الدكتور كامل العنكود - قصة قصيرة عنوانها (ابراهيم حسن ناصر والعشق الابدي)

انها قصة قصرة اخرى تحاكي الواقع العراقي هذه المرة تتعلق بالروائي الكبير (ابراهيم حسن ناصر)معد رواية (شواطئ الدم شواطئ الملح)،ولد الروائي المذكور في قرية اسديرة وسطى الواقعة شرق نهر دجلة في الساحل الايسر لقضاء الشرقاط ،هذه القرية الصغيرة بمساحتها لكنها كبيرة وثرة بعطائها اللامحدود ،كيف وهي انجبت كبار الادباء من الروائيين والقصاص امثال ابراهيم حسن ناصر بطل هذه القصة ،وحسن مطلك معد رواية(دابادا)،والدكتور محسن الرملي معد رواية (تمر الاصابع)،وهذا الامر ليس تقليلا من شان المبدعين الاخرين في هذه القرية من الاطباء والمهندسين والتربويين والقادة العسكريين اطلاقا،بل لان قرية (اسديرة)ارتبطت باسماء اولئك الادباء ،فعندما نذكر شواطئ الدم شواطئ الملح ينصرف الى الذهن تلك القرية التي يمكن وصفها بالقرية العجيبة ان جاز التعبير والعكس صحيح تماما وكذا الحال بالنسبة ل(دابادا) لمعدها حسن مطلك،انهم بحق من عظماء هذه القرية -
ابراهيم حسن ناصر هو من ابناء عمومتي ولم يكن صديقي المقرب بشكل مباشر فهو يكبرني في العمر بخمس سنوات،كانت تجمعنا الصدفة والعفوية وهو امر طبيعي في قرية صغيرة حيث لاتوجد حواجز او موانع تقف حائلا امامنا ،لابل ان بيوتات القرية كانت بلا اسيجة دليل النوايا الطيبة همهم الوحيد ان يتشبثون بالحياة وينعمون بالامن والامان ليس الانسان فحسب بل (الحيوانات)ايضا ،فعندما تمشي في شوارع القرية او احد ازقتها الضيقة وتنظر الى احد البيوت تكاد ترى افراد العائلة كلهم ولاضير في ذلك -وفي يوم من الايام كنا نتمشى انا وابراهيم حسن ناصر،انذاك لم يكن صيته قد ذاع في الاوساط الادبية وليس لدي ادنى علم بان له اسهامات ادبية قط ،واثناء مسيرنا سالته وكنت قاصدا في توجيه مثل هذا السؤال لانني سمعت من قبل عن ثمة علاقة غرامية تربط ابراهيم ب(ايمان)وايمان هي احدى المعلمات الموصليات اللاتي اتين الى القرية لتعليم ابنائها ،قلت له ماعلاقتك ب(ايمان)؟صمت برهة وقال انها بالنسبة لي(عاشقة ابدية)ثم قال لي وانت ،ترددت في الاجابة قبل ان اقول له(لاادري)اصابني الحياء في تلك اللحظة فمن الصعب علي ان اتصور ان رجلين يعشقان امراة واحدة في نفس الوقت -ومضت الايام وشاءت الصدف ان نلتقي في بيت عمي(محمد خلف العنكود)رحمه الله ،كان هذا البيت الطيني مفعما بالنشاط اذ كنا نقرا بعض الصحف والمجلات والروايات والقصص ،وكان لبعض افراد عائلته اهتماما ادبيا ملحوظا والى يومنا هذا ،كنا انا وابراهيم في تعلولة عراقية او كما نسميها بالعامية (تعليلة)وعادة مثل هذه الجلسات ان لايكون حوارها منتظما،بل تتناول موضوعات مبعثرة تدور بين الجد والهزل والفكاهة والنكتة ،كان يجلس الى جانبي (ابراهيم عجيل علي)الذي رحل عن هذه الدنيا قبل عدة اشهر اثر مرض عضال ،نظرت اليه وتاملت وجهه كثير الاحمرار وخاصة خدوده التي كانت اكثر احمرارا من غيرها ،رايته ياكل بعض من الرقي ،فقلت له هل ان وجهك احمر بسبب ما تاكله من الرقي الاحمر فاجابني نعم ،لم اكن في حينها اتصور انه يمزح معي ادراكي للامور لم يكن كبيرا -استمرت التعليلة وقال ابراهيم حسن ناصر اسمحوا لي ياجماعة ان اقول كلمة(قد تكون هذه اخر تعليلة او لقاء معكم لانني عندما اذهب الى(الفاو) ساموت حتما ؛كان حينها ضابطا مجندا (احتياط)في الخطوط الامامية لمعركة الفاو ،فقلت في نفسي ان ابراهيم مصاب بالهوس كيف يتوقع الموت الحتوم وهذه امور غيبية لايعلمها الا عالم الغيب والشهادة ،لكنني ادركت فيما بعد انه يمتلك حدس ودهاء كبيرين لما كان يرى من ضراوة المعركة وشراسة القتال وكما يصف في روايته التي نشرت بعد رحيله (وجوه محدقة في موتى وموتى محدقون في موتى)،نعم اصاب حدسه وتوقعه بالنهاية ،فقد سمعت بعد ايام قلائل انه اصيب في المعركة ونقل الى مستشفى الرشيد العسكري ولم تمض الا اياما معدودة حتى رحل ابراهيم شهيدا ،وكنت من اوائل الواقفين على جنازته في بيت اعمامي (الحسن الناصر)،وكان من عادة اهل الشهيد ان يفتحوا التابوت ليتاكدوا ان الميت هو نفسه لاغيره ،والقيت عليه النظرة الاخيرة وتاملت وجهه وابتسامته التي لم تفارق محياه حتى وهو شهيد وكانني به يقول(لعن الله الحرب التي قتلتني ايضا)وبعد ان دفن ابراهيم في مثواه الاخير اصيبت العشيرة بالذهول والحسرة لانها فقدت احد ابنائها المخلصين لها،لا كما يصف ابراهيم ذلك المشهد في روايته(حين اموت تخرج العشيرة في جنازتي فزعة ،وتعود ادراجها ضاحكة)،اننا ياابراهيم موجوعون ومفجوعون مذ رحلت عنا كما فجعنا من بعدك برحيل حسن مطلك ولازلنا نفجع اليوم باخرين بسبب الحرب والاقتتال ،لابل ان قريتنا فجعت هي الاخري وارتدت ثوب الحزن منذ رحيلكما،وهكذا انتهت هذه القصة برحيل بطلها والى قصة اخرى وبطل اخر استودعكم الله والسلام عليكم ورحمة منه وبركاته
بقلم الكاتب/
الاستاذ الدكتور
كامل العنكود
أعلى