د. مصطفى عطية جمعة - الأدب المقارن : المفهوم والنموذج (مدخل للتعريف والفهم)

يعد الأدب المقارن منهجا نقديا مميزا ، فهو يعتمد على المقارنة بين الأجناس الأدبية في اللغات المختلفة ، على مستوى التأثير والتأثر والأفكار . وبالطبع فإن الحد الأدنى في المقارنة يكون جنسا أدبيا واحدا ، بين لغتين مختلفتين .
وتتعدد نظريات الأدب المقارن التي سعت إلى تطوير مناهجه ، متماشية مع التطورات المعرفية في الحقول الإنسانية المختلفة . وقد جاءت نظريته الأولى ساعية إلى المقارنة بين جنسين أدبيين في التأثير والتأثر ، ولعل كتاب د. مكارم الغمري ، المعنون بـ: "تأثيرات عربية في الأدب الروسي المعاصر " الصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت ( 1991 ) ؛ نموذجا لقياس مدى التأثيرات العربية التي دخلت الأدب الروسي المعاصر ؛ وهناك الكثير من البحوث التي تناولت تأثيرات عربية في الأدب الغربي ، مثل تأثر " دانتي " صاحب الكوميديا الإلهية برسالة الغفران لأبي العلاء المعري ، فالموضوع المشترك بينهما هو : ما يحدث يوم القيامة وإدخال الناس الجنة أو النار .
وتطورت النظرية من مجرد التأثير والتأثر إلى دراسة تاريخ الفكرة ذاتها بين أدبين مختلفين ، بلغتين مختلفتين ، وصاحب هذه النظرية " رينيه ويلك " في بحثه المشهور المعنون بـ " أزمة الأدب المقارن " والذي طالب فيه إلى أهمية أن يعاد النظر في مناهج الأدب المقارن بحيث لا يقف في دائرة التأثير والتأثر ، فهي دائرة مغلقة ومحدودة ، وأن يتسع بحيث يشمل دراسة تاريخ الأفكار بشكل معمق ، بأن ندرس- مثلا – قصيدة النثر : النشأة والتكوين والجماليات في الشعر العربي وفي الشعر الإنجليزي أوالفرنسي ، وبالتالي تكون المقارنة أكثر شمولا ، حيث نعرف المشترك والمختلف : فكريا وجماليا في قصيدة النثر ، بدلا من الرؤية المجتزأة السابقة التي تقف عند مستوى المضمون وتسعى إلى تعميقه بين الأدبين .
والدراسة العربية النموذج لهذا المفهوم : كتاب الدكتور مجدي أحمد توفيق وعنوانه : " مفاهيم النقد ومصادرها عند جماعة الديوان " ( سلسلة كتابات نقدية الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، عام 1999م ) ، وقد أقام فيه دراسة مقارنة بين المفاهيم النقدية التي نشرتها جماعة الديوان في مصر في أوائل القرن العشرين ، والتي كوّنها : عباس محمود العقاد ، وإبراهيم المازني ، وعبد الرحمن شكري ، واعتمدت في مفاهيمها على المعطيات الحركة الرومانسية الغربية ، خاصة الإنجليزية ، وما طرحه أبرز منظروها ونقادها من مفاهيم جديدة ، ومنهم : ووردز ورث ، تشيلي . وقد أثبت د. توفيق ، في هذا البحث كيف أن أعضاء جماعة الديوان في مصر ، رددوا مقولات ومفاهيم نقدية عامة ، دون التعمق في فهم النظرية جيدا ، وأن عامل الرغبة في الشهرة كان عائقا أمامهم للتعمق في النظرية الرومانسية ، ومن ثم جاء نقدهم للتيار الكلاسيكي في الشعر ( أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهما ) عنيفا وشديد الوطأة ، دون التمهل في دراسة النظرية الرومانسية ، وكيف طوّرت الشعر في البنية والجماليات . وهذا بحث جيد ، ويعد نموذجا عربيا على التطور في الدراسات المقارنة .
وجاءت النظرية الثالثة في الأدب المقارن من فرنسا ، متطورة أكثر ، ونادت بأن تكون دراسات الأدب المقارن متماشية مع العولمة وثورة الاتصالات المعرفية ، وذلك بأن ندرس قناعات الأديب ومفاهيمه العالمية ضمن دائرته المحلية ، بأن ندرس مثلا الحداثة بوصفها مذهبا أدبيا عالمية ، لدى أديب ما أو مجموعة من الأدباء أو جيل من الأدباء في أحد الأقطار . إن الهدف من هذه النظرية قياس مدى مسايرة الأدب في البيئة الأدبية للمستجدات الفكرية العالمية، فلا مجال بأن ينحصر الأديب في دائرته القطرية والمحلية الضيقة ، دون أن يساهم بالنقاش وعطاء الإبداعي مع الحركة الأدبية العالمية ، فقد انتهى دور مركزية الحضارة الغربية ،وأصبح ما يسمى حوار الحضارات ، لا تصارعها ، وبالتالي نطالب بحوار النظريات الأدبية العالمية ، بين الآداب متعددة اللغات .
وأظن أن النظرية الثالثة شديدة الأهمية ، لأنها لا تلغي الآخر ، بل تتعامل بتقدير مع مختلف الآداب ، وفي نفس الوقت ، ستحفز البيئات الأدبية على تطوير نفسها من أجل المساهمة بالرؤية والإبداع في الأدب العالمي ، وهذه المساهمة لا تقف عند دائرة التأثر بالفكرة أو المذهب العالمي ، بل يكون السؤال: ما العطاء الذي قدمه الأدب العربي – مثلا – في نظرية ما بعد الحداثة ، أو في مفهوم سقوط مركزية الحضارة الأوروبية ، وسيادة مفهوم حوار الحضارات وتجاورها ؟
وهذا بلا شك يتيح للأدباء العرب أن تكون لهم نقاشات ثرية : إبداعيا ونقديا في الحركة الأدبية العالمية ، من منظور الثقافة العربية والإسلامية ، لا أن نكون مجرد تابعين مرددين وناقلين للنظريات والمذاهب الغربية ، وإنما متعاطون إيجابيًا وبفاعلية مع الأدب العالمي ، بأن نعي النظريات المستجدة ، ومن ثم نناقشها في ضوء ثقافتنا العربية الإسلامية الأصيلة ، بكل ما تزخر به من قيم إنسانية .
وهذا يستلزم المزيد من الدراسة للمستجدات العالمية في الفلسفة والآداب ، فلا مجال في عالم اليوم للأديب المتفرج أو المنعزل أو الجاهل أو المنغلق الفكر ، فهذا قد حكم على نفسه مقدما أن يكون مجهولا .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى