عيسى لمين أبّكر - جيقنّي ''الوجه الآخر للصحراء''.

حينما انتهى من ورد البهائم ، تأبّط اْلجيْقنّي وجلسَ تحت شجرة الهجليج اليتيمة ، ورياح السموم الشمالية تُزمْجر وتلفح وجهه ، بينما الشمس منتصبة في وسط السماء ، السراب يظهر ويَختفي على حبيبات الرمال الصفراء كأنه في لعبة غميضة مع الصحراء ، يتمدد السراب بشكل لا نهائي ، يتموّج أُفقياً مع أشعة الشمس الساطعة.
جمع العيدان المتناثرة وكوّمها خلف جذع الشجرة ، أخرجَ علبة الكبريت وأشعلَ العود ، فانفجر الضوء الأحمر من رأس العود الصغير ، يحجب العود من الهواء فيدسه بين العيدان المكوّمة .
يضع البرّاد فوق العيدان المشتعلة ، قبل أن يخرج البرّاد والشّاي والسكر من بين أغراضه ، البرّاد أسودّ لونه بسبب التهابات ألسنة النار ، يتذكر جيداً أنه كان ذهبي اللون حينما اشتراه أول مرة ، ولكنه الآن لا يُرى من لونه غير السواد الحالك.
تتدلى القِربة من إحدى أغصان الشجرة ، يَفك فتحته المربوطة بحذر ، تتنقط المياه في البرّاد عبر الفتحة الضيقة .
ملأ نصف البراد بالماء وأضاف إليه الشاي ، بدأتْ وريقات الشاي الأخضر تطفو على المياه كأسماك صغيرة.
وضع البرّاد على النار ثم اتكأ على كوعه مفترشاً التراب ، تأبط اْلجيْقنّي وتأهب للعزف ، ضيّق حدقتيه وأرسل نظراته عبر فضاء الصحراء الواسع ، يحدّق في الفراغ ، ينظر إلى الحشائش الصغيرة الجافة المصفرة اللون ، الحشائش الصغيرة في الصحراء هي أغنية خضراء خالدة ، وانتصار على الموت والفناء .
يفكر في صمت معتم ، يستحضر الكلمات ، الذكريات ، العازف لا تعصيه الكلمات ، الكلمات تركض نحوه ، يروّضها، ويعقلها بالأوتار .
تنبت الحياة في الصحراء بين هذه الأشياء ، الوحدة ، الشاي الأخضر ، اْلجيْقنّي ، همهمة الأبل ، لهيب الشمس ، والسراب المتطاير ، والرمال المتناثر.
"أُوْز ، أُوز" كلمة مفتاحية بدأ بها مكرراً ، ثم تمتم بكلمات أخرى مع الإيقاع.
كانت الضربات الأولى بطيئة وثقيلة على الأوتار .
وفي صوته بحّة ، والغلظة المشوبة بالحنين تطفو على الكلمات ، في كلماته حنين إلى أشياء مضتْ ، حنين إلى الأُنس ، إلى الضحكات الجميلة ، إلى الزمن الجميل .
يعلو الصوت وينخفض مع هزات الأُوتار .
يحاول استرجاع ذكريات طمرها الزمان ، يسافر عبر دروب الصحراء الخفية ، الملتوية .
يفوح الشجن من الأوتار ، لحن مليئ بالدفء ، مفعم بالإحساس الغامض.
يستنطق الأشياء من اْلجيْقنّي .
كُلّ شيء يمكن لحنه بالأوتار .
"تَقاسُونا مونْدا قانيندي قوقا ... برادي هويلينقا ووندا تاريري موشونورو توقورتيني"
لا ينفك أن يبتسم ، سعيد بغنائه ، وبرقّة صوت الأوتار ، مغنمسٌ كليا مع الأوتار يدعم اللحن بكلماته ، عيناه مثبتتان على برّاد الشاي. يتأمّل.
لكنه فجأة توقف ، ووضع يده تحت ذقنه كما لو أنه تذكر شيئاً فجأة.
يستمع إلى صوت غليان الشاي ، رائحة الشاي بدأت تفوح من البراد ، رائحة تنعش الذاكرة وتشعل الحنين ، للأنوف أيضا ذاكرتها ، البخار يتصاعد متطايراً في الهواء ، يتصاعد البخار كأنه يختنق .
هذه الرائحة النباتية الممزوجة بأشياء تعصى على الفهم ، على الكتابة ، رائحة الشاي تشم فقط .
صبّ السكر في البراد ، هدأ صوت غليان المياه قليلاً ، وهدأ الغليان ، والعيدان تُطقطق تحت البرّاد .
جلس القرفصاء وعاود العزف مرة أخرى ، طافت برأسه تخيلات كثيرة ، يحاول نزع التراجيديا من الأشياء ، والرتابة من الصحراء .
استرسل في تفكيره نحو عشيقته ليستحضر ملامحها.
ارتسمتْ في مخيّلته ملامحها وهي تتغنج في مشيتها ، تمشي كأنها تنزل من التل، يحيط بخصرها الممشوق زرارات كثيرة ذات ألوان وأشكال متنوعة ، عيناها بريئتان كطفل ، صافيتان كصبحٍ وليد ، مرسومتان بالكحل ، عنقها طويل كغزال ، ضفيرتها المنسدلة من على ظهرها ، مُتدلية تحت الطرحة التي تحيط رأسها ، تلمع بألوان عسجدية حين تضربها شعاع الشمس ، تفوح منها رائحة التّب - شيبي- الممزوج بالدهن ، وتفوح منها رائحة السدر ، على كفيها وقدميها نقش حناء ، حناء أسود كالليل الحالك.
تضحك فترقص النخيل ، تَمشي فتزغرد الرمال .
فجأة غابتْ عن خيالها كلحظات الغروب، لكنها لم تغب إلى الأبد ، ظلت راسخة على ذاكرته كالنقوش الموسومة على البئر .
"الله بركا نمو نق دِردارو أنتا حنو أم كور كُفدردي"
"يسكر سور ابنما قونرري جي تنقا قراي تيسو"
هذي الصحراء العارية تكتسي باللحن ، جيْقنّي لحنٌ يسير خفيفاً في دروب ذاكرة ملتبسة بأشياء غامضة ، يتوغّل في أعماق الماضي ليبني جسراً بين مفترقات الأشياء ، سفر في اتجاه الذاكرة ، انتشال الماضي من ثقب النسيان الأسودْ ، وارتحال بين المراعي الخضراء والصحراء المتعطشة ، جيْقنّي هو الوجه الآخر للصحراء.
ولا أظن أن أول من ابتكر الـ جيْقنّي كان لا يعني به شيئاً آخر غير مؤانسة الروح .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى