د. حسن مدن - سعيد العويناتي .. رجل ضد النسيان

جاء في مطلع قصيدة
الشاعر بول ايلوار التي يرثي فيها بطل المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي جبريل
بيري: “مات رجل/ لم يكن يملك ما
يدافع به عن نفسه / غير
ذراعيه الممدوتين للحياة / مات رجل / لم يكن له طريق آخر/
غير ذلك الذي يكره فيه الانسان البنادق / مات رجل / ضد الموت.. ضد النسيان / مات،
لأن كل ما يريده / كنا نريده نحن أيضاً “.

أما الشاعر التشيلي
بابلو نيرودا فكتب يقول: “يجب أن نطلب من الشاعرأن يتخذ مكاناً له في الشارع
وفي المعركة، كما في النور وفي الظل. إن شرف الشعر كان الخروج إلى الشارع، كان
المشاركة في هذا العراك أو ذاك”. وسعيد العويناتي، الشاعر البحريني الشاب
الذي أُستشهد في ديسمبر/ كانون أول عام 1976، وهو بالكاد في الثامنة والعشرين من
عمره، كان من أولئك الشعراء الذين “اتخذوا مكاناً لهم في الشارع، وفي
المعركة، وحاز على شرف الشعر”.

اليوم، بعد مضي
نحو قرابة أربعين عاماً على رحيله، لا يغيب سعيد العويناتي من ذاكرتنا الوطنية
والثقافية، لأن الإنسان المناضل سواء كان كاتباً أو شاعراً أو قائداً، عندما يغيب،
أو يُغيب قسراً، فانه لا يموت. إنه كما قال الشاعر البلغاري بوتيف لا يستطيع أن
يموت.

يكبرني سعيد
العويناتي في العمر سنوات قليلة، ربما أربع أو خمس سنوات. حين عاد أوائل صيف 1974
من بغداد منهياً دراسته الجامعية في كلية الآداب – قسم الصحافة كنت أتهيأ للسفر
إلى القاهرة لبدء دراستي الجامعية، لكن علاقتي بسعيد إبتدأت قبل هذا الصيف، فقد
التقينا في سنوات سابقة اثناء ما كنا ندعوه في حينه بالعمل الصيفي للإتحاد الوطني
لطلبة البحرين، والتقينا مراراً في مكاتب مجلة “صدى الأسبوع” القديمة
ليس بعيداً عن شارع باب البحرين وبالقرب من فندق بريستول الذي لا أعرف ما إذا كان ما
يزال في مكانه أم لا، حيث كنت أعمل محرراً في هذه المجلة ومشرفاً على الصفحة
الثقافية فيها.

كُلُ مَرةٍ كان
فيها سعيد يأتي إلى البحرين من بغداد يكون محملاً بنصوصه الشعرية الجديدة
وبكتاباته وأفكاره، بل انه كان يرسل بعض هذه النصوص من بغداد عبر البريد لتنشر في
المجلة، مرفقة برسائله الدافئة، التي، ويا للأسف، لم أحتفظ بشيء منها، لطمأنينة في
النفس أنه باق معنا، ولن يرحل بهذه العجالة.

فكان أن إنعقدت
بيني وبين سعيد صداقة توطدت مع الأيام، وبتنا في أيام كثيرة نلتقي في الظهر بعد
الدوام ونتجه بالنقل العام من المنامة إلى بيت أهله في البلاد القديم، وفي غرفته
المليئة بالكتب نتناول الغداء وندردش حول قضايا فكرية وثقافية وسياسية شتى،
وأحياناً كنت أمر عليه في العصر في منتزه “عين قصاري” حيث كان يعمل في
الإجازة الصيفية بائعاً للتذاكر.

وما زلت أذكر
حضوره البهي في ليالي السمر الأدبي التي كنا نعقدها مرة كل أسبوع في منطقة الهورة
ليس بعيداً عن مدينة عيسى، في ذلك الفضاء الذي كان مفتوحاً على القمر، حيث تتحلق
مجموعة من محبي الأدب والكتابة أذكر منهم علي عبدالله خليفة والراحلان عبدالله علي
خليفة وعلآم القائد، وابراهيم بوهندي وعبدالقادر عقيل وسلمان الحايكي وإيمان أسيري
وآخرون، في تلك الجلسات تتم المناقشات الأدبية والقراءات الشعرية ، وكان سعيد
حاضراً بروحه المتقدة في النقاش وبالجديد من نصوصه الشعرية.

كانت البحرين في
تلك الفترة تعيش ذلك المقطع الزمني الحافل، فقد انتهت انتخابات المجلس الوطني في
ديسمبر 1973 بفوز أعضاء كتلة الشعب والعناصر الوطنية الأخرى، وكانت الحركة
الديمقراطية في البلاد في أوجها، وإنعكس ذلك المناخ على الثقافة والفكر وعلى
عطائهما.

وسعيد الآتي من
بغداد كان قد تشرب بالفكر التقدمي
والثقافة الانسانية في أجواء الانفراج السياسي التي عاشها العراق في حينه، حيث
كانت الصحافة التقدمية العراقية ك”طريق الشعب” و”الفكر
الجديد” و”الثقافة الجديدة” حوامل لكل ذلك، وأذكر أن الشاعر
العراقي مخلص خليل، وهو من جيل سعيد في العمر وفي التجربة الشعرية، كتب مقالةً في
مجلة “طريق الشباب” التي أصدرناها في نهاية السبعينات وبيداية
الثمانينات بين بيروت ودمشق باسم اتحاد الشباب الديمقراطي البحراني قال فيها أنه
حين قرأ أول مرة نصاً لسعيد العويناتي قبل أن يعرفه حسبه شاعراً عراقياً:
“كان فيه شيء من لوعتنا وحزننا وتوقنا” – هكذا كتبْ.

لم يكن سعيد
العويناتي شاعراً موهوباً فحسب وانما كان، أيضاً، ناشطا في الصحافة الثقافية. تشهد
على ذلك مساهماته في الصحافة البحرينية في تلك الفترة على شكل مقالات وتحقيقات
ومقابلات نشرها في “صدى الاسبوع” و”الأضواء”، وفي الفترة التي
أشرف فيها على الباب الأدبي في مجلة “المواقف” سعى لتنشيط الجو الأدبي
والثقافي بفتح الحوارات حول الظواهر المستجدة في حياتنا الأدبية والثقافية.

في صيف 1975 جئت
البحرين من القاهرة لقضاء الإجازة الشهرية، التقيت سعيداً مرات عدة: في نفس
الأمكنة وبتفاصيل مشابهة، بعدها غادرت البلاد لغربة طويلة، ولكن القدر يسرَّ لنا
لقاء نادراً مع سعيد، في شتاء 1976 ، قبل استشهاده بشهر أو شهرين، حيث جاء في
زيارة إلى بغداد التي كانت محطة منفانا الأولى، أتى سعيد محمولاً بشوقه وحنينه إلى
العراق، وبوسعي تخيل حال الإنشداد الروحي العميق التي تسكننا إزاء المكان الذي
عشنا فيه ردحاً من عمرنا وتعلمنا فيه بعض تجاربنا. وبغداد محطة أثيرة في نفس سعيد
، كان مشدوداً إليها، إلى ثقافتها وشعرها وناسها ونهرها وأصدقائه الحميمين هناك،
وهذا ما حمله على زيارتها، شاءت الأقدار أن تكون زيارة وداعية.

والتقينا سعيداً
في سهرة في بيت الرفيق عبدالله الراشد
البنعلي، وكان بين الحضور صديق أو صديقين عراقيين لسعيد، لعلهما زاملاه في الكلية،
وبالمناسبة فان شيئاً من مناخ تلك السهرة إنعكس في أحد النصوص الأخيرة التي كتبها
الشاعر ونُشرت بعد استشهاده أول مرة في أحد أعداد مجلة “النضال”، وجرى
فيما بعد تضمينها في الطبعات اللاحقة من ديوانه اليتيم: “إليك أيها
الوطن”، “إليك أيتها الحبيبة”.

وغادر سعيد بغداد
بعدها بأيام. كانت البحرين قد دخلت شتاء قانون أمن الدولة الطويل، وكانت السجون
تستقبل المناضلين، دفعة وراء دفعة. لم يأتنا خبر إعتقاله كما إعتدنا أن نسمع عن
الآخرين، إنما جاءنا خبر إستشهاده. لم تكن ثمة مسافة بين الإعتقال والاستشهاد.
خلال ساعات من اعتقاله كان قد عٌذب حتى الموت، وبعد نحو أربع وعشرين ساعة سُلم إلى
أهله جثة شوَّهها التعذيب.

أكان الشاعر يهجس
بموته؟
هذا ما تشي به بعض نصوصه، ففي أكثر من موضع في ديوانه الوحيد جاءت إشارات
متفرقة إلى الموت والسجن والتعذيب والمطاردة، لدرجةٍ توحي للمرء أحيانأً أن سعيداً
كان يتنبأ باستشهاده، شأنه شأن لوركا، وسواه من الشعراء الشهداء الذين خطفهم الموت
باكراً:

-
“أتذكر لحظ إلتقينا
معاً في الطريق المؤدي/ إلى الموت”

-
“هذا شرطي آخر/ يحمل إيقاع الموت/ وفي عينيه قرار القتل السري”

-
“يتعقبني ليل أسود/
يضع على عينيه النظارات السوداء/ المشحونة بالهمسات/ ويحمل في كفيه تواقيع المنع/ وكل
حروف الغرف الرطبة”.

-
“هنا أدخلوني السجون/
ولم أمض شهراً/ كي أستريح”

-
لم بمضِ سعيد في
السجن شهراً، إنما يوماً فقط أو أقل من يوم، وذهب في الخلود.
أعلى