نقوس المهدي - أبو العبر الهاشمي : أول الدادائيين

يعج الادب العربي بالعديد من الظرفاء والمتفكهين والمتحامقين والماجنين، وبادب الهزل والفكاهة والضحك والمجون والخلاعة، وهو جانب اغفله الباحثون والدارسون المحدثون وان تناوله القدماء وابدعوا فيه مثل النيسابوري في " عقلاء المجانين "، وابن الجوزي في " أخبار الحمقى والمغفلين "، وابن المعتز في " تراجم الموسوسين"، وأبي العنبس الصيمري الذي ألف نيفا وثلاثين كتابا، وأبي المطهر الأزدي في كتابه " حكاية أبي القاسم "، والأصفهاني، وابن النديم، وعبد العزيز البشري، لاعتقادهم بأن دراسة هذا الأدب ستلقي الضوء على أدب الجد، فتغيّر نظرتنا للأدب الكلاسيكي بحسب قول د. عبد الفتاح كيليطو في كتابه " الحكاية والتاويل "
ونذكر من هؤلاء الظرفاء
- الشيخ ركن الدين الوهراني: أديب مغربي مجهول، واحد رجالات الادب المنسيين.. عاش متنقلا مرتحلا بين الامصار، محبطا من عصره ساخرا من ناسه وعكس كل ذلك في أدبه الموغل في اللامعقول.. وقد توفي في عام 1575ميلادي..
كتب بعض المدابير إلى أمه :
" مني إلى أمي
أما بعد
فإني ما أفلحت عندك ولا ها هنا، دخلت القيروان بكرة، واشتهيت أخذ الولاية ضحوة، وأتزوج بنت السلطان عشية، فلم تساعدني المقادير، فرجعت إلى سوق البز أبيع وأشتري، أبيع ثيابي وأشتري الخبز إلى أن نفدت البضاعة، فلزمت المساجد في أوقات الصلوات أسرق أحذية المصلين، وأرهنها عند اليهود الخمارين، على النبيذ في المواخير، طيبي قلبك من جهتي، وإن قيل لك عني إني مدبر فلا تصدقي، والسلام . "
- ابن سودون: عاش في القرن التاسع الهجري بمصر المملوكية واسمه الكامل أبو الحسن علي نور الدين بن سودون اليشبغاوي القاهري ثم الدمشقي. ولد وتعلم بالقاهرة وكان إماماً بأحد المساجد، وحج مرارا، وسافر في بعض الغزوات وأم ببعض المساجد، ولكنه سلك في أكثر شعره طريقة غاية في المجون والهزل والخلاعة واشتهر بهذا الامر
رحل الى دمشق ومات بها له بعض المؤلفات. لكنه مال إلى الهزل والتحامق.. وألف كتاباً بعنوان " نزهة النفوس ومضحك العبوس " بالعامية المصرية الدارجة..
- جعيفران الموسوس:
كان خبيث اللسان هجاء وهو القائل:
(لو نازع الله خلقٌ في بريته
نازعت ربي في الخلق الذين أرى)
انظر النجار (4/ 355)
وماني الموسوس: جاء ذكره في كتاب الاغاني واورده ابن المعتز في " تراجم الموسوسين " الى جانب جعيفران وأبو حيان ومصعب الموسوس،
- أحمد بن عبد السلام: ترجم له ابن المعتز في طبقاته ونقل عن محمد بن عبد الله الطرسوسي قوله: (رأيت أحمد بن عبد السلام وما له ثان بمدينة السلام في قول الشعر، ولم يكن له فيه أمل، ومازال فقيرا إلى أن مات، ووسوس في آخر عمره، فرأيته والصبيان يصيحون به: " يا كاتب الشريطي، فيخرق ثيابه ويحلف ألا يخرج من داره ".
- ابو العجل الماجن: كان صديقا لأبي العبر الهاشمي العباسي، اورده ابن المعتز في طبقاته والمرزباني في معجم الشعراء
(كان أبو العجل ينحو نحو أبي العبر، ويتحامق كثيرا في شعره، وأورد أربع قطع له، منها لامية على غرار: صوت صفير البلبل) وحكى ابن المعتز قصتها فقال: وكان أبو العجل من آدب الناس وأحكمهم وأكملهم عقلا وأشعرهم وأظرفهم، عالماً بالنحو والغريب، عارفاً بأيام الناس وأخباره، قد نظر في شيء من الفلسفة، وكان مع هذا مقتراً عليه، فما رأى ذلك استعمل الغفلة والرطازة فلم يحل عليه الحول حتى اكتسب بذلك مالاً كثيراً. ولما صار المتوكل إلى دمشق تلقاه أبو العجل راكباً على قصبة، وفي إحدى رجليه خف وفي الأخرى نعل، وبين يديه غلام بيده غاشية، وعليه دراعة، وعلى رأسه قلنسوة من الطواميز، فنظر إليه المتوكل فتبسم وقال: ويحك جننت بعدنا، فأنشأ يقول
(شه شه على العقلل
ماهو من شكللي) ..إلخ.
- أبو العبر الهاشمي:
اما ابو العبر حديث موضوعنا فهو: أبو العباس محمد بن أحمد ويلقب حمدونا الحامض بن عبد الله بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. نادم الخليفة المتوكل في القرن الثالث، قال عنه ابن النديم: وله من الكتب (كتاب الرسائل) وكتاب سماه (جامع الحماقات وحاوي الرقاعات) وكتاب (المنادمة واختلاف الخلفاء والأمراء) وكتاب (نوادره وأماليه) وكتاب (أخباره وأشعاره) وأورد له قطعة من عينيته التي أولها:
زائر نم عليه حسنه
كيف يخفي الليل بدرا طلعا
ونقل عن جحظة قوله: (لم أر أحفظ منه لكل عين، ولا أجود شعرا، ولم يكن في الدنيا صناعة إلا وهو يعملها بيده، حتى لقد رأيته يعجن ويخبز)
ونقل أبو الفرج عن مدرك صاحب المزدوجة أنه قال: حدثني أبو العنبس الصيمري قال: " قلت لأبي العبر ونحن في دار المتوكل:
- ويحك إيش يحملك على هذا السخف الذي قد ملأت به الأرض خطباً وشعراً وأنت أديب ظريف مليح الشعر?
فقال لي:
- يا كشخان، أتريد أن أكسد أنا وتنفق أنت?
- أنت أيضاً شاعر فَهِم متكلم، فلم تركت العلم، وصنعت في الرقاعة نيفاً وثلاثين كتاباً?
- حب أن تخبرني لو نفق العقل أكنت تقدم علي البحتري، وقد قال في الخليفة بالأمس:
(عن أي ثغر تبتسم
وبأي طرف تحتكم)
فلما خرجت أنت عليه وقلت:
(في أي سلح ترتطم
وبأي كف تلتطم)
فأعطيت الجائزة وحرم، وقربت وأبعد، في حر أمك وحر أم كل عاقل معك! فتركته وانصرفت. قال مدرك: ثم قال لي أبو العنبس: قد بلغني أنك تقول الشعر، فإن قدرت أن تقوله جيداً، جيداً? وإلا فليكن بارداً، بارداً، مثل شعر أبي العبر وإياك والفاتر فإنه صفع كله).
ومن اخبار ابي العبر التي حكاها أبو الفرج في (الأغاني ). قال ابن المعتز: (كان أبو العبر يزيد في كنيته كل سنة حرفا، فما زال يزيد حتى صار (أبو العبر طرذرز لو حمق مق)
وكان من آدب الناس، إلا أنه لما نظر إلى الحماقة والهزل أنفقَ على أهل عصره أخذ منها وترك العقل فصار في الرقاعة رأسا ... وكان يمدح الخلفاء ويهجو الملوك بمثل هذه الركاكة، يؤمر على الحمقى فيشاورونه في أمورهم، كأبي السواق وأبي الغول وأبي الصبارة وطبقتهم من أهل الرقاعة..
ومن شعره قوله
أنا أنا أنتَ أنا
أنا أبو العَبْرَنَّهْ
أنا الغنيّ الحمْقوقو
أنا أخو المجَنَّهْ
أنا أحرّر شعري
وقد يجيء بَرْدَنَّهْ.
ولعل احسن من كتب عنه هو د. عبد الفتاح كيليطو في كتاب " الحكاية والتاويل " حيث خصه بدراسة وافية بعنوان " ابو العبر والسمكة " يقول في احدى فقراتها :
".. كان أبو العبر يجلس بسر من رأى في مجلس يجتمع عليه فيه المجان يكتبون عنه فكان يجلس على سلم وبين يديه بلاعة فيها ماء وحمأة وقد سد مجراها وبين يديه قصبة طويلة وعلى رأسه خف وفي رجليه قلنسيتان ومستمليه في جوف بئر وحوله ثلاثة نفر يدقون بالهواوين حتى تكثر الجلبة ويقل السماع ويصيح مستمليه من جوف البئر من يكتب عذبك الله ثم يملي عليهم فإن ضحك أحد ممن حضر قاموا فصبوا على رأسه من ماء البلاعة إن كان وضيعا وإن كان ذا مروءة رشش عليه بالقصبة من مائها ثم يحبس في الكنيف إلى أن ينفض المجلس ولا يخرج منه حتى يغرم درهمين قال وكانت كنيته أبا العباس فصيرها أبا العبر ثم كان يزيد فيها في كل سنة حرفا حتى مات وهي أبو العبر طرد طيل طليري بك بك بك
وشوهد أبو العبر واقفا على بعض آجام سر من رأى وبيده اليسرى قوس وعلى يده اليمنى باشق وعلى رأسه قطعة رثة في حبل مشدود بأنشوطة وهو عريان.. وعلى شفته دوشاب ملطخ فقلت له خرب بيتك أيشُ هذا العمل؟ فقال أصطاد ياكشخان يا أحمق بجميع جوارحي إذا مر بي طائر رميته عن القوس وإن سقط قريبا مني أرسلت إليه الباشق والرئة التي على رأسي يجيء الحدأ ليأخذها فيقع في الوهق والدوشاب أصطاد به الذباب وأجعله في الشص فيطلبه السمك ويقع فيه...
ومما يحكى عن عبثية ابي العبر
وحدثني جعفر بن قدامة قال قدم أبو العبر بغداد في أيام المستعين وجلس للناس فبعث إسحاق بن إبراهيم فأخذه وحبسه فصاح في الحبس لي نصيحة فأخرج ودعا به إسحاق فقال هات نصيحتك قال على أن تؤمنني قال نعم قال الكشكية أصلحك الله لا تطيب إلا بالكشك فضحك إسحاق وقال هو فيما أرى مجنون فقال لا هو امتخط حوت قال أيش هو امتخط حوت ففهم ما قاله وتبسم ثم قال أظن أني فيك مأثوم قال لا ولكنك فيّ مأبصل فقال أخرجوه عني إلى لعنة الله ولا يقيم ببغداد فأرده إلى الحبس فعاد إلى سر من رأى, وكان أبو العبر شديد البغض لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه وله في العلويين هجاء قبيح وكان سبب ميتته أنه خرج إلى الكوفة ليرمي بالبندق مع الرماة من أهلها في آجامهم فسمعه بعض الكوفيين يقول في علي صلوات الله عليه قولا قبيحا استحل به دمه فقتله ."
" وكان المتوكل يرمي به في المنجنيق إلى الماء وعليه قميص حرير فإذا علا في الهواء صاح الطريق الطريق ثم يقع في الماء فتخرجه السباحة قال وكان المتوكل يجلسه على الزلاقة فينحدر فيها حتى يقع في البركة ثم يطرح الشبكة فيخرجه كما يخرج السمك ففي ذلك يقول في بعض حماقاته
ويأمر بي الملك
فيطرحني في البرك
ويصطادني بالشبك
كأني من السمك
ويضحك كك ككك
ككك ك ك كك ك كك "
" حدث عم عبد العزيز بن أحمد قال: سمعت رجلاً سأل أبا العبر عن هذه المحالات (أي السخافات) التي يتكلم بها، أي شيء أصلها؟ فقال أبو العبر: ابكر فاجلس على الجسر، ومعي دواة ودرج (أي ما يكتب فيه)، فاكتب كل شيء أسمعه من كلام الذاهب والجائي والملاحين والمكارين، حتى املأ الدرج من الوجهين، ثم اقطعه عرضًا، وألصقه مخالفًا فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه! "
هكذا اشتهر ابوالعبر بسخفه مما حدا بالعديد من النقاد بو صفه بالسوريالي الاول و الدادائي الاول، الى غير ذلك
من الالقاب الاسقاطية التي يتنافس اكثر من ناقد عربي على الصاقها بابي العبر

* نقوس المهدي - اليوسفية - المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى