سعدي جبار مكلف - الشاعر مهدي طه

الشهيد الشاعر مهدي طه
الشهداء لا يحق لهم ان يشيخوا ...اسطورة الغريق
اذا ابتكر النهر ثانية لعبة للغرق
سيضمخ كفي دمي
وسأصرخ من غرقي ابتعد
من مدينة الفقراء والعطش والجوع ، الشوارع المحلات الضيقة التي لا تعرف السكون ولا تعرف التخمة .. المدينة التي اعتادت على موت شبابها وشعرائها وكتابها ، مدينة الشهداء الاحياء انها مدينة الجمهورية في البصرة ، لقد توقعت كل شئ يامهدي ، ايها السباح الماهر وشهادة وفاتك تقول مات غرقا في نهر لا يرتفع الماء فيه سوى متر واحد او اقل كنا نعبره ونحن اطفال مشيا ايها الغالي فكيف تغرق في هذا النهر ونحن في شحة الماء ...كتب الصديق الوفي حيدر الكعبي يقول هناك احساسان يتناوباني عند
فقد صديق ، الاول ان كل صديق يموت يدنيني من القبر خطوة كأصابة جديدة قد لا تكون مميتة لكنها تسهم في التبكير بموتي ، فالناس الذين يفهمونني بلا عناء يتناقصون ، ويسحبون من تحتي البساط ، الموت يجردني من اصدقائي واحدا بعد واحد ، اتلفت فاجد نفسي اليوم اضعف مني امس وقد اجد نفسي غدا اضعف مني اليوم ، ويوما بعد يوم اجد شهودا اقل من عذابي واناسا اقل تغفر لي وتفسر اخطائي ، وهذا ما يلجئني الى البحث عن اصدقائي القدامى المنبثين في الارض ، كتابا وشعراء وفنانين وحالمين عظاما لا طمئن على انهم حين يموتون سيموتون في منتصف الطريق باتجاه مغامرة ابداعية جديدة وهذا ما يدفعني للبحث عن اصدقاء جدد قد يصغروني سنا ، لكنهم اكفاء لي في العذاب ، اطيل بهم عمر اصدقائي الموتى ، واتسلح بهم ضد اليأس ، وأحارب بهم النسيان اما الاحساس الاخر هو الاحساس بدين باهظ جديد يضاف الى ديوني الباهظة القديمة كفريق العمل يتقاسم فيه الحاضرون عل الغائبين ، الا ان الغائبين لا يعودون ابدا ولا يحل محلهم احد ، وهكذا يشتد العمل يوما بعد يوم ويستمر الغياب ويتكرر ، فتستنزف القوى، حين رايت مهدي اول مرة خيل الي انني كنت التقيت به من قبل وربما كنت اعرفه منذ ولادتي او منذ ولادتنا ، ادركت انن كنا في طريقنا الى عقد صداقة حميمة ذلك اليوم نفسه رأيت فيه ذاتي الاخرى ونفسي بصورة حقيقية ، احسست ان ذلك الفتى الذي يحاول جاهدا التستر على مشاعره بقناع من التجهم بشعره الذي لم يرتفع اعلى من سلامية الاصبع مثل رغوة سوداء لم يكن في وسعه الا ان يكون صديقي ، كنت اقرا في تعابير وجهه التوزع بين الحاجة الى الانتماء والعجز عنه ، كان هناك سلام هش يطبع ملامحه كغشاء رقيق يشف عن احساس بالصلح المهشم مع الاخرين ، وباستحالة الانسجام معهم يده الشبيهة برجل الكرسي تزداد نحافة وهي تتجه الى نهايتها السائبة لتتفرع اصابع عصبية تجتمع لعمل كمامة للفم ، تخيلته قد انتزع من منطقة ظل كثيف ليجد نفسه فجأة تحت نور ساطع كان ذلك عام 1972 في قاعة صغيرة في ثانوية البصرة للبنات ، كانت الطالبات يجلسن الى يمين الداخل والطلاب الى يساره حين نهض مهدي من احد المقاعد الخلفية ومر على يميني متجها الى المنصة لالقاء قصيدته لم اسمع وقع اقدامه ،كان لمشيته صوت كالحفيف وربما كان يرتدي حذاء من الكتان او ما اشبه ، وقد قطع المسافة بين مقعده ومنصة الالقاء بعينيين نصف مغلقتين وبرأس مطرق ، كان مستوى كتفيه مائلا ميلا طفيفا اما وجه الذي كنت اراه من الجانب فبدأ مصمما على الاتجاه الى الامام حتى اللحظة التي سيستدير فيها بجسمه كله ليواجه الجمهور ، خطر لي انه لولا الجدار المقابل لاستمر في المضي اماما مبتعدا عنا حتى يختفي في نقطة التلاشي ،كان عليه ان يلتفت اخيرا ويواجه العيون المحدقة فيه وهو مغمض العينيين وراح يقرا القصيدة المسماة صوتان على نافذة انجيلا ديفز وهو مغمض العينيين لم تعنيني الرسالة المباشرة للقصيدة كثيرا ،بدت الكلمات كثقوب في الصمت يرشح منها الحزن لو كنت بدلا من سماع القصيدة كنت قرئتها قراءة لما بقي منها في ذاكرتي شئ تجدر الاشارة اليه ، وانتبهت وهو يردد في نهاية القصيدة افتحي كوة السجن امي الحزينة .. افتحي ..افتحي .. افتحي ومازالت عينيه مغمضتين حتى ظننته قد اغفى على تلك الهدهدة وبدل الهمسات والكلام الخافت الذي سبق القصيدة ساد الان صمت مكهرب مربك ، قطعه احد بالتصفيق وتبعه الاخرون واخترق هو الضجيج عائدا الى مكانه تلك هي الرحلة الاولى المشتركه التي ابتدات بداية هادئه في عام 1972 لتنتهي نهايتها التراجيدية المدوية عام 1975 وانظم الى قافلة الرفاق الجدد ، حميد كاظم ، القاص سمير انيس ، سعدون حاتم المدعو الشاعر ادم حاتم وكلاهما مات في لبنان الشاعر قيس حيدر الذي يعدم بسبب الانتماء الى حزب محظور بعد استشهاد مهدي ببضعة شهور ، الشاعر كاظم حسن سعيد الذي يسجن بتهمة القذف والكذب لانه صرخ ان البعث الفاشيست قد قتل مهدي والفنان التشكيلي عباس مكطوف الذي غادر الى السويد ويعود منها ليموت في طاحونة الحرب لا يتسع المجال لذكرهم وكلهم جديرون بالذكر ، كانومهدي بمثابة ملتقى الطرق او مركز الدائرة في شبكة العلاقات تلك وفي جامعة البصرة التي كان طالبا في كلية العلوم فيها اجتذبت شخصيته عددا كبيرا من الطلبة المتشوقين الى رياح التغيير والناقمين على الوضع القائم كان ذا حيوية مدهشة وذهن متقد وكانت علاقته بالشعر وبالاسئلة المصيرية الكبرى المتصلة والمهمة،اخر مرة رأيت فيها مهدي كانت عشية رحيله الاخير في مقهى الموعد في زقاق ضيق مواجه لسينما اطلس في العشار ، كنت اشاهد التلفزيون في الزاوية القريبة من الداخل ، ولم يتمكن من مشاهدتي ، وبعد عدة ايام وجدت جثته على جرف نهر الحكيمية الصغير الذي كنا نعبره مشيا وماءه لا يرتفع سوى متر في ايام الفيضان ، كيف يغرق فيه مهدي وهو السباح الماهر ولم يعثر على مخطوطاته واوراقه التي كان يواضب على حملها معه اينما ذهب وقال التقرير الطبي ان موته نتيجة للغرق ولم نقتنع بهذا القول حيث نعرف ان الشهيد سباح ماهر متمكن ،الشهيد مهدي طه من مواليد البصرة عام 1953في محلة الحمهورية طاحونة الشهداء والابطال ومن نفس محلة كثير من الشهداء وتوفي فيها في 30من ايار عام 1975. كتبت عنه قصيدة وانا جالس في خيمة العزاء الخاصة به قلت وانا اشق جدار الصمت ...
مهدي ....
يامن ترقد تحت ركام الطين
لا تتقدم خطوة
لا تتاخر خطوة
ارضك رخوة
والله هو القادر في هذي الساعة ان ياخذ غفوة
في عليين
لا مثلك تحت ركام الطين .
وكتب صديقه سعدون حاتم الذي غير اسمه الى ادم حاتم قال
صديقي الغريق
اناشدك كطفل
لا تعد الى الحياة
فقد اصبحت
هلاك مثل رجل يرتكب العصيان
كتب كثير من القصائد ولكن جميعها تقريبا اختفت معه وفي اماكن رطبه اتلفت اغلبها منها قصيدة اعادة رتيبة لسيرة الملك الضليل وقصيدة اغنية الحب ، وهكذا استشهد سباح ماهر في نهر ضيق عرضه متر ونصف ، المجد والخلود لك ايها الشاعر الكبير وستبقى خالدافي سجل محراب الشهادة من اجل شعبك ووطنك
أعلى