حسين حمدان العساف - نقد كتاب «مقالات في أدب الحمقى والمتحامقين» لمؤلفه ( أحمد الحسين) تابع

تابع


ليس بين السلطة والحمقى والمتحامقين صراع كما هوالحال في فرنسا:
ويبرز هنا سؤال: أحقاً كان بين الحمقى والمتحامقين وبين السلطة صراع،كما زعم المؤلف، على غرار ما حدث بين السلطة والمجانين في فرنسا؟ لم يذكر لنا القدماء، ولم يحدثنا التاريخ أن بلاد الشام شهدت في القرن الأول للهجرة أزمة اقتصادية حادة، كما شهدتها باريس أرغمت الطبقة الارستقراطية أن تزج الحمقى والمتحامقين والعاطلين عن العمل بالمشا في التي جعلتها سجوناً كي تمتص نقمتهم، وتحمي النظام من خطر اندلاع انتفاضات الجوع والخبز، ولم يحدثنا هؤلاء أن الطبقة الارستقراطية اعتبرت أولئك جميعاً يداً عاملة احتياطية رخيصة، إذا تلاشت الأزمة بدأت باستغلالهم من جديد، كما حدث في باريس. ووفقاً لمفهوم الحمقى والمتحامقين السائد الذي يتفق مع دلالته اللغوية، فإ نه لم يكن هناك صراع بينهم وبين السلطة، كما أنه، وفقاً لمفهوم المؤلف الضبابي الفضفاض، لم يحدث أيضاً صراع بينهم وبين السلطة عدا نفراً منهم هم المخنثون الذي رأى المؤلف في وجود هم خطراً يقوض أركان ليس القيم والمبادئ والأخلاق العامة للمجتمع فحسب، وإنما سلطة الطبقة الارستقراطية أيضاً، مثلما كان وجود المجانين والطبقات الشعبية في فرنسا يعد خطراً على سيادة الطبقة البورجوازية الحاكمة.
ضرورة التمييز بين المخنثين والمتحامقين:
ولكن هل حقاً كان وجود جما عة المخنثين يشكل خطراً على بني أمية كالأخطار الكبرى المحد قة بهم التي تمثلها الجماعا ت والتيارات والأحزاب المعارضة والمعادية لهم؟ إنَّ خطورة هذه الجماعة على سلطة الطبقة الارستقراطية لم تأتِ من كونها حمقى أو متحامقة ، يزعزع وجودها كيان الطبقة الحاكمة، ولم يكن خطرها مقصوراً عليها وحدها، كما ذهب إلى ذلك المؤلف، وإنما كان خطرها تعدّى هذه الطبقة إلى المجتمع بأسره، فهي تمردت على آدابه العامة، واخترقت القيم والمثل والأخلاق التي دعا إليها الدين الجديد، وقد كان المخنثون منحرفين وشاذين جنسياً، يدعون إلى الإباحية، ويجمعون بين الرجال والنساء، وبذلك كان وجودهم خطراً أكيداً على وحدة هذا المجتمع الجديد الناهض وسلامة أمنه، فكان لزاماً على السلطة، وهي المسؤولة عن حما ية الأخلاق والآداب العامة أن تحمي المجتمع من انحراف هذه الجماعة، وأن تتخذ منها موقفاً صا رماً، وليس خا فياً أنَّ القوانين والأنظمة تحمي، في كل زمان ومكان ، الأخلاق والآداب العامة من الانحراف، وتعاقب كل من يخلّ بها، أو يخترقها عقوبات تتفاوت شدة وقسوة، ولا شك أنَّ عقوبة الخصي التي كانت تؤدي غالباً إلى الموت، لم يكن يعرفها المجتمع العربي وحده فحسب، وإنما كانت مألوفة لدى مجتمعات أخرى كثيرة، ولا يستبعد أنّها انتقلت إلى العرب من تلك المجتمعات، غير أنَّ المؤلف يرى في سلوك هذه الجماعة المنحرف تعبيراً عن تمرد شعبي، وتململ مما هو سا ئد، ويثب السؤال: هل المقصود بـ(السائد) الأخلاق والثقافة والآداب العامة التي كانت تحميها الطبقة الحاكمة؟ وهل كان هناك تمرد شعبي عليها؟ وإذا كان هناك تمرد شعبي عليها حقاً، فهل كان اللواط والشذوذ والإباحية هو الوجه الحقيقي الآخرللمجتمع؟ وعلى سبيل الافتراض لو أنَّ تململاً شعبياً لم يحدث قط على السلطة، أفكان هؤلاء المخنثون يكفّون عن المنكر، ويرتد عون عن الفحشاء؟ أمَّا المؤلف فيصف العصر الذي عوقب فيه المخنثون بالخصي، وهو القرن الأول للهجرة، بأنه (عصر القيم المنكسة الرأس) [22]، وهنا أسأل: لو أن السلطة تهاونت في حما ية الأخلاق والآداب العامة، فأرخت العنان للمخنثين والعاهرين والمنحرفين، وسمحت لهم بممارسة فرد يتهم وحريتهم بملء إرادتهم، فاستباحوا الأعراض، وجمعوا بين الرجال والنساء، فبماذا يمكن أن يسمي المؤلف ذلك العصر؟ أكان يسميه، مثلاً ، عصر القيم التي ترفع الرأس؟ وقد رأى أنه ذهب ضحية ذلك العقاب الذي يصفه بأ نه غير إنساني، عدد من المخنثين، ذكر أسماءهم ، وهم: (طويس، والدّلال، وطريف، ونومة الضحى، وزرجون، وهنب، واَبن نفّاش) [23]، وهؤلاء الذين أبدى المؤلف تعاطفه معهم لوطيون منحرفون عاهرون، حاربوا بسلوكهم تعاليم الدين الجديد، ونحن لا نعرف لهذه الجماعة أقوالاً أو آراء أو اشعاراً تعبر بها عن ذاتها. وتفصح عن عالمها.
العصر الذي عوقب فيه المنحرفون جنسياً في العصر الإسلامي (عصر القيم المنكسّة الرأس):
وصف المؤلف العصر الذي عوقب فيه المنحرفون جنسياً بأنه (عصر القيم المنكسّة الرأس)، فهو لم ينظر إلى القرن الأول للهجرة من خلال ما شهده من نقلة حضارية رائعة، وإنما نطر إليه على طريقه (فوكو) في الاختراق لإبراز الجانب الآخر لمجتمع هذا القرن، الجانب الذي يراه مظلماً، وأي جانب؟ الجانب الذي مسَّ حياة هذه الشرذمة الشاذة بالمفهوم الدقيق للشذوذ، والمتعارف عليه عبر العصور، على أنَّ معاقبة هؤلاء لا تعني معاقبة الحمقى والمتحامقين جميعهم، فالمخنثون لا يشكلون إلاَّنسبة قد تكون قليلة من فئات الحمقى والمتحامقين بمفهوم المؤلف،
أغلبية الحمقى والمتحامقين شعرت بالأمان والاطمئنان في قصور الطبقة الارستقراطية:
أَمّا أغلبية الحمقى والمتحامقين فشعرت بالأمان والاطمئنان في قصور الطبقة الارستقراطية حيث احتضنتهم، وأكرمتهم في الوقت الذي عاقبت فيه المخنثين إلى درجة أنَّ بعض الولاة كان يطلب أن يحُمل إليه الحمقى والمتحامقون رغماً عنهم ابتغاء التسلية والترويح عن النفس، وهؤلاء لم يكن مكانهم السجون أو المشا في كما كان عليه حال المجانين في فرنسا، وإنما كان في بلاط الخلفاء وقصور الأمراء والولاة، وقد أشار المؤلف إلى عدد منهم كـ (بديح) و(أشعب) وغيرهما وفي رحاب هذه البلاطات وتلك القصور جمع هؤلاء ثروات، وبلغوا منازل، لم يبلغها سواهم، فكيف يكون بين السلطة وهؤلاء صراع، وكثير من أفراد الطبقة التي تبحث عن التسلية والنادرة والضحك، بمفهوم المؤلف، حمقى أو متحامقون؟ ولم يحدث لمجتمعنا العربي في القرن السابع للميلاد ما حدث للمجتمع الفرنسي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، رغم ما بينهما من فاصل زمني يمتد إلى أكثر من عشرة قرون، شهدت مجتمعات العالم خلالها تطورات سريعة على مختلف الأصعدة. فلا شيء من الصراع الذي ذكره المؤلف قد حدث، ولا منطلقات نظرية اعتمد عليها هذا الصراع، كما زعم، ولم يكن هناك عزل اجتماعي شهده مجتمع القرن الأول للهجرة في الحجاز، ولم تكن التقاليد العربية أو الدين الجديد يدعو إلى مثل هذا العزل.
لا أساس للمقارنة بين ظاهرتي الحماقة والتحامق في المجتمع العربي أو العباسي والجنون في المجتمع الفرنسي:
والمقارنة بين ظاهرتي الحماقة والتحامق في المجتمع العربي أو العباسي والجنون في المجتمع الفرنسي التي اعتمدها المؤلف من حيث الإدانة والقبول أو العزل لا أساس لها من الواقع لانتفاء وجود الحد الأدنى من أوجه الشبه بينهما، هذا إذا افترضنا وجود ملامح واضحة لظاهرة الحماقة والتحامق في القرن الأول للهجرة استناداً إلى مفهومها الدقيق والسائد قديماً وحديثاً. إنَّ العرب نهضوا في القرن الأول للهجرة لنشرالرسالة، فجابوا الآفاق، وفتحوا الأمصار، واختلطوا بغيرهم من الأمم والشعوب، فأثرّوا فيها، و تأ ثروا بها، وبسبب هذا الاختلاط أدّى تمازج الثقافات والحضارات إلى تطور المجتمع العربي وتحضّره، فارتقى العقل العربي، ونشطت عند العرب حركة التأليف في اللغة والآداب والدين ومختلف العلوم الأخرى، وكانت الحجاز في القرن الأول للهجرة مركزاً لنشر الدين الجديد الذي تدعوا تعاليمه إلى العلم والحق والعدل والمساواة، ثم انتقل هذا المركز في القرن الثاني، وما تلاه من قرون إلى بغداد، فكانت بغداد مركز إشعاع حضارياً إلى العالم كله، وكان هذا العصر، أعني القرون الثلاثة الأولى للهجرة تقريباً، يمثل أرقى عصور العرب حضارة وازدهارا. وكان للمجتمع العربي الإسلامي سمات متناقضة تعكس طبيعة ذلك العصر، فهو من جهة مجتمع العلم والتحضر والتدين والزهد والجد، وهو من جهة أخرى مجتمع المجون والخلاعة واللهو والجهل والفساد، هذه السمات باتت حقا ئق كبرى شائعة .
إخفاق بحث المؤلف في بلوغ النتيجة التي توصل إليها فوكو:
لكنّ هذه الحقائق الكبرى لا يريدها المؤلف، ولا يلتفت إليها، وإنما يريد اختراقها وإسقاطها واستبدالها بالحقائق المطموسة التي لم يعرفها أحد، يريد أن يدرس الوجه الآخر للمجتمع العباسي، الوجه المرفوض، وجهه السالب، أو المعتبر كذلك جرياً على منهج (ميشيل فوكو) الذي رأى أنَّ الجنون يوصل إلى الحقيقة،إلى الوجه الآخر للمجتمع، إذ قال: (لقد علمتنا التجارب أنه غالباً ما نستطيع التوصل إلى الحقيقة عن طريق اغتصاب العقل) أي الجنون [24]، فرأى مؤلف الكتاب أنَّ دراسة ظاهرة التحامق توصلنا إلى الحقيقة الغائبة، إلى الوجه الآخر للمجتمع العباسي، الوجه السلبي له من خلال د راسته نصوصاً من أدب الحمقى والمتحامقين، ذلك أنَّ فئات الحمقى والمتحامقيين، وهي طبقة اجتماعية يراها المؤلف عريضة واسعة، عبّرت عن أوضاعها المادية والاجتماعية البائسة المعدمة من خلال أدبها الذي يرى أنها تزيح النقاب به عن الوجه الآخر للمجتمع العباسي، فما هو الوجه الآخر لهذا المجتمع، كما بدا للمؤلف في تلك الفترة؟ وبعبارة أخرى: ما هي هذه الحقيقة المطموسة أوالغائبة التي أبرزتها نصوصهم للمؤلف؟ في مقالته الخامسة (صراع المعقول واللامعقول في أدب الحمقى والمتحامقين) المثيرة للجدل والخلاف معاً، يسرع المؤلف في بداية المقالة، وقبل دراسة نصوصهم إلى تقرير النتيجة التالية مقدماً: (إنَّ أدب الحمقى قد انطلق من خلال استيعاب أدبا ئه لاشكالية الواقع والفكر، والعقل والجنون، واكتشاف آلية التحولات الاجتماعية بصورتها الشاذة، وغير الطبيعية التي شكلّت صدمة قاسية للذين لم يألفـواسوى ذلك الوجه اللّماح الذي رسمته نصوص الأدب الرسمي بطريقة تجافي الواقع، وتخالف الحقيقة على نحو كبير.
وهذا الأمر الذي لا يمكن أن ينكره باحث، أو يتعالى عليه دارس هو أنَّ العقل الذي هو من الناحية النظرية مصدر الفعل، والإرادة والوعي، ومن ثم مصدر القيادة والتوجيه، قد فقد دوره، وأقصي جانباً أمام سيطرة قوة اللاعقل الآمر الناهي الذي يتصرف على هواه دون تفكير أو تحليل، وما ينجم عن هذه الإشكالية التي كانت قائمة في زمن المتحامقين العباسيين، لايقتصر على الصراع الفكري، ولكنه ينسحب على الواقع، و تترتب عليه نتائج غاية في الخطورة، فإذا كان العقل قد خسر مكانته متراجعاً أمام طغيان اللاعقل، فإنَّ ذلك يعني هيمنة الجهل على العلم والأمية على المعرفة، واللهو والعبث على الجد والعطاء، وهذه المفارقة بين قوتين هي التي دفعت بفئة اجتماعية إلى الصدارة والوجاهة، وأقصت أخرى حيث يتحكم الجاهل بالعاقل، ويسود الأمي على المثقف، ويقرب الهازل، ويبعد الجاد، وباختصار يكون عندئذ زمن الحماقة والجنون [25]، ثم يختار المؤلف بعد ئذ نماذج معينة من نصوص الحمقى والمتحامقين لدراستها، ويختار حوادث معينة لهم ضمن هذا السياق، سأورد بعضها، فالمؤلف يرى أنَّ الزمن الذي عاشت فيه هذه الفئات إنما هو زمن الحماقة والجنون، أو عصر الحمقى وازدهار دولتهم، وطغيان سلطتهم، لأن الشاعر يقول:
إذا كان الزمانُ زما نَ حُمــقٍ = فإنَّ العقلَ حرمانٌ وشوم
فكن حَمِقاً مع الحمقى فإ ني = أرى الدنيا بدولتهم تدوم
ويرى أنه زمن البهلوانيات، إنه الزمن الذي يخالف منطق الوجود والحياة بطريقة عجيبة، ما أشبه الزمن فيها بالإنسان الذي يسير على يديه، مكبوب الرأس، ورجلاه إلى الأعلى، ونظره إلى الوراء، وهو يمشي القهقرى! هذه صورة زمن الحمقى والمتحامقين، كما يصفها أحدهم، إذ يقول:
أرى زمناً نَوْكا ه أســعد أهلـــــــه = على أنه يشــقى به كلّ عاقل
سعى فوقه رجلاه ، والرأس تحته = فكبَّ الأعالي بارتفاع الأسافلِ
ثم يضيف المؤلف قائلاً: (وفي وسط كهذا لا يفقد العقل مكانته فحسب، ولكن المرء يجد نفسه أمام خيارين عسيرين، فإماّ أن يتشبث الإنسان بعقله، أو يرتاد مسرح الجنون، وفي الحالة الأولى، فإن التمسك بالعقل في وسط غير عاقل هو الجنون بعينه، وهو الفقر والحرمان والكساد، في حين أنَّ الولوج في دنيا التجا نن والتجاهل يفضي بالأديب إلى المشاركة في اغتنام ذلك الزمن المقلوب) [26].. إن الجنون كما قال (فوكو) قد يكون الطريق لفهم الواقع، وهذا ما رآه المتحامقون مكتشفين من خلاله مفارقة الجهل والعلم، الفقر والغنى، لذلك اندفعوا إلى سلك التحامق ما دام ذلك النهج هو السبيل إلى حياة يجد الانسان فيها ما يطيب له، كما يخبرنا القمي:
تحامقْ تطب عيشاً ، ولا تك عاقلاً = فعقلُ الفتى في ذا الزمان عدوّه
فكم قد رأينا ذا نهىً صار خـــاملاً = وذا حُمُقٍ في الحمًق منه سـموّه
ويرى أنَّ أدب المتحامقين في رصده لصراع المعقول واللامعقول، كان يتجاوز هذه الاشارات العابرة ليقف عند مظاهر ذلك الصراع ومنعكساته، وبالتالي فهو يفجر أزمة المعاناة التي كان الناس يعيشونها عامة، والأدباء خاصة، ثم يستعرض صراع المعقول واللامعقول من خلال مظاهر متعددة، منها مأساة الجهل المسيطر، والقوة الطاغية التي تجسدت على الصعيد السياسي بهؤلاء القوّاد والطبقة الحاكمة، فيورد على ذلك مثالاً، هو سؤال المعتصم وزيره أحمد بن عمار البصري عن الكلأ، ما هو؟ فقال: لا أدري، فقال المعتصم:خليفة أمي ووزير عامي، وعن صورة الجهل المستبد المتغطرس الذي كان يستهين بالعقل، ذكر المؤلف الرواية التي تقول: إنَّ المنتصر استوزر أحمد ابن الخطيب، وكان ركب ذات يوم، فتظلّم إليه متظلم بقصة، فقتله، فتحدث الناس بذلك، وقال فيه أبو العيناء، الشاعر المتحامق:
قل للخليفة يا بن عم محمد = اشـكل وزيــرك إنّه ركّال
ويمر المؤلف على ابن العباس ذي التصرفات العجيبة الغريبة، ويرى أنه واحد من عشرات الأسماء التي لا تقل عنه تهوراً وطيشاً في الوقت الذي أصبحت أمور الناس ترجع إليه وإلى أمثاله، مما دفع الشاعر ابن بسام إلى نعي الدولة والخلافة ما دام هؤلاء الجهلة هم أصحاب الرأي والتوجيه، كما يقول :
أيرجـــو الموفق نصر الإله = وأمر العبــاد إلى دانيـه
ومن قبلها كان أمر العباد = لعمر أبيـــك إلى زانيه
إلى آخر هذه القصيدة، ويرى أنَّ أبيات ابن بسام، وقد عدّه المؤلف في هذا السياق شاعراً متحامقاً، ترسم صورة دقيقة عن صراع العقل واللاعقل، ويقول إنها: (صورة لا نلمحها كثيراً في الشعر الرسمي لابتعاد شعرائه عن الهم الاجتماعي.) [27] كما بدا في شعر الحمقى والمتحامقين الذين امتلكوا رؤية نافذة للواقع بكل أبعاده. ويرى أنَّ شخصية الجاهل الغني في هذا العصر أصبحت نموذجاً للاحترام والتقدير، وتحظى بالقبول والإعجاب مشيراً إلى الحاد ثة التالية: دخل أحد الشعراء، على (ابن شوذب) وهو الذي يضرب به المثل في كثرة الأموال، فأتي برعيل من الخيل، فتأملها، وقال: اخرجوا منها ذلك المرعزي، ثم أتي بقطيع من الغنم، فقال: لا تذبحوا ذلك الأدهم، وكان الشاعر مدحه بقصيدة، فلما رأى ذلك خرج من عنده، لم ينشده، وأنشأ يقول:
لا يعـــرف الضـأن من المعزى = ويحسب الأد هم مرعز
صفت له الدنيا ، وصاقت لنا = تلك لعمري قسمة ضئزى
وعلى هذا النحو تمضي في هذه المقالة بقية الحوادث والنصوص الأخرى، فإذن الحقيقة المطموسة التي أبرزها المؤلف هي طغيان اللامعقول على المعقول، وهيمنة الجهل على العلم، والأمية على المعرفة، واللهو والعبث على الجد والعطاء، وتحكم الجاهل بالعاقل، وسيادة الأمي على المثقف، هذا كله يمثل الوجه الآخر للمجتمع العباسي في العصر الذي يعتقد الناس أنه العصر الذهبي رغم كلّ ما فيه، لكنَّ هذا الاختراق لما هو سائد، يثير أسئلة عديدة: هل حقاً كانت نصوص المتحامقين تبرز هذه الحقيقة المطموسة عن المجتمع العباسي، وتشير بوضوح إلى هذا الوجه؟ وهل كان هذا الوجه يعكس حقيقة واقع المجتمع العباسي في ذلك العصر؟
غرض المتحامقين من رسم الوجه القاتم للمجتع العباسي:
هل من غرض آخر وراء رسم هذا الوجه القاتم الكالح لهذا المجتمع؟ ومن المستفيد منه ؟.. لقد تبين أنَّ بعض المتحامقين كانوا يدعون إلى نبذ العقل، كما تشير إلى ذلك نصوصهم الواردة في كتاب المؤلف، إذْ يرون أنه لا جدوى من التمسك به في زمن لا مكان فيه للعقل، ذلك أنَّ العقل بنظر هؤلاء فقر وحرمان وشؤم، أما نبذه فيجلب الرزق، وطيب العيش وارتقاء إلى المنزلة المرموقة، واستناداً إلى رأي هؤلاء، وهم بضعة أشخاص، راح المؤلف يطلق حكماً، عمّمه على هذا الزمن، بأنّه الزمن المقلوب الذي يسيطر فيه اللاعقل على العقل والجهل على العلم، فالعقل فيه منبوذ، ونبذ العقل في هذا الزمن يؤدي إلى اكتشاف الواقع على نحو مخالف لما هو سائد مثلما رأى (ميشيل فوكو) في الجنون طريقاً إلى فهم الواقع. وهنا ألفت النظر إلى أمر هام هو أنَّ هؤلاء الداعين إلى نبذ العقل، لم تكن عقولهم مغتصبة، وإنما كانوا عقلاء واعين، يعون ما يفعلون، فتصرفاتهم وأعمالهم وحوادثهم ونصوصهم ما كانت تصدر إلاّ عن إدراك عميق للواقع، وهذا ما أكده المؤلف، فإذن المتحامق رجل سوي ليس مصا باً بخلل عقلي، أو ما يشبه الخلل العقلي، وهو ليس مجنوناً مثل مجانين (فوكو) وهذا المتحامق أو المتجانن يفهم الواقع عن طريق العقل مثل العقلاء الآخرين، لا يختلف عنهم بشيء، ثم إنَّ آراء هؤلاء لا تعكس آراء بقية فئات المتحامقين والمتجانين، ولا آراء الحمقى والمجانين، وبالتالي لا تعكس حقيقة ذلك العصر الغائبة على نحو دقيق.
بعض نصوص المتحامقين لاتؤيد مايذهب إليه المؤلف:
فهناك عدة نصوص أخرى للمتحامقين وردت في كتاب المؤلف تدعو إلى نبذ الجهل، وتؤكد على أهمية العلم والتمسك بالعقل، وقد خالف متحامقون آخرون أولئك في الرأي، وعلى سبيل المثال، فأبو نواس الخليع الماجن، وهو ممن عدّهم المؤلف متحامقين، كان ينادي بالحكمة، ويدعوا إلى العقل، كما يقول في البيتين التاليين اللذين أوردهما المؤلف:
إِني أنا الرجل الحكيم بطبعه = ويزيدُ في علمي حكاية من حكى
أتتبـع الظرفاء أكتبُ عنـــهمُ = كيما أحدّث من أحبّ فيضحكا
إنَّ أبا نواس يعرّفنا، هنا بنفسه أنه الرجل العاقل المثقف الذي يبحث عن حلقات العلم، ويتابع مجالس الظرفاء وقول الأصمعي الذي عد ّه المؤلف متحامقاً بسبب مُلحَه: ( بالعلم وصلنا.. وبالملح نلنا) دليل أنَّ العقل،وليس نبذه، يوصل المرء إلى المكانة العالية في المجتمع، وهناك نصوص في الكتاب تؤكد أنَّ عصر المتحامقين هو عصر العلم والعقل لا عصر الجهل ونبذ العقل، كما سنرى ذلك، وهنا أود أن أقف مرة أخرى عند تعامل المؤلف مع النص، فأقول: إنَّ تصرفه بنصوصه لم يقتصر على الإضا فة والحذف بما يعزز وجهة نظره فحسب، كما رأينا ذلك من قبل، ولكنه يستنطق حوادث نصوصه، كما سنرى بعد قليل، دلالات تؤيد ما يذهب إليه، ليست هي في الحقيقة مستمدة من روح بعض هذه النصوص، ولا من مضامينها، وسأكتفي بالإشا رة إلى بعض الحوادث التي سلفت الاشارة إليها لنرى كيف أنَّ المؤلف حمّلها دلالات ليست لها، وفوق طاقتها، ففي معرض حديثه عن تحكم الجاهل بالعاقل، أورد الحاد ثة التالية ليبرهن فيها أنَّ شخصية الجاهل كانت (نموذجاً للاحترام والتقدير، وتحظى بالقبول والإعجاب مما يدفع العاقل والعالم والأديب على مخاطبة ود هذا الجاهل، ومحاباته، والإشادة بمناقبه) [المقالة الخامسة ـ ص125 .]، دخل أحد الشعراء على (ابن شوذب)، وهو الذي يضرب به المثل في كثرة الأموال، فأتى برعيل من الخيل، فتأملها، وقال:اخرجوا منها ذلك المرعزي، ثم أتي بقطيع من الغنم، فقال: لا تذبحوا ذلك الأدهم، وكان الشاعر مدحه بقصيدة، فلما رأى ذلك خرج من عنده، ولم ينشده، وأنشأ يقول :
لا يعرف الضــــأن من المعزى = ويحسب الأدهـــــم مرعزى
صفت له الدنيا ،وصاقت لنا = تلك لعمري قســــمة ضئزى
إنَّ هذه الحادثة تنقض ما ذهب إليه المؤلف، فهي تدين الجهل و الجهلاء إدانة صريحة، وتشير إلى أنَّ غنى الرجل وحده ليس كافياً ما لم يكن مقترناً بالمعرفة،كما تشير من جهة ثانية أنَّ العالم أو الأديب أو الشاعر يربؤن بأنفسهم عن مدح غني جاهل مهما ضاقت بهم الدنيا، وساءت أحوالهم. إنَّ الشاعر أعدَّ لـ(ابن شوذب) الغني قصيدة يمدحه فيها، فلما تبين له جهله، فلا يعرف الضأن من المعزى، عزّ عليه مدحه، فعاد من حيث أتى على شدة عوزه، ولم يكتف الشاعر بذلك، بل هجا جهله، وهذا دليل على نفـور العاقل والعالم والأديب من الجاهل والجهلاء، كما أنه، على عكس ما ذهب إليه المؤلف، انتصار للعقل والعلم والمعرفة، أماّ الحادثة الأخرى التي يراها المؤلف (وثيقة دامغة عن دولة الجهل وتحكم اللامعقول بالمعقول)، فهي استيزار المعتصم ابن الزيات، فالمعتصم كما تقول الرواية، سأل وزيره السابق أحمد بن عمار البصري عن الكلأ، ما هو؟ فقال: لا أدري. فقال المعتصم: خليفة أمي، ووزير عامي، انظروا من بالبا ب، فوجدوا ابن الزيات، فسأل عن الكلأ، فقال العشب على الإطلاق، وشرع في تقسيم النبات، فاستوزره. [28] الرواية تذكر أن المعتصم أمي، أماّ الطبري فيذكر في تاريخه أنه يقرأ الكتب. [29] وينشىء الكتب إلى عمّال [30] والمسعودي ذكر ذلك أيضاً [31]
ومع ذلك فلو سلّمنا بصحة الرواية على أميّة المعتصم، فهل من المعقول أنَّ المعتصم، وقد نشأ في بيت العلم والأدب، وفي بلاط يؤمه الفلاسفة والأدباء والمفكرون، واللغة الفصيحة كانت لها السيادة في ذلك العصر،لا يعرف هو، ولا وزيره معنى الكلأ وعلى فرض صحة الرواية أنه سأل عن معنى الكلأ، فهل هذا السؤال دليل على الجهل أم دليل على البحث وحب المعرفة؟ ثم كيف يكون إقصاء المعتصم وزيره الأمي دليلاً على تحكم اللامعقول؟ وهل في استيزار المعتصم ابن الزيات، وهو الأديب والكاتب واللغوي المعروف دليل على سيطرة الجهل على المعرفة كما يرى المؤلف ذلك؟ والمؤلف يرى ابن الزيات ( رمزاً للجهل مقروناً بالاستبداد) أنه يعذب المغضوب عليهم بتنور من الحديد، رؤوس مساميره في داخله، نعم! في الجهل استبداد، ولكن ليس الاستبداد دليلاً على الجهل في كل الأحوال، وليس كل من يعذ ّب خصمه جاهلاً، وإلاَّ لكانت النظم المعاصرة التي تنتهك حقوق الإنسان اليوم جاهلة، مع أنها، وما أكثرها! تنشد التحضر، وتسعى إلى العلم والتطور، وبعضها متقدّم اقتصادياً وصناعياً، ثم يعقب على تلك الحادثة قائلاً: (وهي بالتأكيد واحدة من عشرات الحوادث في الموضوع ذاته)، فإذا كانت عشرات الحوادث الأخرى تمضي على نحو سياق الحادثة السابقة في دلالتها، كما يقول المؤلف، فأين الدليل فيها على تحكم الجهل بالعلم؟ إنَّ بحث المؤلف في واقع المجتمع العباسي من خلال ظاهرة التحامق ينطلق من نظرة جزئية لاشاملة، فالمؤلف ينتقي من النصوص ما يؤيد مذهبه، ويهمل منها ما يعارضه، كما أشرت إلى ذلك من قبل، وأضيف إلى ما تقدم ذكره الرواية التالية التي ذكرها في كتابه: استوزر المنتصر أحمد بن الخطيب، وكان ركب ذات يوم، فتظلم إليه متظلم بقصة، فأخرج رجله من الركاب، فزجّ بها في صدر المتظلم، فقتله، فهجاه أبو العيناء الشاعر المتحامق، ثم علّق المؤلف على الحادثة، فقال: (هذه صورة الجهل المستبد المتغطرس الذي يستهين بالعقل، ويسخر من المنطق، ويهزأ بالأصول والأعراف، إنه مشهد للإرهاب).
المؤلف ذكر تلك الحادثة، لكنه أهمل في الوقت عينه الروايات التي تتحدث عن الخليفة المنتصر، أساس الدولة، ورغم أنَّ دولة بني العبا س كانت تعا ني في عهده من فرقة وضعف وجهل إلاَّ أنَّ الروايات كانت تتحدث عن هذا الخليفة، فترى أنّه كان (واسع الاحتمال، راسخ العقل، كثير المعروف، راغباً في الخير، سخياً، أديباً، وكان يأخذ نفسه بمكارم الأخلاق وكثرة الإنصاف وحسن المعاشرة بما لم يسبقه خليفة إلى مثله.) [32]
فلماذا ذكر المؤلف الرواية التي تتحدث عن جهل الوزير وظلمه الذي يستهين بالعقل، وأهمل الرواية التي تتحدث عن عقل الخليفةالراسخ، وعن أدبه وجوده وأخلاقه الرفيعة؟ وكما يتضح في كتاب المؤلف فإن عالم المتحامقين واسع وكبير يعج بالتناقضات، تمور في داخله تيارات فكرية مختلفة ومتناقضة في بعض الأحيان، فإذا ما وجدنا بعض المتحامقين يدعو إلى نبذ العقل، وهم عقلاء، فإنَّ آخرين منهم يسعون إلى العلم، ويدعون إلى التمسك بالعقل، وإذا ما أشارت بعض نصوصهم وحوداثهم أو سير حيا ة بعضهم إلى هيمنة الجهل واللامعقول والفساد على زمنهم، فإنَّ نصوصاً وحوادث أخرى في سير حياة بعضهم الآخر كانت تشير إلى أنَّ زمنهم كان زمن العلم والعقل والمعرفة، وأمام هذا الواقع فإنه ليس من أصول المنهج العلمي في شيء أنَّ نعتمد رأياً، ونهمل أو نتجاهل بقية الآراء، أو نعتمد نصاً، ونهمل نصاً أخر يد حضه، فليس من المعقول أن نأخذ رأي نفر قليل ممّن يدعون إلى نبذ العقل، أو نصاً تشير دلالته إلى الجهل والفساد لنعممه على العصر كله، فنحكم عليه أنه عصر تحكم اللامعقول بالمعقول والجاهل بالمثقف والأمي بالعالم وأمامنا نصوص أخرى كثيرة تدحض هذا الزعم، فنصوص بعض من عدّهم المؤلف متحامقين لم تخترق ما هوسا ئد، ولم توفّق إلى قلب الحقائق، أو تبرز الوجه الآخر للمجتمع، كما كان يهدف إليه بحثه، فما ذكره المؤلف عن هذا العصر، إنماّ يدخل في إطار النظرة السائدة والحقا ئق المعروفة عن هذا العصر، وهي أنّ الجتمع العباسي في هذا العصر، كان يعيش حياتين متناقضتين: حياة العلم والزهد والتدين والعدل، وحياة الجهل والمجون والقصف والفقر.
لقد أفضت دراسة (ميشيل فوكو) لظاهرة الجنون في فرنسا إلى منهج لا يصح استخدامه والاستفادة منه إلاَّ على ظاهرة الجنون نفسها، وفي ظروف اجتماعية مماثلة إنْ كانت في المجتمع الفرنسي أو في المجتمعات الأخرى المشابهة له، ولا يصح استخدام هذا المنهج إن صح التعبير، وبعبارة أخرى، لا يصح تعميم دراسة (فوكو) على ظاهرة الحمقى والمتحامقين في المجتمع العباسي، لاختلاف أوضاع المجتمعين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، واختلاف طبيعتهما وهويتهما، فظاهرة الجنون شيء وظاهرة التحامق شيء أخر، ينبغي عدم الخلط بينهما، ويثب إلى الذهن السؤال التالي: هل من دوافع حقيقية أخرى غير ماذكره المؤلف للحمقى والمتحامقين وفق دلالتهما الدقيقة السائدة،المتعارف عليهما، جعلت نصوصهما الأدبية تبرز الوجه المظلم للعصرالعباسي؟ هل دوافعهما حقاً قلب الحقائق وإبرازالحقيقةالغائبة، كمايظن المؤلف جرياً على منهج (ميشيل فوكو )أم لهما دوافع أخرى؟ أعتقد أنَّ أدب الحمقى والمتحامقين الذين رسمواصورة مظلمة لمجتمعهم وعصرهم يعكس أحوالهم، ويخدم أغراضهم، فهم، كما قال عنهم المؤلف، كسبوا: (ثروات طائلة بحماقاتهم، وأصبحت الحماقة نوعاً من الامتياز الاجتماعي والاقتصادي.) [33]
فإذن، هؤلاء انسلخوا من واقع الطبقات الفقيرة، وارتقوا بحكم تحامقهم إلى بلاط الحاكم وقصور القادة والأمراء. وفي هذه الحال، فإنَّ أدبهم، إن كان يحمل همومهم الذاتية، فإنّ معاناة الطبقات الشعبية المحرومة لا نجدها فيه إلاَّ ناد راً، لأنه ابتعد عنها، ولم يعد ينتمي إليها، والتجأ،مثل الأدب الرسمي، إلى البلاط والقصور. لا شك أنَّ في العصر العباسي لا سيما فترة قوته ظلماً وعدلاً، وعلماً وجهلاً، وغنى وفقراً، وإيماناً وفجوراً، وقوة وضعفاً، وهذا أمر متفق عليه، ومن المؤكد في هذا العصر أن العربي ليس ملاكاً أو معصوماً من الخطأ أو مأموناً من العثرات، فهو بشر يخطىء، ويصيب إلاَّ أنه في أغلب الأحوال، يتمتع بعفة نفس تأبى عليه أن يسلك سبيل الابتذال، مهما أدبرت عنه الدنيا، وضاقت به سبل العيش أن يتحامق أو يدع عقله جانباً، وإذا هانت عليه هذه السبيل، فإنَّ عشيرته تردعه، وقد تقتله، وهذا ما حدث لأبي العبر، ولا يستبعد أن التحق معه في الانتماء إلى هذه الظاهرة قلة من العرب ممّن غرّر بهم، دون أن يد ركوا أبعاد ما أقدموا عليه، وخطورته، فهؤلاء يكادون أن يكونوا استثناء، وقد لقي أبو العبر مقاومة شديدة من أهله وقبيلته، لأنه فضحها بتحامقه بين القبائل، وكانوا يرون في تحامقه عاراً ليس على قبيلته فحسب، وإنما على بني آدم جميعاً، فحبسوه [34]، ويرى المؤلف (أنَّ موته قد يكون جاء على أيدي أحد أقربائه من العباسيين تخلصاً من حماقاته، وما تسببه لهم من مضايقات بين الناس.) [35] وهذا دليل على رفض العرب الانتماء إلى ظاهرة التحامق رغم تسامحهم مع الحمقى والمتحامقين،وتندرهم بهم.
أصول رموزظاهرة الحمقى والمتحامقين:
لو استعرضنا أصول رموز هذه الظاهرة مثل: (بديح وأشعب والغاضري وطويس، والدلال وطريف ونومة الضحى وزرجون وهنب وابن نفاش وأبي دلامة وأبي العجل والصيمري والكتنجي) وآخرين غيرهم كثيرين لرأيناهم ينتمون إلى أصول غير عربية، أغلبها من الفرس، منهم من ولد سفاحاً، ومنهم من هو مولىً أو لقيط، ومنهم اللوطي والمخنث والشاذ. ولا يخفى على أحد أنَّ العرب حين نشرت الإسلام أطاحت أمجاد فارس، وقوضت سلطان الفرس السياسي ومرتكزاتهم العقيدية، ولماّ اعتنق الفرس وغيرهم الإسلام دخلوه بتقاليدهم وعقائدهم الموروثة، وحضارتهم العريقة، لكن قلوب الكثيرين منهم لم تصف للعرب، إذْ كا نوا يتحينون الفرص من خلال هذا الدين الجديد للإيقاع بهم أو القضاء على سلطانهم ثأراً لهزائمهم واستعادة لأمجادهم المندثرة، ولأجل تحقيق هذا الهدف، فإن تياراً واسعاً من الفرس لجأ إلى كل الوسائل المتاحة والسبل الممكنة لتشويه صورة العرب وإسقاط دولتهم، فتعالوا عليهم، وازد روا حياتهم، وغضوا من مكا نتهم، ووصموهم بالجهل مرة وبالبداوة والتخلف مرة أخرى، وشككوا في قد رتهم على التطور والتحضر، وهذا ما تجلى واضحاً في تيار الشعوبية المعادي للعرب، وهو في حقيقة الأمر غزو ثقافي منظم، والمؤلف يرى أنَّ المتحامقين كانوا يدركون وحدة انتمائهم، وأنَّ العلاقات فيما بينهم كانت مترابطة قوية رغم ما كان بينهم من خلاف أو تناقض، وكانوا قد أقاموا لأنفسهم مراتب ينتظمون فيها، وإذا كنت أتفق مع صديقي الأستاذ أحمد الحسين الذي رأى أنَّ (بعض هذه المواقف الانتقادية قد يكون من ورائها توجيه يصدر عن فئة أو جماعة تتخذ من المتحامقين أداة لها في النيل من الخصوم والتشهير بهم والتنديد بمواقفهم وتصرفاتهم.) [36]
فإني لا أستبعد أن تكون ظاهرة الحمقى والمتحامقين حلقة في سلسلة حلقات الشعوبية، أومظهراً من مظاهرها ولجته كوسيلة لبلوغ أهدافها التي تسعى إليها، كما لا أستبعد أن يكون هؤلاء المتحامقون تظاهروا بالجنون أو الهلوسة أو السذاجة ليسقطوا عن أنفسهم عقاب المجتمع، وهذا ما جعلهم قادرين، كما قال المؤلف: (على النقد والتشهير، واكتشاف العيوب والأخطاء) في محاولاتهم المستمرة للإساءة إلى العرب، وتشويه عصرهم المشرق. إذن المؤلف يدرس ظاهرة لا تمت بصلة إلى تقاليد وأصالة المجتمع العربي، يدرس ظاهرة مصدرها غير العرب، هيمنتْ عليها المؤثرات الشعوبية الفارسية، يأخذ من أشكال العقوبات التي تعرض لها الشاذون والخارجون عن آداب المجتمع وأعرافه، كما يأخذ فيما بعد آراء جزئية من أدبهم الانتقائي ليحكم بهذه وتلك على المجتمع العباسي والعرب في أوج رقيهم وعطائهم.
القيمة الفنية لأدب المتحامقين:
أما أدب المتحامقين من الناحية الفنية، فلا سبيل إلى مقا رنته بالأدب الرسمي، فهو بلا شك دونه جودة وجمالاً وإبداعاً بل لاحظ له من الجودة والجمال والإبداع، وأشعار المتحامقين فيما وصل منها إلينا متناثرة، وقليلة جداً تتراوح بين النتف والمقطوعات والقصائد، وأد بهم عادي بل هابط فيما تبين لنا من بحث المؤلف، يدعوا إلى القيم الهابطة، وإلاَّ فبماذا نفسر دعوته إلى النفاق، والعواطف المنحطة والكلمات السوقية المتبذلة، ونبذ العقل،أما من ناحية الألفاظ والتراكيب ففيه ركاكة لا تخفى على من يقرؤه، وقد زاحم على علاته الأدب الرسمي في بلاط الخلفاء وقصور الأمراء، وربما نال فيها من الهيات والرعاية والحظوة، ما لم ينله الأدب الرسمي نفسه، والشواهد على ذلك كثيرة، أكتفي بذكر الحاد ثة التالية التي وردت في كتاب المؤلف:(كان بين يدي الخليفة المتوكل الشاعر البحتري،فا بتدأ ينشده قصيدة،يمدح بها المتوكل، وكان في المجلس ابو العنبس الصيمري المتحامق، فأنشد البحتري قصيدته التي أولها:( ولم يرد مطلعها في كتاب المؤلف).
عن أي ثغر تبتســـم = وبأي طرف تحتــكم
حسن يضيء يحسنه = والحسن أشبه بالكرم
فلما انتهى مشى القهقري للإنصراف، فوثب الشاعر الصيمري المتحامق، وكان المتوكل قد عمل فيه الشراب، فقال: يا أمير المؤمنين! أتأمر بردّه، فقد، والله،عارضته في قصيدته هذه، فأمر بردّه، فأخذ أبوالعنبس ينشد شيئاً، أراني متردداً في ذكره لولا أني مضطر إليه للتدليل على ما في هذا الأدب من السقوط والابتذال :
من أي ســـــــلح تلتقم = وبأي كفِّ تلتـــطم
أدخلت رأس البحتري = أبي عبادة في الرحم
فضحك المتوكل حتى استلقى على قفاه،وأمر له بمكافأة.) [37] وأريد أن أقف عند مسألة هامة، فالمؤلف استشهد بقصيدة للشاعر ابن بسام نعى فيها الدولة والخلافة حيث يقول:
أيرجوا الموفق نصر الإله = وأمر العبــاد إلى دانيه
ومن قبلها كان أمر العباد = لعمر أبيك إلى زانيـــه
إلى أن يقول:
فهذه الخلافة قد وَدَّعَتْ = وظلّت على عرشها خاويه
فخلِّ الزمـــــــان لأوغاده = إلى لعنــة الله والهاويـــــه
فيا ربِّ قد ركب الأرذلون = ورجلي من رجلهم عاليــه
فيرى أنَّ هذه الأبيات ( ترسم صورة دقيقة عن صراع العقل والجهل ، وهي صورة لا نلمحها كثيراً في الشعر الرسمي لابتعاد شعرائه عن الهمّ الاجتماعي،كما بدا في شعر الحمقى والمتحامقين الذين امتَلكوا رؤية نافذة للواقع بكل أبعاده.) [38] الأدب الرسمي عند المؤلف ابتعد عن الهم الاجتماعي، أماّ أدب المتحامقين عكس هذا الهم، ودليله على ذلك قصيدة ابن بسام، والمتحامقون عنده امتلكوا رؤية نافذة للواقع بكل أبعاده، وكأن المؤلف ينفي أن تكون مثل هذه الرؤية موجودة في الأدب الرسمي،وأنا أخالفه الرأي،
لم يبتعد بعض الأدباء الرسميين عن الهم الاجتماعي:
وأرى أنَّ بعض الأدباء الرسميين، وإن كانت قبلتهم البلاط والقصور، كما هو شأن الأدباء المتحامقين إلاَّ أنهم لم يبتعدوا عن الهم الاجتماعي، وبعض أدبهم عكس هذا الهم، ثم كيف نطمئن إلى أنَّ الأدب المتحامق عكس الهم الاجتماعي، والمتحامقون ينعمون في بلاط الخلفاء وقصور الأمراء، ويصعدون سلم الامتياز الاجتماعي؟ نعم! الأدب الرسمي عكس بعضه الهم الاجتماعي، وشاهدنا على ذلك ليس أبا العتاهية في قصيدته الشهيرة إلى الخليفة، يصور فيها سوء أحوال رعيته، وتكاليف معيشتهم الباهظة فحسب، وإنّما الشاهد قريب، فهل من دليل على تحامق ابن بسام عند المؤلف غير نقد الدولة والخلافة؟ أفَيُعَدُ هجاء الدولة والخلافة أو نقدهما دليلاً على التحامق؟ ومتى كان النقد أو الهجاء دليلاَ عليه؟ ولوكان الأمر كما يرى المؤلف، لكان شعراء الهجاء والنقاد والمعارضون متحامقين!! والمؤلف ظلم ابن بسام، كما ظلم غيره حين أدخله في ظاهرة المتحامقين لأنه هجا أو نقد، فالهجاء، كما نعلم، غرض من أغراض الشعر العربي، وابن بسام شاعر لسن مطبوع في الهجاء، (ولم يسلم منه وزير ولا أمير ولا صغير ولا كبير.) [39]، وهوليس متحامقاً، وقصيدته أولى بها أن تُعَدّ من الأدب الرسمي، وليس من الأدب المتحامق، فالميزان لا بد أن يختلف، والنظرة ينبغي أن تصحح، إذن قصيدة ابن بسام في هجاء الخلافة وأركان الدولة تعدّ دليلاً أيضاً على اهتمام بعض الأدباء الرسميين بواقع الناس، ومعاناة الرّعية، كما تعدّ من جهة أخرى دليلاً على أنّ بعض الأدباء الرسميين كانوا يمتلكون رؤية نافذة للواقع بكل أبعاده، والعلة في هذا الخلاف تكمن في عدم دقة المؤلف في تحديده دلالة المتحاقين التي أوقعته في إشكالات كثيرة، انعكست على مسار بحثه، ودفعته إلى التعسف في إطلاق الأحكام .
وسّع المؤلف دائرة التحامق لتشمل أغلب فئات المجتمع:
والمؤلف لم يستطع إقناعنا بمصطلحه الذي تعوزه الدقة في التحديد، فا لأحمق عنده متحامق، والمتحامق عنده أحمق،والمتحامق متجانن،والمتجانن متحامق، وهكذا.. ومع أنَّ المؤلف كان يؤكد على أهمية الفروقات بين الحمق والتحامق .والجنون والتجانن في مكان،كما أكدّ عليها القدماء، نجدها تتداخل عنده، وتلغى في مكان آخر، فيسأل القارئ عن أي شيء يبحث المؤلف على وجه الدقة: أعلى الحمق والتحامق أم على الجنون والتجانين أم على كليهما معاً؟ إنَّ مصطلح أو دلالة ( الحمقى والمتحامقين ) عند المؤلف يشمل أغلب شرائح المجتمع، إن لم يشملها كلها،فعنده الدعا بة والظرف والملح وخفة الدم والفكاهة والنقد والهجاء شكل من أشكال التحامق، فمن أوتي بخلة من تلك الخلال، أو خصلة من تلك الخصال،التقطه المؤلف، وساقه إلى المتحامقين، فكأن غير المتحامق لا يتمتع بها، هكذا كانت نظرته إلى الصحابي (النعيمان) وإلى اللغوي الكبير (الأصمعي) وإلى الشاعر (ابن بسام) وإلى غيرهم، فمن بقي إذن من الناس بدون تحامق؟ وإذن فالبشر في كل زمان ومكان متحامقون، وأين نجد العقلاء غير المتحامقين؟
مآخذ أخرى على بحث المؤلف:
والمؤلف من جهة أخرى لم يخضع دراسته هذه الظاهرة إلى مراحل متدرجة في إطار زمني محدد، فهو بعد أن درسها في العصر الإسلامي، وهي في هذه الفترة ليس لها أدب، انتقل بعد ذلك إلى العصر العباسي حيث ظهر للحمقى والمتحامقين أدب فيه، غير أنَّ المؤلف درس الأدب في هذا العصر على إطلاقه دون أي تحديد لمراحله من هذا العصر، وكان يعسر على القارىء أحياناً معرفة أي فترة من العصر العباسي، ينتمي إليها هذا الشاعر المتحامق أو ذاك إلاَّ بعد العودة إلى المراجع الأخرى.. والمأخذ على بحث المؤلف أنه بحث انتقائي،لم يعتمد فيه على مصادر الحمقى والمتحامقين أو على مخطوطاتهم، وإنما اعتمد على مصادر ليست لهم، فقد أخذ نصوصهم من كتب ليس مؤلفوها حمقى ولا متحامقين، وهذه النصوص، لاتمثل الظاهرة تمثيلاً دقيقاً ولا قريباً من الد قة، فأخذ من نصوصهم ما يؤيد مذهبه، وأهمل منها ما يعارضه، وتصرف بنصوص المراجع التي تحدّثت عنهم ، فحذف منها، وأضاف إليها، وتصرف بها، بما يؤيد وجهة نظره، وهذاما أوقعه في (مطب الانتقائية) الذي حذرّنا منه في أول كتابه. [40]
والمؤلف أدرك منذ البداية أنَّ بحثه هذا يفتقر إلى العمق والشمولية، لأنه (يتطلب مزيداً من التنقيب والبحث في متون المخطوطات، وخاصة تلك التي كتبها المتحامقون أنفسهم، فهي الأصدق تعبيراً وجلاء للحقيقة.) [41]. إنَّ دراسة متأنية تعتمد على دقة المصطلح، وتبتعد عن التعميمات المتسرعة والمقارنات القسرية المصطنعة، وتنقل النصوص من مصادرها نقلاً أميناً دقيقاً بعيداً عن الغرض، وتعتمد على متون مخطوطات المتحامقين التي كتبوها، وليس على نصوص انتقائية قليلة من مصادر مبثوثة هنا وهناك، ولاتعتمد على منهج مستورد، لاءم مجتمعاً ما، في ظرف ما، ودرس ظاهرة اجتماعية غير الحمقى والمتحامقين،إنّ هذه الدراسة المتأنية يمكن أن تقدم لنا صورة دقيقة أو قريبة من الدقة عن حياة الحمقى والمتحامقين وأحوالهم وأصولهم وخلفياتهم العقيدية الموروثة، وتكشف حقيقة دوافعهم، وأغراض نصوصهم في إطار ظروف حياتهم الموضوعية.
[1] المقالة الثالثة ـ (الحماقة في كتب الأدب والدراسات الأدبية)ـ أحمد الحسين ـ ص 69 .
[2] «عقلاء المجانين» النيسا بوري ـ ص 53 – 66 .
[3] «عقلاء المجانين» النيسا بوري ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.
[4] ( الأغاني ) الأصفها ني ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ جـ 19 – ص 184 .
[5] المقالة الرابعة ـ ( التحامق : أسبابه ودوافعه ) ـ أحمد الحسين ـ ص110 ـ 111 .
[6] المقالة الثالثة ـ أحمد الحسين ـ ص 75 .
[7] ( فيلسوف القاعة الثامنة ) ـ هاشم صالح ـ مجلة الكرمل ـ العدد (13) عام 1984 ـ ص 18 .
[8] ( فيلسوف القاعة الثامنة ) ـ هاشم صالح ـ مجلة الكرمل ـ العدد ( 13 ) ـ ص 16 .
[9] ( فيلسوف القاعة الثامنة ) – هاشم صالح – مجلة الكرمل – العدد ( 13 ) ص 22
[10] المقالة الأولى ( نظرات في تاريخ الحماقة ) ـ أحمد الحسين ـ ص 25 .
[11] المقالة الأولى ـ ص 28 .
[12] المقالة الأولى ـ ص 28 .
[13] المقالة الأولى ـ ص 25 .
[14] المقالة الأولى ـ ص 25 .
[15] ( فيلسوف القاعة الثامنة ) ـ هاشم صالح ـ مجلة الكرمل، سنة 1984 ، ملف فوكو، ص 20 .
[16] المقالة الأولى ـ ص25 .
[17] ( فيلسوف القاعة الثامنة ) ـ هاشم صالح ـ مجلة الكرمل ، ص 20 .
[18] عالم الفكرالكويتية، المجلد الثامن عشر،العدد الأول، ابريل، ما يو،يونيو 1987،الجنون في الأدب، بقلم رشا حمود الصباح ـ ص6.
[19] المقالة الأولى ـ ص26 .
[20] المقالة الأولى ـ ص19 .
[21] المقالة الأولى ـ ص30 .
[22] المقالة الأولى ـ ص23 .
[23] المقالة الأولى – ص28 .
[24] (فيلسوف القاعة الثامنة) ـ هاشم صالح ـ ص26 .
[25] المقالة الخامسة (صراع المعقول واللامعقول في أدب الحمقى والمتحامقين) ـ أحمد الحسين ـ ص117 .
[26] المقالة الخامسة (صراع المعقول واللامعقول في أدب الحمقى والمتحامقين) ـ أحمد الحسين ـ ص 119.
[27] المقالة الخامسة ـ ص124 .
[28] الخامسة ـ ص122
[29] تأريخ الطبري ـ المجلد الخامس ـ ص239ـ دار الكتب العلمية .
[30] تأريخ الطبري – المجلد الخامس ـ ص249 ـ دار الكتب العلمية .
[31] مروج الذهب – المسعودي ـ جـ 4 ـ ص61 ـ دار المعرفة .
[32] مروج الذهب ـ المسعودي ـ جـ 4 ـ ص134 ـ 135 .
[33] المقالة الأولى ـ ص 30 .
[34] الأغاني ـ الأصفهاني ـ جـ 23 ـ 206 و 210 ـ دار الكتب العلمية .
[35] المقالة السادسة ـ ( أبو العبر أمير الحما قة والمتحامقين ) ـ أحمد الحسين ، ص 142 .
[36] المقالة الرابعة ( التحامق ـ أسبابه ودوافعه ) أحمد الحسين ـ ص100 .
[37] المقالة الخامسة (صراع المعقول واللامعقول في أدب الحمقى والمتحامقين) ص129
[38] المقالة الخامسة – ص 124 .
[39] مروج الذهب ـ المسعودي ـ جـ 4 ـ ص297 -298 .
[40] ـ بين يدي القارئ ـ أحمد الحسين ـ ص7 .
[41] مواقف ورؤى ـ أحمد الحسين ـ ص82 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى