مصطفى نصر - حليمة

فتاة طويلة مثل والدها الشيخ حامد الضرير وأمها زكية.
كان الشيخ حامد يقرأ على الأموات في عمود السواري، واشترى قطعة أرض أقام عليها كوخا كبيرا من الصفيح الصدئ وعاش فيه، زوجته شرسة، تسب الناس على أقل شيء، انجبت لزوجها أربعة أولاد وابنتين، كانت حليمة أصغر الابنتين.
ماتت الفتاة الكبيرة قبل موت أمي بشهور قليلة، ولا أدري ما سبب موتها، ما أذكره أن أمي كانت تقف خلف باب الشارع وتتابع خروج جثمانها من خلف فتحات زجاج الباب الملون وهي تبكي، فقد كانت صديقتها ولعبت معها في الحارة.
وعندما كبرتُ صادقت محمود - الإبن الثالث للشيخ حامد- كان نحيفا، هو الوحيد من بين أصدقائي الذي رفض زعامتي، فهو أكبر مجموعتنا سناً. لم يذهب هو وكل أخوته للمدارس، كانوا يذهبون مع والدهم لمدافن عمود السواري خاصة في الأعياد وطلعة رجب وخميس شعبان. رفضُه لزعامتي جعله يتشاجر كثيرا معي.
حالة الفقر البشعة التي عاشوها جعلته شديد البخل، وله طرق عجيبة في الأكل، فكان يشتري رغيف خبز بتعريفة، وبتعريفة أخرى عنب فرط، يضعه داخل الرغيف ويأكله، أو يضع داخل الرغيف مكرونة يشتريها بتعريفة أيضا. وكان يحب أكل الأتة، يعرف أماكن بيعها، بائع يقف بجوار مطافي كوم الدكة، وامرأة وبناتها يسكنون في أول شارعنا يبيعون الأتة، وكنت اسميهم " آل أتة".
تزوجت حليمة من بمبوطي يسكن الورديان، نقلها من كوخ الصفيح الصدئ إلى شقة واسعة فيها كل الأجهزة الحديثة، هي جميلة، عيناها عسليتان واسعتان، وجهها طويل، انجبت لزوجها ولد، كان محمود – خاله – يرينا صوره وهو يشرب كوب البيرة مع والده، وأخرى وهو يسحب الدخان من الشيشة.
تأتي حليمة للحارة بقامتها المديدة وحسنها الفتان، تكشف عن ذراعيها لتظهر الغوايش الذهب، فهي تحرص على إظهار حالة العز التي نقلها إليها ذلك البمبوطي.
عمل أحمد – أكبر ابناء الشيخ حامد – استورجي يدهن الخشب، أما محمد التالي له ومحمود فقد عملا في مصنع معسل سلوم بشارع أبي الدرداء، الخواجه كان يلبسهما زيا موحدا قميص رمادي وبنطلون أزرق. ( تم تأميم مصنع إخوان سلوم وضموه لشركة النصر للدخان - في مواجهة كوبري محرم بك ) فانتقل محمد ومحمود إليها.
وجاءت حليمة مع ابنها لكوخ والدها بعد شجارها وخلافها مع زوجها، واتضح أنه طلقها للمرة الثالثة، ولا يمكن أن تعود إليه إلا إذا تزوجت غيره.
كانت زكية – زوجة الشيخ حامد – قد بنت أكواخ صفيح في الدور الثاني من البيت، وسلم خشبي يصعدون عليه، وسكنِّت هذه الأكواخ لصعايدة يأتون للإسكندرية في الصيف، ويعملون في أعمال لها صلة بالمصايف. أحدهم كان عريضا وقويا، عرضت عليه زكية أن يتزوج ابنتها صوريا. فوافق، وعاش معها في كوخ صفيح، ارتاحت حليمة له، فهو قوي، بينما زوجها أكبر منها سنا بكثير، كما أن الخمر والحشيش أنهكاه، وجعلا أداءه ضعيفاً.
بكت حليمة، فهي ترتاح لمعاشرة هذا الشاب الصعيدي، لكنه فقير، ويسكنها في كوخ من الصفيح الصدئ، وعندما ينتهي الصيف لن يجد عملا في الإسكندرية وسيعود للصعيد. بينما زوجها – رغم ضعفه – غني، وشقته واسعة وفيها كل المغريات.
تصرفات حليمة أغضبت والدها - الشيخ حامد - فذهب ليقرأ على الأموات في عمود السواري لكنه لم يعد في هذا اليوم، فخرج ابناؤه الثلاثة يبحثون عنه، وساعدهم الكثير من سكان المنطقة في ذلك، وعادوا به، كان حزينا، لم يخرج ثانية من كوخه، فاشتد عليه المرض.
أذكر يوم موته، حملوا نعشه على أساس أن يصلوا عليه – كالعادة - بعد صلاة العصر في جامع سلطان، لكنه كان يلف النعش في كل مرة ويمتنع عن السير، فأيقنوا بانه يريد أن يصلوا عليه في الحارة، أمام كوخه.
امتنع الشاب الصعيدي عن العودة لقريته - بحث عن عمل في شتاء الإسكندرية، وزارهم زوجها السابق كثيرا، تحدث مع الشاب الصعيدي، وعرض عليه مالا كثيرا لكي يطلقها، لكن الشاب تمسك بها، وهي حائرة بين رغبتها في مال زوجها السابق وفتوة وقوة زوجها الحالي. ومما أرقها أكثر حالة الكره المتبادل بين ابنها وزوجها الشاب، فالولد في التاسعة الآن، لكن معاملة والده له جعلته أكثر وعيا وجرءة, فكان يعامل زوجها معاملة سيئة.
فوجئنا – ذات يوم - بالولد يخرج من الكوخ الصفيحي الكبير باكيا بصوت مرتفع، سمعه كل من في الحارة، وفي البيوت القريبة في الشارع العمومي.
جرى الولد في الحارة ناحية الجبل، والشاب الصعيدي خلفه وهو يسبه ويهدده، فقد سبه الولد وجري، وحليمة تقف في الحارة دون ملاءه، تبكي، تخاف على ابنها، ولا تريد إغضاب زوجها. وفجأة جاء المعلم " مسعود " من بيته المواجه للحارة. في الشارع العمومي.
كان مسعود وقتها أشهر سكان المنطقة، والكل يخشاه ويحسب له ألف حساب، سار ببطء ناحية الشاب الصعيدي الذي يكشف عن صدره العريض، ويمسك بعصا يهدد بها الولد الذي يقاومه ويرميه بالطوب من بعيد.
أمسك مسعود بملابس الشاب الصعيدي قائلا:
- ستطلق حليمة الآن.
كل المنطقة كانت تعلم بحكاياتها وتطوراتها، أراد الشاب الصعيدي أن يقاوم ويمتنع، لكن مسعود لا يقدر عليه أحد، فزوج حليمة الشاب صعيدي حقا، لكنه من بلدة أخرى غير بلدة معظم سكان المنطقة، ومسعود هو الزعيم.
يومها ذهبتُ مع الجموع التي سارت خلف مسعود حتى دكان المأذون في شارع " اليعقوبي "، وتم الطلاق، وعادت حليمة إلى الورديان مضطرة لتعيش مع زوجها الغني هي وابنها، وحمل الشاب الصعيدي اشياءه وعاد لقريته، ولم تره الحارة ثانية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى