سيف بدوي - العِـــزال

على الكنبة أسفل الشباك المطل على الشارع.. جلس، وذكر الماعز المربوط بالجدار في الخارج يناطح يده المدلاة من الشباك مناطحة غير جادة كان كلاهما قد اعتاد عليها ، أما هي؛ فقد كانت صعدت السرير على ركبتيها تفرد الملاءة و تدسها عند الأطراف ثم تمرر يدها فيستوى سطحها كصفحة ماء موجتها نسمات واهنة، ثم وقفت أمامه؛ ففهم، ونزل عن الكنبة، لتنحني لتوها تفرد كسوتها التي كانت انسلخت من موضعها و تكومت، بعضها تحته وبعضها خلف ضهره، فهو لا تكاد تستقر له جلسة، حتى أنها لم تكن تكف عن وصفه بالدجاجة التي تريد أن تبيض، وما ان انتهت من تسوية الكسوة أشارت إليه .. وبضجر قالت: (اتفضل بيض) ، وهو لم يكذب خبرًا؛ فقفز ..فعاد إلى جلسته، وعادت الكسوة إلى سابق حالها .
كانت العربة (الكارو) العامرة بالخضر و الفاكهة قد أتت .. نهق الحمار .. ونادي البائع .. وخرجت هي نحوها، بينما كان يجلس -ويده تتدلى من الشباك- يتابع صوتها وهي واقفة بجوار عربة (الكارو) تفاصل البائع في ثمن كيلو العنب الفيومي .. وتخيره بين أن يترك لها نصف جنيه أو يزيد لها الوزن ربع كيلو.
منتبهًا كان و متشوقًا لمعرفة المنتصر في هذا النزال المعتاد، و الذي كان ما يسفر غالبًا عن نجاحها في إتمام الصفة بأفضل شروط، إلا أنه و في اللحظة التي كادت المفاوضة تستقر عند أحد طرفيها، نهق الحمار نهيقًا مبحوحًا مطولًا حتى انتهي الحديث وتمت الصفقة.
دخلت عليه وبيدها الحلة وبها عناقيد العنب، وبعد أن انحنت و دفعتها أسفل السرير .. اعتدلت أمامه عاقدة ذراعيها تحت صدرها، قائلة -كمن يكمل حديثًا قد انقطع- : طلقني !
لم ينظر اليها .. لم يرد ... مد يده فالتقط جلبابه من على السرير .. دخل فيه .. ثم خرج من الحجرة .
كانت ليلة الأمس عادية .. ككل الليالي التي سبقتها .. فبعد أن سحب الأنفاس القوية من جوزة المعسل وهو جالس أمام الدار على المصطبة الإسمنتية الملتصقة بالجدار، و التي ورثها أبوه عن جده (أبو الحمايل)، ثم ورثها هو عن أبيه (وجدي)، حمل الجوزة ودخل .. ثم أودعها برفق في ركن المندرة الصغيرة .. ثم دفع الباب، و صعد بركبتيه على السرير و ارتمى .. وهي ممددة بجواره تبحلق في السقف العالي، ومن حين لآخر تطلق زفرة لافحة، أو تثني ساقًا أو تطوح ذراعًا .. حتى تستقر ـ كالعادة ـ على بطنها متصنعة النوم، وهو ـ العارف لكل ذلك ـ ينهض و ينسلخ من جلبابه ويلقي به على حديد السرير عند قدميه، ويرتمي بجسده ثانية فتتصنع الفزع.. وهو يتصنع التربيت على ظهرها كمن يعيدها للنوم.. ثم يترك يده على سجيتها لتنزل رويدًا رويدًا أسفل ظهرها.. وهي تطلق زفيرها اللافح .. لا أكثر من ذلك ولا أقل .. فينقضي الليل ويطلع نهار .
وفي النهار .. تدب الحياة في الدار بعيال تشبه الجرذان، تخرج من الجحور وتعود إليها، تنبش أو تقرض كل ما تطاله، بين صرخات ثلاث أمهات وجدة (ناشفة) كعود حطب... هن أمه التي ترملت و شقيقاته المطلقات لأسباب تخصهن أو بالأحرى تخص عود الحطب الناشف ذاك !
أتى المغرب على البلدة؛ فسكنت، وتحركت نسائم الليل.. بينما لم يزل لفح زفيرها يحرق قلبها، كانت قالت: طلقني، وكان قد دس جسده في جلبابه وخرج .. وهي (لم تكذب خبرًا ..)؛ فتسللت نحو دار أبيها ثم عادت، ولم يشعر بها أحد .
أذن مؤذن الجامع الكبير .. فصلى الرجال صلاة العشاء.. ثم التفوا قرب المحراب حول الأسطى سعد الحلاق و الشيخ سراج .. ثم تحركوا رهطًا واحدًا نحو دار (أبو الحمايل)، وفي المندرة جلسوا على الدكتين.. وهو جالس (على أزحه) يهرس قلاحات الذرة المتوهجة ويرص الحجر على الجوزة للرجال .
كانت الجوزة قد دارت دورتين.. والشاي دورين متعاقبين.. والكلام أتى من (سعد الحلاق) إلي الشيخ (سراج) : ما تتفضل يا مولانا !
كان مولانا قد ضج بالجلسة و بدخان المعسل الثقيل.. فلم يسم الله ولم يستفتح حديثه - كعادته- بما ينتقيه من آيات و أحاديث و مراوٍ بما يقتضيه الحال، واكتفى بقوله : (اسمع ياد يا مسعد .. أبغض الحلال الطلاق .. وربنا ستار .. توكل على الله وخلصنا من الحكاية دي )
كانت أعين النسوة تلمع من فرجة باب المندرة المفضي إلى حوش الدار، وقد سحبن أطراف طرحاتهن على خشومهن.. وكان الصمت قد هبط بعد أن أنهى الشيخ سراج كلمته.. و الكل ينتظر رداً من مسعد الذي كان مقرفصًا، و الجوزة بين فخذيه و الغابة في فمه.. وهي في حجرتها تلف و تدور تجمع هلاهيلها وتقلب هنا وهناك عاجزة عن سماع ما يدور في المندرة .
ـ طالق ...
... قالها مسعد وهو يفز من جلسته حاملًا الجوزة مغادرًا المندرة نحو مصطبته الملتصقة بالجدار ، ودون أن يلتفت سمعه الرجال وهو يقول : (اللي عاوزينه أعملوه .. اللي تشوفه يا شيخ سراج) .
كانت هي قد أفشت السر لأبيها و أمها حين تسللت في الصباح نحو دارهما، وكانت أمها قد لطمت صدرها وقالت بأسي: يا ضنايا ! ،بينما أبوها (سعد الحلاق) زغر للمرأة ثم قال لابنته : (ماتخربيش على نفسك..)، لكنها قالت لأمها: (مش طايقة ياما.. كده حرام)، فجلس الرجل مستسلمًا، بينما قالت هي أنها لا تريد غير عِزَالها ولكن بشرط أن يتحمل (المَخفِي) مصاريف العربات التي ستحمل العزال.. فقد اتت به منذ سنة تنقص شهرًا محملًا على تسع عربات، وهو (بيموت ع القرش) وأنها (لازم تحرق قلبه)
كان أبوها الحاج سعد الحلاق يجلس صامتًا ويرفع عينيه الكليلتين نحوها، ثم استخرج ساقه التي كان يجلس فوقها، واعتدل قائلاً: (يا خايبة يا بنت الخايبة.. عزال ايه وهباب ايه على دماغك و دماع ابوكي.. العزال اه طول عمرة بييجي في زفة وموكب.. بس بيرجع في عربية واحدة حزينة زيك) ! ؛ فبكت، ثم اندفعت الكلمات متلاحقة من فمها بلا تأدب او تفكير .. غير ان مجمل ما فهمه سعد الحلاق انها كانت تكيل له الاتهامات – وهو ابوها – بانه لم ينصفها من قبل .. فلم تنتظر منه أن ينصفها اليوم، فأسكتها بلطمة من كفه السخي ارتست على صدغها و رقبتها ثم غاصت قليلا بلا صوت !
بعد ان قال مسعد كلمته وسط الرجال الذين غادروا فورًا .. كانت حماتها وأخوات مطلقها قد جمعن عزالها في صُرَر من ملاءات السرير و الكراتين والاقفاص، يحملها العيال إلى المندرة لتتكوم فوق بعضها البعض في انتظار العربة التي ستحمل كل تلك الكراكيب والهلاليل إلى دار سعد الحلاق .
كانت الكومة ترتفع بلا نظام، وما ان انتهي العيال من الرواح والمجيئ، كانت هي تقف على تل الخراب هذا وعيناها حمراوان وتطلقان الشرر كبُصَصِ الفحم الذي يطقطق على حجر الجوزة التي كان يسحب منها مطلقها بقوة واقتدار وهو جالس أمام باب الدار.. وكأن ما يدور لا يعنيه
كانت تقف في المندرة،تدس يدها في كل صرة، او تقلب أحشاء الكراتين و الاقفاص، فتشتت عنهم بلا جدوى .. أربعة قمصان (سارسية)، وسوتيانان من الدانتيل وآخران من القطن، وثلاثة ألبسة احدهم صغير أحمر بوردة صغيرة على الجانب وأخرى كبيرة مرفرفة في المنتصف.
كان الغيط قد نال منها .. فاندفعت نحو أبيها كبهيمة.. حتى انه قد فزع وخطي خطوتين للوراء ملتصقًا بظهره بحائط المندرة، صارخاً فيها :
ـ في ايه يا بت...ايه
• عاوزاك في كلمة يابا
ـ كلمة أيه.. كلمتك اجنابك
وتحرك خارجا الي الطريق بعد ان صرخ فيها .. (حصليني)
أمام البيت كان مطلقها لا يزال يسحب الانفاس العفية من غابة الجوزة حتى تصفر و يطقطق الجمر على الحجر ، وقد لمحها تخرج في ذيل أبيها فأدار وجهه الي الناحية الأخرى، وحين كانت تمر بجواره بصقت بصقة مدوية سقطت بجوار قدمه، فلم تهتز له شعره .
اقتربت من أذن أبيها وأسرَّت اليه، وهي تشير بيديها و أصابعها لترسم عددًا او تصف شكلًا ،.. ودون أن تكمل كلامها، اندفع نحو (مسعد) :
- فين بقيت الحاجة يابن الشيخ وجدي ؟
• حاجة ايه يا با سعد !
- انت عارف !
• بقول حاجة ايه يا با سعد .. كل حاجة عندك اهي
- إخزي الشيطان وقوم هات الحاجة عيب !
لكن ابن الشيخ وجدي سحب الجوزة بين فخذيه.. وعدل النار .. وقبض على الغابة بشفتيه، ثم أخرج دخانا ثقيلًا و هو ينظر إليها!
كانت كلماتها محشورة و مختنقة بالبكاء : خلاص يابا !
ذهب سعد الحلاق لإحضار العربة التي ستعيد العزال إلى بيته، والليل يكاد ينتصف وعتمة البلدة صريحة وراسخة.. قال في نفسه: الليل ستار، وهي دخلت إلى المندرة.. حملت الكراتين و الأقفاص و الصرر واعادتها إلي حجرتها، كومتها فوق السرير و تحته .. ثم ارتدت فستان عرسها.. وخرجت و أغلقت الباب، عابرة حوش الدار -مخترقة ذهول النسوة الأربعة- نحو المندرة، و منها إلى الطريق.. ثم غابت في عتمة الليل التي أضاءتها نيران عالية تتصاعد من دار أبو الحمايل .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى