نقوس المهدي - الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.. سلطان العارفين وفيلسوف المحبة

(فمن حد الحب ما عرفه، ومن لم يذقه شربا ما عرفه، ومن قال رويت منه ما عرفه، فالحب شرب بلا ري) الفتوحات المكية



صعب على من يمتلك القليل من المعارف والنزر اليسير من المعلومات مثلي، الكتابة عن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي رقيد سفح جبل قاسيون، وكأن القدر شاء ان يحرس جلق، وكذلك شاء ان يطلق عليه اتباعه ومريدوه عدة القاب نيرة من باب الانجذاب والتوقير منها الكبريت الاحمر، ورئيس المكاشفين، والبحر الزاخر، وامام المحققين، وسلطان العارفين، والشيخ الاكبر نسبة للطريقة الاكبرية في التصوف، و"الكامل من عظمت حيرته ودامت حسرته ولم ينل مقصوده". هكذا تلتقي الفلسفة والتصوف والعلوم والتجربة الدينية والشعر في وجدان هذا العالم الكبير المراوح بين المنظور الحقيقي والتأويل الاسطوري للهالة المهيبة والسحرية التي احاطت بهذا المفكر المشبع بتجليات عرفانية شتى والمشع باشراقات نيرة وبثقافات ورموز معرفية متنوعة.. واختزالا لمساره السياحي الروحاني من مورسيا حيث ولد الى دمشق الشام حيث ووري جثمانه التراب، وما تخلل هذا من تنقلات بين فاس ومصر وعبوره للحجاز وزياراته للعديد من الامصار الاخرى ليستقر بالشام مسقط الروح.. واختصارا ايضا لسفره الروحي وتنقله الجواني المتفتح على الديانات السماوية والفلسفة الاسلامية، والنظرة الشمولية في التفكير وسمو الفكر، والتسامح بين الحضارات والديانات قاطبة، إذ يقول في احد اشهر ابياته التي تعد اكير شاهد على عظمة فكره وتفتحه، وأضحت حجة تتمثل بها كل اللغات:
لقد كنت قبل اليومِ أُنكر صاحبي = إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل صورة = فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبانِ
وبيت لأوثانٍ وكعبةُ طائف = وألواح توراة ومصحف قرآنِ
أدين بدينِ الحب أنى توجهت = ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني
المتتبع لحياة الشيخ ابن عربي يقف على اهمية الجانب الوجداني لديه ورجاحته، وقد كتبت حول هذه الخصلة الحميدة العديد من الدراسات، ذلك ان مصنفه الهام "ترجمان الاشواق" والفتوحات من بعده هو اصلا كتاب في العشق والمحبة وعلم الجمال في شقيه الديني والدنيوي، الناسوت واللاهوت، الحسي والروحي، في وقت كان ذلك التصرف بمتابة جريرة جسيمة وسلوكا فضائحيا يحرمه المجتمع الاسلامي في العصر الوسيط والراهن ايضا ويعاقب عليه.. وقد لا يخفى على احد لقاءه مع الفيلسوف ابن رشد، بناء على طلب هذا الاخير حينما وصله نبوغه وانبهاره بذكائه، ولقائه في احدى حجاته بغادة عراقية اسمها النظام، ذات حسن وجمال وميزات روحية ومحاسن حسية فتقت اسراره وهتكت وقاره وهو على ما هو عليه من ورع وتقوى..
وقد اورد د. امين الزاوي في مقال له بعنوان (فصل المقال في ما بين لالّة ستّي وسيدي بومدين من أوهام) ان "نظام" هذه اسمها الضاوية او للا ستي بنت مولايي عبدالقادر الجيلالي وقد انتقلت الى تلمسان للتقرب من غوثها ابي مدين شعيب ومساعدته في اداء رسالته الدينية بعد كل ما سمعته عنه من خوارق واسرار ربانية على لسان الشيخ الاكبر، ويروي لنا ابن عربي فيقول:
"قعدت بعد صلاة المغرب بمنزلي بإشبيلية في حياة الشيخ ابن مدين، وتمنيت أن لو اجتمعت به، والشيخ في ذلك الزمن ببجاية مسيرة خمسة وأربعين يومًا. فلما صليت المغرب تنفلت بركعتين خفيفتين. فلما سلمت دخل علي أبو عمران (السدراني)، فسلم، فأجلسته إلى جانبي وقلت: من أين؟ فقال: من عند الشيخ أبي مدين ببجاية. فقلت: متى عهدك به؟ قال: صليت معه هذا المغرب. فرد (أبو مدين) وجهه إليّ وقال: إن محمد بن العربي بإشبيلية خطر له كذا وكذا، فسر إليه الساعة وأخبره عني(...) يقول لك: أما الاجتماع بالأرواح فقد صحّ بيني وبينك وثبت، وأما الاجتماع بالأجسام في هذه الدار فقد أبى الله ذلك. فسكِّن خاطرك والوعد بيني وبينك عند الله في مستقر رحمته".
ولم يكن مؤلفه الشهير الذائع الصيت ذلك الا اشعارا عن لواعج العشق ونار الهوى دبجها شاعر رقيق المشاعر، خاصة ان هواجس العشق والمحبة والصبر لا تغيب عن وجدانه وتفكيره مما اهله لان يكون فيلسوفا كونيا، ولنا ان نتخيل مجرى الكلام بين التصور اللغوي والاحساس الصوفي.. بين العشق الإلهي والحب الحسي، حيث تحضر صورة المرأة في حياته ومؤلفاته الأدبية والفلسفية، سواء من جانب التبجيل تجاه شيخاته فاطمة القرطبية او شمس أم الفقراء بالمغرب؛ ووصفه لهن بأحسن الاوصاف، واعتقد اني قرأت في مكان آخر خبرا عن صعقته من نظرة من عيون امراة متزرة كان قد مر بها في اسواق فاس.. أو توجهه بالكلام لصبية حسناء كانت تداوم على متابعة دروسه في الفقه.. وكان ينافح كبير عن أحقية الأنثى وأهليتها للولاية للسياسية، بل يرجع كل فضل لها، ويذهب إلى أن الكون بما فيه من رجال هم نساء أصلا، من خلال نظمه لـــ (ما لا يؤنث لا يعول عليه)..
وعلى ذكر المحبة استحضر في هذا المقام شخص عبدالكبيرالخطيبي واشعاعه الفكري الكبير والذي يكون اقرب مفكر لابن عربي، لا من حيث شمولية الفكر والالمام بالمعارف وصوفيته الفكرية التي حفزته للحفر في التراث الاسلامي والعربي ، هذه الاحفوريات التي استخرجت نفائسه الثمينة ، وتواضعه ونسكه في المناصب ، وكأنه المعني بالقول: "الكامل من عظمت حيرته ودامت حسرته ولم ينل مقصوده". ولا من حيث التقارب في السن فكلاهما عاش سبعين سنة ونيف، ونزوح الاول من الغرب للشرق ونزوح الثاني من الجنوب الى الشمال حيث ابهر كبارالمفكرين.. ولقب بــ(الغريب الخبير) وكان جديرا بهذا النعت الكوني الذي اسبغه عليه جلك ديريدا، زيادة على التقائهما على كلمة (المحبة) التي عبر عنها ابن عربي فلسفيا وشعريا، أو (التحاب Aimance) التي صاغها ونحتها الخطيبي معجميا، وأفرد لها جانبا من اهتمامه وكتاباته ومراسلاته




1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى