تحمل لوحة كبيرة وفيها مكتوب: أخصائي أمراض نفسية !
إن أول من يتعرض للتعليق، ويكون محل شبه، هو هذا الدكتور: الطبيب نفسه( لا بأس أن يكون اختصاصه: طبيب أمراض عصبية ). ذلك يغفَل عنه، بالمفهوم العصبي" الفيزيولوجي " أما النفسي فيفتح ناراً على المجتمع في العمق.
إن ما يؤتى على ذكره، جهة المسئولية، يكون الأب أو الوالدان، وما يشكل امتداداً للأب خصوصاً، والتسمية تكون في الحالة هذه صادمة. إنها تمارس تعرية للمجتمع. تكشف " زنجاره: صدأه الكثيف " وتميط اللثام عن الوجه الفعلي لمن يمثّل مسئولية هذا الجانب أو ذاك، هذا المنحى أو ذاك اجتماعياً، سياسياً، وتربوياً...إلخ.
وضع الكرة في مرمى ولي الأمر العائلي، الاجتماعي، السياسي، التربوي، الثقافي، توقيف تاريخي مباشر لهذا الاسم المركَّب، وتعريضه للمساءلة، بمعنى: إبراز فظائع ما يُرتَكب بحق المجتمع الموجَّه قطيعياً .
دون ميعاد، دون وجود أي عقد موقَّع عليه، يلتقي الأب العائلي بالأب السياسي وتجمعهما مصلحة مشتركة تراتبياً، ويكون للقهر وأبعد منه: الهدر المضاعف هو العلامة الفارقة لهذا المجتمع الذي ينعدم مستقبله جرّاء ذلك، ذلك هو مقدَّر من خلال طبيعة العلاقات القائمة.
مجتمع مغلق من الداخل، متروس بقوة وإحكام، حيث إن أي اعتراف نفسي، من مناقبية الطب النفسي، يعتبَر إساءة إلى السائد في المجتمع من أعراف وتقاليد، لا بل، تهديد لسلامته وأمنه، وحتى هويته القومية والوطنية .
بالمقابل، في مقدور أي فرد كان، وهو يحمل شهادة جامعية عالية " من نوع دكتوراه، أو ما يرادف ذلك " أن يتحدث في أمر فرويد ومن جاء بعده، من الورثة السيكولوجيين: ادلر، يونغ، فروم، ولاكان...وأن يسطّر عشرات لا بل مئات الصفحات، وينشرها نظرياً، بعيداً عن تسمية مباشرة، دون ذلك سيواجه ما ليس في الحسبان .
إزاء ذلك، يمكن لأي منا أن يتساءل، وهو يسمع، أو يلاحظ يومياً: خروج أفراد " هم شباب، عموماً " وحتى عائلات، وهم يبيعون حتى بيوتهم وعقاراتهم، وملؤهم النفسي انجراحات كاوية، ووجهتهم أورَبا، راضين في أن يمارسوا أكثر الأعمال ثقلاً عليهم، وحتى إهانة لهم أحياناً. سوى أنهم في أنفسهم يشعرون بالإنساني داخلهم أكثر، ويبذلون كل ما في وسعهم ليعيشوا حياة يرونها أكثر استجابة لما حُرموا منه طويلاً طويلاً، إنسانياً.
وأبسط ما يمكن التشديد عليه، هذه الحروب الفولكلورية التي نعيشها منذ عقود في المنطقة، هنا وهناك، هذا الدمار الذي لم يستثن شيئاً في الحرث والنسل، هذا الاستهتار بحياة مجتمع بكامله، كرمى أشخاص معدودين على الأصابع طبعاً، لا يعدو أن يكون تعبيراً صارخاً عن هذه القطيعية التي تنذَر لأشكال الإرهاب والقمع المختلفة ، وما يجري ترداده، ومن قبل تلك الذهنية المختزلة والموجَّهة، بوجود من يتآمر على البلاد، بوجود " أذناب " لهم داخلاً.
لقد انفجرت القطيعية نفسها ، كمفهوم اجتماعي، من الداخلي، واكتسبت معان أخرى، مريعة في ضوء الجاري!
ففي ضوء المستجدات على صعيد عالمي، وانفجار المفاهيم المعرفية، والانتشار الهائل لأجهزة الاتصال الحديثة، وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، وظاهرة اليوتيوبيات واستفحلالها، كل ذلك كان من نتائجه ظهور إنسان من نوع آخر، فيه القليل من الآدمية، والكثير من البهائمية المعلبة والمسواقة هنا وهناك.
نحن هنا، وفي الحالة هذه، نواجه مواتاً نفسياً بأكثر من معنى، والتمثيل بالحقيقة بشكل غير مسبوق، لأن هناك من يمتلكون القدرة على ذلك، وهم أنصاف قطيعيون، أو خدَم قطيعيون، راضون في أن يكون مزجاً بين الآدمية والبهائمية، وهم سعداء في قرارة أنفسهم، ولديهم استعداد في أن ينفّذوا أكثر الأعمال لاأخلاقية ضد الذين يشار إليهم أنهم يمثّلون خطراً على الأمن المجتمعي، أو يهددونه، ومن قبل القيّمين عليه.
ربما ذلك يكون مدعاة للتفكير، من قبل من يراقب الجاري عن بعد، وفي صمت، وكله حرص على مجتمعه، على بلده، على أهله، وهو يتخوف مما يمكن أن يحصل غداً ما هو أكثر فظاعة من اليوم، وبعد غد، أكثر رعباً وترويعاً مما حصل غداً، وهي أكثر من كونها عملية حسابية، لمن يقتفي طبيعة المتغيرات البنيوية في المجتمع .
الإنسان مفهوم نفسي، قبل أي كان! لعلها من كبرى الحقائق الكونية بالنسبة لنا نحن البشر. وما لم يُصغَ إلى ما يجري في الداخل، ما لم ينظَر في النزف الداخلي، أو يدقَّق في بنيانه المتداعي أو المتصدع، أو ما هو مكتوم في الداخل، يستحيل بناء ذلك الإنسان الذي تبنى عليه الآمال، ومن المستحيل بمكان أيضاً، النظر إلى من يعتبر نفسه ولي أمر مجتمعه، وفيه ما فيه من هذا الحطام الاجتماعي- النفسي، على أنه سوي في داخله، وجدير في أن يشار إليه، ويقيّم معنياً بالأحياء، وفي مقدوره مجالسة من تكون مجتمعاتهم ذات باع طويل في التحضر والتقدم.
ما يزيد الطين المجتمعي بلَّة تاريخية، هو أنه إلى جانب موات الروح في الجسد المجتمعي، وتجلّي ذلك الاستسلام الطوعي لما هو قدَري، ينبري من يمارسون تهويل الجاري، من باب أن الذي يتعرضون له من مصائب، هو بسبب ضعف إيمانهم، وأن كل مصيبة تصيبهم إنما عقاب إلهي منزَّل فيهم، وهو ما يضاعف يأسهم، وخنوعهم بالمقابل، والاستسلام أكثر فأكثر لكل ما يكون بسبب اجتماعي، وليس قدرياً، وبوجود من يفعّلون كل ذلك منبرياً في نفوسهم، أو عبَر يوتيوبيات أو مواقع التواصل الاجتماعي، وتيئيسهم أكثر فأكثر، حيث تنسد المعابر والممرات أو القنوات التي تصل ما بين الأرض والسماء، على وقع هذا التشديد ومعاودة التشديد على ما هو قدري، كما لو أن المصائب من النوع المذكور، لا تعرف ضحايا لها، إلا في هذه المنطقة، كما لو أن القطيعية مقرّرة تاريخياً هنا، وليس لأن هناك من يشحذ لسانه المسموم، وبتكليف معلوم، ومدفوع الثمن، لنشهد المزيد من الانحدار القيمي للمجتمع، وحيث إنه في كل يوم تشهد الحياة انسحاباً منها أكثر فأكثر .
لا يعود الموت بكل مؤثراته مستشري الفعل، مخيفاً الناس، إنما هي الحياة التي تصعف إرادة الرغبة فيها، وما حالات الاستغفار وتأنيب النفس، إلا التعبير الأمثل عن مثل هذه المعادلة الثقيلة الوطء.
هذا يصلنا بما تقدَّم، حين تحوَّل النفس إلى قمقم مغلَق ، يُرمى بصاحبه" الأسير داخله "، في غياهب التاريخ المحنَّط والمفرَّغ من الزمان والمكان. وهو كذلك، أي كون هؤلاء القطيعيين فقدوا كل اتصال ممكن بما هو حيوي داخلهم.
بالطريقة هذه، تمارس الحياة سلطتها، وبالطريقة هذه، يؤدي الموت، كذلك،أدواره النشطة ليل نهار..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى