إبراهيم محمود - ركلات فلسفية.. حول كتاب الدكتور عبدالله الغذامي: مآلات الفلسفة "1"

-1-

تساؤلات
الباحث والناقد الأدبي والمفكر العربي السعودي الأكاديمي الدكتور عبدالله الغذامي " 1946-.. " الذي لفت الأنظار إليه من خلال العشرات من كتبه، التي تعرّف به ناقداً أدبياً، ثقافياً، وفقهياً، وفي أحدث تسمية، أو لقب له: ناقداً فلسفياً، والحاصل على جوائز مختلفة لقاء جهوده في الكتابة التي تجمع بين الانشغال بالنقد الأدبي، الثقافي، الفقهي والفلسفي، يستحق التوقف عنده، ومتابعة رحلته في هموم النقد، بوجوهه المختلفة، منذ كتابه الأول:
الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، 1985
ومروراً بكتبه الأخرى، من مثل:
الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، 1985
تشريح النص، مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة، دار الطليعة، بيروت 1987
المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1996
ثقافة الوهم، مقاربات عن المرأة واللغة والجسد، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء 1998
تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء 1999
النقد الثقافي، مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / بيروت 2000.
الفقيه الفضائي، المركز الثقافي العربي،2011
الجنوسة النسقية. صدر عن المركز الثقافي العربي 2018
وتلك الانعطافة التي تمثّلت في متابعة لافتة في دائرة اهتماماته في رباعيته الثقافة التي لا تخفي طابعها التنظيري الديني إجمالاً، وهي:
1-السردية الحرجة: العقلانية أم الشعبوية. صدر عن المركز الثقافي العربي 2019
2- العقل المؤمن/ العقل الملحد، كيف لعقول البشر أن تؤمن وأن تلحد. 2020
3- القلب المؤمن ، وهل يلحد القلب . 2021
4- مآلات الفلسفة : من الفلسفة إلى النظرية، 2021

3.jpg

والأخير هو اللافت أكثر من بين عموم مؤلفاته، في بنيته وطريقة تفكيره، وكونه المؤلَّف الوحيد الذي يسمّيه بخصوص طابعه الفلسفي، وما في ذلك من إمكان طرح استفسارات حول حقيقة أمره. وفي الوقت الذي صدر كتاب حديث في نطاق النقد الثقافي، وهو:
إشكالات النقد الثقافي: أسئلة في النظرية والتطبيق. صدر عن المركز الثقافي العربي 2023
سوى أن لكتاب " مآلات الفلسفة " مكانة مغايرة تماماً، ولهذا يتمحور البحث حوله. وثمة الكثير مما ورد في الكتاب يتطلب الدخول معه ليس في حوار ، لأنه لم يعتمد لغة حوار إطلاقاً فيما انتهجه وتوقف عنده واختتم به كتابه، وإنما المساءلة عن طريقة تأليفه، وأي محفّز فكري وراء تأليفه يا تُرى، لما فيه من مفارقات، من أوله إلى آخره، في هشاشته .
وقد فكّرتُ بداية أن أسمّي عنوان البحث بـ " تهافت الفلسفة " تذكيراً بما قام به الغزالي: أبو حامد " 1058-1111 م " وهو ينزع عن الفلاسفة حتى زمانه كل مشروعية تفكير وكتابة فلسفية، وكما يرى هو، حيث " مآلات الفلسفة " لا يخفي تأثره ببنيته، وللغزالي مكانة لافتة فيه، وهو رهان الغذامي، ووضعتُ مقابله عنواناً له تاريخه وهو " تهافت التهافت " وهو كتاب الفيلسوف الأندلسي ابن رشد " 1126-1198 م " رداً على محتوى " تهافت الفلاسفة "، وربما أكثر من ذلك، لأن الذي ظهر به الغذامي لا يخفي غرابته، ويوجّه الأنظار إلى الطبيعة النفسية لكاتبه، ما إذا كان في رباعيته هذه أراد التكفير عن " ذنوب له " أو طلب الاستتابة أو عاش محنة نفسية لحظة إقباله على كتابة " رباعيته " ، أو تحت وطأة حالة نفسية، دفعت به لأن يقدّم هذه الرباعية التي- من وجهة نظري – تقصيه كثيراً جداً عما عرِف به في جل مؤلفاته الأخرى، وخصوصاً تلك القائمة على النقد الأدبي. وفي مثل هذا التوقيت ، وحيث احتفيَ به في بلده، عملياً، وفي مقالات عدة جاءت تقريظية، في إهاب " داعية "، وما لعبارة " ركلات فلسفية " من دلالة في العنف المقروء في الكتاب، وهو في تضعضع مقولاته .
سوف أتوقف مطولاً عند تلك المرتكزات التي انبنى عليها كتابه .

مع " مآلات الفلسفة "
الكتاب : مآلات الفلسفة : من الفلسفة إلى النظرية " 1 " عنوان خطاطة يحدد مسافة فاصلة بين بداية مغضوب عليها، ونهاية مشدَّد عليها، لتحصل الفلسفة حينها على براءة ذمة من كاتبه، هذا فيما إذا كان مستعداً لأن يغفر للفلسفة" المشنعة " هذه، ولو القليل مما عرِفت به: سوءَ سمعة !
تساءلت كثيراً، قبل أن أسطّر جملة واحدة، عما يجري في عملية التأليف، ما إذا كان الغذامي المقروء بأكثر من معنى، هو نفسه الذي ينتقل من فقرة إلى أخرى، وفي نطاق الفلسفة، ولأول مرة، وفي الآن الراهن، ومغزى ذلك، وهو يقابل الفلسفي بالعلمي، دون أن يدقق فيما يثيره حول الفلسفي، وحقيقة الفلسفي وماهيته، ودون أن ينظر إلى ما استعاره من نطاق العلمي، وما إذا كان صحيحاً وكما هو في نصه الفعلي، وما راهن عليه في لغة جمعتْ بين ما هو تصوفي دون التصوف، وثقافي متفلسف دونهما، ليطيح بكل من الفلسفي والعلمي، وأي وعي معتمَد هنا.
أن يواجه الفلسفة بالعلم ليتخلص من الفلسفة، ومن ثم يرتد إلى العلم ويقوضه، ليستعيد حجمه الذي تمثّله طبيعة الكتابة التي تشكل أطروحة الكتاب" الذوقية " نصف الغزالية، والخاتمة التي تضعه في مواجهة الواقع الذي انطلق منه ، دون أن يأخذ حساباته المرجعية بعين الاعتبار .
الكتاب يتكون من مقدمة وخمسة فصول، وفي المقدمة " جماع أفكار ؟ " الكتاب .
لأورد ما سطّره الغذامي في مقدمته، وهو الذي يعنينا بداية:
رأى بعض الفيزيائيين الكبار " دانييل دينيت " منكباً على كتب الفلسفة، فتعجبوا من فيلسوف معاصر لمّا يزل يعتمد على الفلاسفة القدامى، ولم يجد دينيت من دفاع غير أن قال: إننا نقرأ للكبار كي نتجنب أخطاءهم، ولو لم نفعل لكررنا الأخطاء ذاتها.
وفي هذه الحالة، سنرى حال الفلسفة اليوم بين فيزيائي يسخر وفيلسوف اعتذاري، ويقابلهما ستيفن هوكينج الذي يقطع بموت الفلسفة، ولكن ريتشارد رورتي يطرح " النظرية " بديلاً للفلسفة وبديلاً عن قرار الموت أو اعتذارية دينيت، وهذا يضع الفلسفة بصيغتها التقليدية أمام مآلات متناقضة .
وفي خضم هذا المأزق نستحضر قول برتراند راسل:" إن هناك أسئلة كثيرة تضمر متعة كبيرة لحياتنا الروحية، ولكن عقولنا تعجز عن حلها.. وهو بهذا يكرر فكرة عجز العقل عن البرهنة على وجود الله وعلى الخلود والإرادة الحرة حسب كانط.. ومثل كانط وهيجل ..ص 5
وهنا يتساءل: ما هي حال الفلسفة اليوم، هل وقعت في خيار ينهيها بالموت، أم أن هناك خياراً يضع بديلاً عصرياً، وهذا الأخير هو أطروحة هذا الكتاب. ص 6 .
لعل أول ما يُلاحَظ في طريقة كتابة كهذه التي اعتمدها الغذامي هي أنها منذا البداية مصمَّمة على أن تأتي بكل ما يثبت أن الفلسفة معدَمة، وأن موتها مشروع، وانطلاقاً من تصور كهذا، دشّن المؤلف، ومنذ البداية، كل ما يسهم في تأكيد ما يرغب في اعتباره صواباً، وأن إعدام الفلسفة جرّاء " سوءاتها / فضائحها/ جرائمها التاريخية " وإلى يومنا هذا، صائب تماماً.
بالنسبة إلى الغذامي، ثمة أسئلة جديرة بالطرح إزاء ما قرأناه، ومن ذلك: هل لدي الغذامي أي اعتبار، أو تقدير للفلسفة، ليأتي كتابه بالصورة المقدَّمة؟ ومنذ متى كان الغذامي يأتي على سيرة الفلسفة، أو اسم فيلسوف معين، ليبرىء ذمة كتابته مما ينسبه إلى الفلسفة من تُهم، ومن إساءة إلى الحقيقة، وإلى العقل، أو إلى الإنسان نفسه ؟ وأي اعتبار يعطى للفلسفة، وفي تاريخها الطويل في بلده، في مجتمعه، وفي عموم جامعات بلده للفلسفة، وتدرَّس بعيداً عن التشنج، أي بعيداً عن كونها " أسس السفه والانحلال " المقولة الغالية والتي يرددها مناوئو الفلسفة في تاريخها الطويل في ثقافته السائدة التي تحرص كل الحرص على إبقاء الفلسفة خارج أسوار بلاده ؟
ثم: أوليست الأمثلة هذه، وهي في تنوعها، واختزالها، تعبيراً عن حالة نفسية، يريد من خلالها إظهار التشهير في الفلسفة، لئلا يتعرض هو نفسه للتشهير وهو الذي اكتسب مكانة ثقافة، نقدية، أو فكرية بفضل الذين جمعوا بين الفلسفة والعلم في قرارة أنفسهم : غربياً، وليس الفصل بينهما؟ وإن أفصحوا عن تباعد بينهما، ولكنهم لم يرفعوا راية الجهاد والاستكبار ضد الفلسفة مثله .
أي إن الفلسفة لم تتوقف عن كونها فلسفة، وإن عاشت أطواراً، كالعلم، وإلى الآن .
وما يدخل في باب المفارقة، وكما سنرى لاحقاً، هو أنه، ودون تروّ: يواجه الفلسفة بما يسفّهها أو يقلّل من قيمتها، من قبل مَن يكون مغايراً في طريقة تفكيره، كما الحال مع برتراند راسل، المنتمي إلى الفلسفة الوضعية، وأما هوكينج، فثمة الكثير الممكن قوله لاحقاً، حيث إن شهادة في الفلسفة وموتها لا يؤخَذ بها، إذ إن عرْضها في مفاصلها الكبرى يظهِر إلى أي مدى كان الغذامي إما متعامياً عن حقيقة فكر هوكينج وإيمانه المطلق بالعلم، وأنه هو نفسه لم يكن بعيداً عما هو فلسفي في مقولاته العلمية في كتابه " التصميم العظيم "" وكتاب الغذامي على مقاس " التصميم العظيم " نقدياً، إنما دونه مستوى معرفياً، وتماسكاً منطقياً، وإلى أبعد الحدود طبعاً، ولا بأي شكل من أشكال المقارنة "، أو كان اندفاعه وراء تصوره سبب ذلك، وهو يشهر إيمانه دون علمه.
وهو بأسلوبه هذا سعى جاهداً إلى مرْكزة كل ما من شأنه الدفع بالفلسفة إلى هاوية العدم( وهل هناك ما هو أكثر تجريماً لها من عبارة " الفضيحة الفلسفية " كما سنرى؟ كما لو أن الغذامي كان معنياً بها، ولم يدخر جهداً في الحرص عليها، أو تقديم ما أمكنه تقديمه لتحسين صورتها، وليكون العنوان " مآلات الفلسفة " تعزيزاً لهذا الحرص المذكور، وما في هذا التشديد عليها " يذكّرنا بعمل المطاوعة " بطريقته في وضع كتابه هذا، من الإيحاء بالتأسف لما جرى لها، وأن الذي يقدّمه إجراء إسعافياً، بصورة ما أو بأخرى" 2 "
ولو أنني تصرفت على طريقته، لأمكنني الإتيان بعشرات لا بل بمئات الأمثلة التي تدحض كل ما جاء به من أول الكتاب إلى آخره، واعتبرت أمثلته غير ذات قيمة تماماً. وهذا التصرف ليس بعمل علمي أو فلسفي، أو معرفي في محتواه طبعاً، لحظة النظر من زاوية ضيقة تعمي البصر.

ما يمكن قوله:
هنا، يمكنني إيراد بعض ما يضيء جانب الحقيقة المشتركة فلسفياً وعلمياً، وليس ما يشكل أحادية النظرة إلى الموضوع، ليكون هناك لقاء آخر، مع الفصل الأول من كتابه " مآلات.. " هذا:
أشير إلى ما يقوله نيكولاي أوميلشينكو في الفلسفة:
( الفلسفة متجذرة بعمق في الطبيعة البشرية. نحن لا نتفاجأ عندما يتفلسف الإنسان العاقل. نحن عندما لا يفعل ، ونحن مندهشون أنه لا يفكر في طبيعة الأشياء.
من ناحية أخرى ، فإن التفكير في الجوهر اللامتناهي للكون يجعل من الممكن تصور جوهر لانهائي في الإنسان نفسه وترسيخه في اللانهاية للكون. من ناحية أخرى ، فإن التفكير في اللانهاية يعني اكتساب قوتها ، أي قوة لا نهائية. باختصار ، التفكير من حيث اللانهاية يملأنا بما لا نهاية.) " 3 "
وما أفصحت عنه الفيلسوفة صوفي جوغريون في" الفلسفة أسلوب حياة.":
( غالبًا ما تُعتبر الفلسفة نظامًا نظريًا بحتًا وملجأ فكريًا وجافًا. علاوة على ذلك ، فإن صورة الفيلسوف عادة ما تكون صورة مثقف معزول عن بقية العالم وعن الاهتمامات اليومية.
ومع ذلك ، فهي ليست كذلك. الفلسفة نظام حي مرتبط بوجود الأشياء ذاته.
و:اليوم ، الفلسفة في كل مكان وهي فرصة عظيمة للتعرف عليها. لأنه من الجوهر أن تكون في كل مكان! هناك فلسفة أكاديمية وأخرى منتشرة داخل المجتمع. لكن هذا لا يزال فلسفة. والاستفادة من فكر المرء في متناول الجميع. ونحن نميل إلى نسيان ذلك.) " 4 "
وما يوسّع دائرة العلاقة بين الفلسفة والعلم، وما يخص كلاً منهما، وفي مسارات مختلفة، من قبل باحث له شأنه في هذا المضمار، وهو بول باريني، وهو يصل ما بينهما، أي العلم والفلسفة، وليس في دق الإسفين بينهما :
ما يخص تاريخ العلم
( منذ البداية ، انخرط غاليليو في بحث لم يتعامل فقط مع المشكلات ذات الطبيعة التجريبية أو الرياضية ("تجارب ذات مغزى" وإيضاحات ضرورية أو معينة)، ولكن أيضًا مع الأسئلة الفلسفية بالمعنى الواسع ، مثل ، على سبيل المثال: هل يجب علينا أن ندرس كيف تدرس هذا الشيء وكيف تتحدث عنه؟
تأمل ، على سبيل المثال ، ما حدث مع النسبية وميكانيكا الكم. لقد أنتج كلاهما تفككًا للإطار الفلسفي السابق ، وهذا من منظور مزدوج.
ومع ذلك ، من الناحية التاريخية ، لم يتم إجراء التطور لصالح العلم فقط. حتى في القرون الأخيرة ، استمر الفكر الفلسفي في ممارسة تأثير عميق على التطورات العلمية. أولاً ، كان موقفها النقدي مكونًا أساسيًا في بعض المراحل الحاسمة للتحول والنهوض بالمؤسسة العلمية.).
ودور الفلسفة في التنوير العلمي:
( يمكننا الاستشهاد بمثال آخر مهم ، حدث في إيطاليا في القرن العشرين. منذ ثلاثينيات القرن الماضي ، طور عالم الرياضيات برونو دي فينيتي مفهومًا ذاتيًا للاحتمال. في البداية كانت فاترة إلى حد ما ، أصبحت على مدار العقود واحدة من أهم النظريات المرجعية في النقاش الدولي الحالي ، لدرجة أن أوراق دي فينيتي قد حصلت عليها جامعة بيتسبرغ وتم تخزينها في أرشيفات الفلسفة العلمية ، إلى جانب هؤلاء.
كما أثرت الفلسفة في تطور محتويات الفكر العلمي. الأمثلة التي يمكننا الاستشهاد بها هنا مرة أخرى متعددة. ولعل أبرزها هو ولادة الأشكال الهندسية غير الإقليدية. كما نعلم ، كان بناء أنظمة هندسية من هذا النوع أحد الأسباب الرئيسة للأزمة التي أصابت المفاهيم الفلسفية التقليدية ، بناءً على الدليل البديهي لبعض الحقائق المنطقية والرياضية ، وبالتالي على صحتها العالمية.
إذا فتحنا العمل الأساسي لريمان ، في الفرضيات التي تشكل أساس الهندسة ، يمكننا أن نرى أن الصفحات الأولى مكرسة للتمييز بين المشعب المنفصل والمتشعب المستمر. تنتمي التنوعات المستمرة إلى المكان والزمان: لكن لم يعد يُنظر إلى هذا الفضاء وهذه المرة ، في الوضع الكانطي ، على أنهما حدس ، أو بشكل أكثر دقة حدسًا شكليًا محضًا ، بل بالأحرى كمفاهيم في الدفاع عنها من قبل هيربارت ضد كانط. على وجه الخصوص ، يصبح الفضاء مفهومًا يقع بموجبه تعدد المساحات الممكنة (إقليدية أو غير إقليدية). على أساس مثل هذا التغيير في المنظور الفلسفي على وجه التحديد ، تمكن ريمان من التعامل مع المشكلة العامة للأحجام المستمرة وأنه يتصور إمكانية تعدد لا حصر له من المساحات ، حيث يكون الفضاء الإقليدي مجرد حالة معينة (حتى إذا كان هو الأهم).
يمكن إجراء خطاب مماثل حول الجدل المتعلق بتفسير ميكانيكا الكم ، حيث يلعب اللجوء إلى المنطق غير الكلاسيكي والخلافات حول طبيعة المنطق ، ولا سيما حول دلالات العوالم الممكنة ، دورًا مهمًا. في الآونة الأخيرة ، انفتحت جبهة جديدة: هي القيمة الموضوعية للنظريات التي نستخدم فيها مفاهيم التناظر والثبات ، والتي ترتكز على جوانب معينة من أحدث النظريات الفيزيائية ، ولكن أيضًا في الأطروحات الفلسفية التي تم تطويرها في النصف الأول من القرن العشرين بواسطة إرنست كاسيرير ومؤلفين آخرين.
يوضح المثال الثالث الدور النشط للبحث الفلسفي في علاقته بالعلم. وقد مثلته في العقود الأخيرة مشكلة الاختزالية. نسمع أحيانًا تصريحات من هذا النوع: "الحالات العقلية قابلة للاختزال إلى الحالات الدماغية" ؛ أو مرة أخرى: "إن تأكيدات علم الأحياء قابلة للاختزال في الكيمياء ، والأخيرة ، بدورها ، تخص الفيزياء".
ما الذي يجب أن يُفهم من الاختزال من تخصص إلى آخر ومن مجال معرفي إلى آخر؟ هل يجب أن نتحدث عن الاختزال المعرفي أم الاختزال الوجودي أم كليهما؟ ما هي الأدوات التي تلعب دورًا في أعمال التخفيض؟ هذه الأسئلة ليست علمية في طبيعتها فقط ؛ هي أيضا من النظام الفلسفي والاهتمام.
- البعد النظري.
وهكذا دخلنا إلى قلب المسألة المتعلقة بالطريقة الأخرى لتصور العلاقة بين العلم والفلسفة: وجهة النظر النظرية. في هذا الصدد ، لا يمكننا تجنب جملة آينشتاين الشهيرة التي مفادها أن "العلاقة المتبادلة بين نظرية المعرفة والعلم مهمة للغاية. يعتمدان على بعضهما بعضاً. تصبح نظرية المعرفة بدون ملامسة العلم إطارًا فارغًا. العلم بدون نظرية المعرفة – بقدر ما يمكن تصوره – هو بدائي وعديم الشكل ”
تعبّر كلمات أينشتاين هذه بشكل مثير للإعجاب عن الحقيقة التالية: العلامات التاريخية للعلاقة بين العلم والفلسفة ، التي تحدثت عنها حتى الآن ، تبرز فقط الخصائص "البنيوية" لهذه العلاقة ، على الأقل بالشكل الذي تتمتع به هذه العلاقة.).
وما يصل العلم بالفلسفة وبالعكس، ووجوب التمييز بين مفاهيم كل علم وآخر، بين مفاهيم الرياضيات، وتصور راسل للعلم الرياضي وللفلسفة، حيث يختلفان مفاهيمياً:
( وهكذا نصل إلى مشكلة أساسية. نحن لا ندرك بشكل كافٍ حقيقة بسيطة جدًا في الواقع: وهي أن العلماء والفلاسفة ، حتى عندما يكون لديهم شيء ما ، وحتى الكثير من القواسم المشتركة ، يعملون وفقًا لمنهجيات واهتمامات محددة وتختلف بشكل كبير عن بعضها بعضاً. بالنسبة للفيلسوف ، ما يهم قبل كل شيء هو تحليل المفاهيم والبحث عن وجهات نظر "شمولية". تأمل في عقيدة منطقية مثل نظرية برتراند راسل للأوصاف المحددة. سيكون من المستحيل فهم نشأتها وتطوراتها دون مراعاة المشاكل الفلسفية التي طاردت مؤلفها خلال السنوات التي كتب فيها مبادئ الرياضيات. سيكون من الصعب أيضًا فهم توجه راسل نحو حل معين بدلاً من حل آخر (وجهوده لتعيين قيمة حقيقة للجمل التي تحتوي على عبارات اسمية لا تحدد ، على عكس حلول فريج وهيلبرت) إذا تجاهلنا رغبته الفلسفية النموذجية في التخلص ، أو على الأقل الحد من التنازلات الأفلاطونية من الخطاب الرياضي والخطاب اليومي.) .
وهو ما يمكن تعمقه تالياً:
بالنسبة للعالم ، فإن أكثر ما يهم هو "تقدم" تخصصه العملي.). في حالة المتخصص في هذا العلم التجريبي أو ذاك ، فإن أكثر ما يهمه هو بيانات الخبرة ، والأدلة المنطقية والرياضية ، والفحص اليقظ للتخمينات المحددة جيدًا أو المحددة.
للمضي قدمًا في هذا المنطق ، يمكننا أن نناشد أينشتاين مرة أخرى ، وعلى وجه الخصوص المقطع الشهير حيث يستحضر "انتهازيته المنهجية pportunism méthodologique " ، التي تميز العالم عن الفيلسوف في عينيه. في النص نفسه حيث تم العثور على الصيغة التي ذكرناها ، والتي بموجبها يكون العلم بدون نظرية المعرفة بدائيًا وخاليًا من الشكل ، وأن نظرية المعرفة التي لا يتم تخصيبها عن طريق الاتصال بالعلم ستكون فارغة – يضيف أينشتاين على الفور:
ولكن بمجرد أن ينجح عالم المعرفة ، في بحثه عن نظام واضح ، في شق طريقه نحوه ، فإنه يميل إلى تفسير محتوى الفكر في العلم وفقًا لنظامه ، ورفض كل ما لا يتكيف معه. . من ناحية أخرى ، لن يتمكن العالم من دفع مطلبه للتنظيم المعرفي إلى هذا الحد. يقبل بامتنان التحليل المفاهيمي المعرفي ؛ لكن الشروط الخارجية ، التي توفرها له حقائق التجربة ، لا تسمح له بقبول ، من أجل بناء عالمه المفاهيمي ، شروطًا شديدة التقييد وقائمة على سلطة نظام معرفي. لذلك من الحتمي أن يظهر لعالم المعرفة المنظم على أنه نوع من الانتهازي عديم الضمير: أنه يبدو له كواقعي ، لأنه يسعى إلى وصف العالم بشكل مستقل عن أفعال الإدراك ؛ كمثالي ، لأنه يعتبر المفاهيم والنظريات اختراعات حرة للعقل البشري (لا يمكن استنتاجها منطقيًا من الحقيقة التجريبية) ؛ كإيجابي ، لأنه يعتقد أن مفاهيمه ونظرياته مبررة فقط بقدر ما توفر تمثيلًا منطقيًا للعلاقات بين الخبرات الحسية.)
والتعاون بينهما:
( بادئ ذي بدء ، يجب على الفلاسفة تجنب تقييم العمل العلمي على أساس مطالبهم – مهما كانت مشروعة – من أجل المنهجية والاكتمال. إذا استمروا في القيام بذلك ، فسوف يقومون بإيذاء كلا النظامين. سوف تتعرض الفلسفة باستمرار لخطر التناقض الصارخ مع العلم. أما بالنسبة للعلم ، فسيتم الحكم عليه وفقًا للمتطلبات المعيارية التي ، إذا أخذناها على محمل الجد ، لن تؤدي إلا إلى فرض حدود عبثية على ميول البحث العلمي.
يمكن للفلسفة التعامل مع المفاهيم التي تحدث في كل من الخطاب الفلسفي والخطاب العلمي. في الوقت الحالي ، على سبيل المثال ، فلسفة العقل مصحوبة ببحث علمي في محاولة لفهم الظواهر المعقدة مثل طبيعة الوعي والحالات العقلية) " 5 "
وأحسب أن الغذامي لم يأخذ هذا التباين المفهومي بعين الاعتبار مأخوذاً بهوى الرغبة في أن يصل بموضوعه المتمحور حول الفلسفة إلى الطريق المسدود كما هو مخطط له ليجهَز عليه، دون أن يعبأ بأرضية كل نوع علمي أو معرفي، وتميّز كل نوع مما تقدم، بجملة علاقات تقوم بين مكوناته، وخاصيته المفهومية، إن تحدثنا عن بينيت أو رورتي أو هوكينج..، والأخير على وجه التخصيص الذي لم يخف إلحاديته في كتابه المذكور، كما سنرى، سوى أن عداوته للفلسفة، وما لها من تاريخ طويل ، بمفهومها الديني والفقهي الضيق والغزالي المختزل هنا أيضاً، أنسته عن هوكينج وإلحاده، وما لهذا التجاهل من رعب المتصوَّر عما هو فلسفي، أي " فوبيا الفلسفة "


" يتبع "


مصادر وإشارات
1-عبدالله محمد الغذامي: مآلات الفلسفة : من الفلسفة إلى النظرية ، دار العبيكان، الرياض، ط1، 2021 ، في 192 صفحة، والإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة .
2-أشير إلى مثال يخص كتاب الغذامي، وهو " ثقافة الوهم " مقاربات حول المرأة والجسد واللغة " طبعة بيروت، 1988، وهو يمارس هذا الأسلوب نفسه، وبنوع من التسفيه، كتاب النفزاوي: الروض في نزهة الخاطر " والذي صدر منقحاً، ومع تقديم للباحث العراقي: جمال جمعة، عن دارالريس، قبرص، 1993، والجهة التي طبعته " دار الريس "وتحليلي لموقفه هذا، في كتابي:الشبق المحرم " أنطولوجيا النصوص الممنوعة "، دار الريس، بيروت،ط1، 2002، صص63-67.
-3Nikolay Omelchenko La philosophie comme thérapie, Dans Diogène 2009/4 (n° 228)
نيكولاي أوميلشينكو: الفلسفة كعلاج
-4Sophie Geoffrion « La philosophie est une manière de vivre. »
صوفي جوغريون" الفلسفة أسلوب حياة.”
-5Paolo Parrini Science et philosophie, Dans Diogène 2009/4 (n° 228)
بول باريني: العلم والفلسفة




2.jpg
د. عبدالله الغذامي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى