ناصر كمال - غرفة وحيدة

جلس القرفصاء على الحصيرة التي تتوسط الغرفة، وهو ينظر إلى المعلاق... ذلك الحبل الذي يصل بين حائطي الغرفة، وتعلق عليه ملابس كل من يقطن المنزل، راقب جلاليب والده على جانب المعلاق يليها ملابسه ثم ملابس والدته ثم إخوته، ظل محدقا في المعلاق، وعلى وجهه علامات الامتعاض، فهو بالنسبة له رمز للفقر الذي يعيشون فيه، يتخيل غرفة أخرى ومنزلا آخر يحتوي دولابا للملابس غير ذلك المعلاق الذي يثير الغثيان، وسرير خشبي تعتليه مرتبة طرية بدلا من تلك الحصيرة التي تغطي الأرضية الطينية، ويكاد جسده النحيل ينبري من كثرة النوم فوقها، فسقف الغرفة العلوية تلك التي يجلس فيها مصنوع من جريد النخل المطلي بالطين كعادة كل المنازل المبنية من الطوب اللبن في قريتهم الصغيرة، والتي يقطنها الفقراء من سكانها بينما كان الأغنياء يشيدون لهم منازل من الأسمنت المسلح والطوب الأحمر، لذلك كان يغرق يوميا في أحلام اليقظة يبدل فيها منزلهم هذا بمنزل آخر تختفي فيه تلك الشقوق التي بدأت تظهر في الحوائط، والتي يبرز منها أحيانا الأفاعي والعقارب وسحالي الدفين الخطرة التي تفضي عضة منها للموت المحقق... كان الحر شديدا في هذا اليوم، فبدأ العرق يتصبب من جبينه، قرر أن يترك غرفته الدفيئة هذه، ليجلس هذا المساء على بداية السلم أمامها حيث يواجهه المنزل المجاور، والذي لا يحتوي بهوه على سقف كغالبية بهي المنازل في القرية، فكان يستطيع رؤية ما بداخله، سمع صوت الأرضية تكنس، فأدرك أن ابنة الجيران ذات الثامنة عشرة ربيعا تمارس عملها اليومي في تنظيف البيت، ويبدو أنها بدأت بالغرفة الداخلية، وحتما ستصل للبهو في أي لحظة الآن، فهو يراها يوميا في ذلك الوقت تتجول عبر المنزل، وبيدها المكنسة المصنوعة من ليف النخيل، لتزيل الفضلات العالقة بالأرضية، وهي في وضع القرفصاء... ها هي تظهر، ولكن اليوم لم تكن كعادتها محتشمة، ويبدو أن ذلك بفعل حرارة الطقس الواضحة، فأيقظت في داخله نيران يحاول مرارا أن يبقيها خامدة، فتقاليد القرية صارمة لا ترحم... حاول غض البصر، ولكنه لم يستطع، فترك العنان لعينيه لتتجول كما تشاء... لحظات قليلة اغتنمها ليري ما لا يجب أن يري، قبل أن تلتفت لأعلى، لتراه يحدق فيها... هل هي طاقة تخرج من العينين؟ فتنبه الآخرين بأن هناك من يراقبنا... لم يكن يعلم كيف أدركت نظراته لها... ثوان معدودات مرت حين تلاقت عيناه بعينيها، رأي فيهما وجهها وقد اضطرب حياء، ولكن لم يلحظ فيه غضبا بل وجد نفس الرغبة الجامحة التي انتابته تبدو على محياها، قبل أن تمد يدها لتستر نفسها، ولكن ببطء شديد... كانت تريده أن يراقب كل ذرة مما ظهر منها، لتزيد من ناره اشتعالا... حرك وجهه يمينا ويسارا، وكأنه يصحو من حلم، أو يستيقظ من نوم عميق، أخذ يعدو إلى أسفل، وكأنه يهرب من صياد خبير أراد اقتناصه، ولم يكن يعلم بأنه يحاول الهروب من نفسه... مرارا وتكرارا حاول أن يفلت من هواجسه، ولكنه أخفق في ذلك، فكيف يفصل المرء قلبه وعقله عن جسده المتمرد دائما على كل صنوف القيد، ارتمى على الأريكة المتهالكة بالقرب من والدته، والتي أدركت سريعا بأن خطبا قد ألم به، تسأله:

- مالك يا ولدي مش على بعضك ليه؟

- مفيش حاجة يا أماه... الجو حر ومش مستحمل نفسي.

تتركه بعد أن فشلت في حثه على الفضفضة لها بما يخفيه في سريرة نفسه، أخذ يفكر فيها، وفيما رأي منها منذ قليل، أبهره هذا الجمال الفطري، وتساءل: كيف لعجوزين مثل والدها ووالدتها أن ينجبا في خريف العمر تلك الفاتنة الساحرة؟ قرر لأول مرة في حياته أن يخطو خطوة للأمام، فهو يدرك تماما أنه لا يملك نفقة الزواج، وربما لن يملكها يوم ما، فكيف يتزوج وهو لا يملك دارا أو دخلا ثابتا يمكنه من إيجار منزل للزوجية، فقد ورث عن أبيه حرفة النجارة، وهو رغم مهارته العالية في تلك الحرفة إلا أن هناك في القرية من يذيع صيته بها أكثر منه، فهو ما يزال شابا يفتقر للخبرة كما يقولون، بالإضافة إلى شخصيته التي تميل للانطواء، مما جعله بعيدا عن قلوب وعقول الناس في القرية... ناهيك عن أن والده قد رحل، وترك له مسئولية إخوته الثلاثة، والذين يشاركونه الغرفة الوحيدة العلوية بالدار... إذا لا مفر بأن يقتنص من الدنيا ما أبت أن تمنحه إياه، ولو غصب عن الجميع... هو يدرك تماما أنها تريده كما يريدها، وبما أن الحياة لم تعطه فرصة لأن يعيش معها في النور، فظلام الليل متاح وستار، ولن يعلم أحد بما يجول بينهم فيه... قفزة بسيطة يتعدى بها الحائط الفاصل بينهم، وسوف يكونان معا، فالعجوزان يرقدان مبكرا، ويمكنه أن يشير لها بأن تنتظره في باحة المنزل بعدها... أعجبته تلك الفكرة التي يعلم بأنها شيطانية جدا، وربما يندم عليها لاحقا، ولكنه كان مساقا بدافع أقوى منه ومن قدرته على المقاومة والاحتمال، ترك الأريكة بجانب والدته التي راحت تنظر له بريبة, وكأنها تعلم بما يخطط له, صعد درجات السلم على مهل، حتى لا تفضح خطواته ما يعتمل في صدره، وصل إلى نهايته, نظر إلى المنزل المجاور, فوجدها ترقد علي أرضية الدار وتضع يدها خلف رأسها، تنظر إليه، وكأنها تنتظر منه أن يحلق في الهواء مثل طائر أسطوري ويهبط عندها، خطى بتؤدة نحو الجدار الفاصل بينهما، تردد فجاءة قبل أن يقفز بخفة عليه, ثم يتدلى إلى داخل دارها، وخلال ذلك كانت هي تنظر إليه بلا حراك، وكأنها مخدرة لا تملك إرادة التصرف أو حتى النطق، اقترب منها، وما أن مد يده ليمسك بخصرها حتى خرجت منها صرخة مدوية، استيقظ على أثرها كل من بالجوار, ألجمته المفاجأة، فتجمد في مكانه، حاول الهروب بالقفز على الحائط, فوجده قد كبر فجاءة، ولم يعد منخفضا كما كان، نظر خلفه، فوجد العجوزين يحملقان فيه، أدرك ساعتها أن المعلاق سوف يكتظ بملابس جديدة، وعليه أن يسوي شق الحائط في غرفتهم الصغيرة العلوية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى