حوار مع المبدع المغربي المغترب احساين بنزبير.. أجراه محمود عواد. لصحيفة "الشارع المغاربي" التونسية.

* س1-: في أي بقاع يقيم الشعر، وهل يموت حين يغادر الزمن الممتد بين الحاسةِ وموتها؟
> ج1: كتابة الشعر تقيم في الأثر الذي يتربص بالزمن. لا زمن بدون أثر. بدون أشباح رمزية تتكلف بالزمن. ربما، الزمن رهان شعري أو لساني يتكلف برقعة الزمن كمفاصلة عليا في ممارسة الشعر. إنه النهر المديد الذي له موجة خصوصية. ثم هل للنهر موجة؟ وهنا تكمن صعوبة الشعر وهو يفكك ما يكون وما لا يكون. ثم الحاسة لا تموت لأنها متجددة حتى في موتها، إن حدث ذلك. الغريب في الأمر أن الإقامة الشعرية لها معمار فكري عميق. المسألة مسألة سفر بين السماء والأرض، بين الولادة والموت، بين الفرح والألم، بين العمل الإبداعي والكلام. ثم يكون الشاعر في العالم. وما العالم إلا منزل يسكنه الهالكون، أي البشر. العالم الإقامة فجوة متعددة فيها يمارس الشاعر رغبته اللسانية في حياة تفقد التوازن كما الشعر. والحيز الذي يؤثثه الشاعر بصعوبة. والحاسة تسبح في موجة تفكر العالم والمنفصل عن الذات، في آن.

* س2- بين المغرب وفرنسا، كيف استطعت التعامل مع جسدك الشعري، وهل أصبحت اللغة بديلاً عن مسقط الرأس؟
> ج 2: الشعر عموما كتابة مسكونة بالجسد كفضاء عظيم في توتره وطمأنينته. الجسد الشعري جسد حيوان سياسي يفكر. أرسطو هنا يحضرني. نعم الجسد حدس لا نهائي أي لا حصر له اللهم في سيل هادئ. الشاعر، حتى وهو بين فضاءين، يكتب في سيله الخاص والخصوصي والمبني للمجهول. السيل في الكتابة ميزان لا توازن له وفيه. ومن هنا، يستطيع الشاعر أن يكتب في الما-بين: الشدفة المفتوحة على إعادة النظر في الهنا والهناك. حيث مسقط الرأس يصير أحيانا بقعة صمت فيها بركان وثورة جهيرة لأنها تتأمل لتمشي رأسا إلى الكتابة. مسقط الرأس هو اللغة ّاتها، حتى لا أقول إنه اللسان السري. في الما-بين الشعر يأخذ هيئة أو وجها منجميا بامتياز. وكلما شرع الشاعر في حفر أخاديده زاد جهله، لأن الشعر مهنة جهل بامتياز. والجسد يقطن قشرة العالم كحدود للمعنى المنفلت دائما ودوما.

* س 3: الشعر تنديدٌ حواسي بعقلية اللغة، ما نسبة توافقك وهذا الرأي، وما مصير الشاعر في حال هيمن العقل على الحاسة؟
> ج 3: قد أغير سؤالك قليلا. أستبدل التنديد الحواسي بالحادثة كما لو حادثة سير. وأستبدل العقل بالقلب. لأننا بشكل أو بآخر كائنات حواسية. ألسنا هنا نتخبط في الإدراك كقدرة للقرب من العالم من أجل الشعر؟ الشعر يندد العالم عبر وبلغة تسكن حدود القلب. وهنا، يتعلق الأمر بالقلب الشعري بدل عقلية اللغة. لا عقلية لغوية بدون قلب شعريٍّ لأن القلي يحرج اللغة في الشعر. القلب عوض العقل. لا بد إذاً استحضار جاك دريدا الذي يسمي القصيدة ذلك الشيء الذي يعلِّم القلب لا العقل، الذي يخترع القلب من خلال إدراكه. وقد يكون الشعر محاولة تكتفي بتسمية الحواس عبر القلب الشعري حيث النبض ووِلادة الإيقاع. حتى مصير الشاعر في حاجة إلى القلب كمحرك أساسي في ديمومةٍ هالكة لا محالة. الشعر لا نعرفه حقيقة. يحفر أخاديده فوق بركانٍ من قاموس غريب. الشاعر يكتب العالم بحواسه المبنية للمجهول لكن بعين القلب والسؤال. الكل وهو يمارس مهنة الجهل التي لا راتب لها. يتكور. هو الشاعر حتى لا يهيمن، ويفتح فجوة من أجل وضوح الليل الشاعري.

* 4: كيف تمكنت من الوقوف على حدّي الحاسة، سيما وأنك جمعت بين ترجمة الشعر وشعرية الكتابة؟
> ج 4: "الشاعر المترجم؟". السؤال. ثم يتعين علينا الحذر. الشاعر المترجم. أي أن الشاعر يكتب الشعر ويترجم. حتى لا نقول إنه يكتب الترجمة ككتابة. ثم مرة أخرى، كلمة " الحاسة " تعود من جديد. يجب التوضيح بأن الترجمة شيء أكبر من الحواس، الترجمة تحتويها وتمارس تذويبها. ما هو الشاعر-المترجم؟ أو مَنْ هو؟ الشاعر-المترجم يبحث عن زمنٍ ما ليتمتم في لغة ثالثة (الترجمة). الشعراء-المترجمون يبثون إشاعة عبارة مفادها أن ترجمة الشعر هبة القصيدة. وكأنهم يريدون تقديم هدية لغوية للغتهم عبر لغة الآخر. يحاولون تمرير شيء غريب يسمى الترجمة كسماء للتفكير والتشويش الصحي. ثم ما الذي يعني الجمع بين الشعر وترجمته من لغة أخرى؟ الجمع بينهما خسارة لسانية. المترجم يخسر لغة النص الأصلي ويخسر أيضا لغته هو. كل ما يبقى في هذه العملية، كتابة باليد اليسرى. اعوجاج وتمتمة يفبركان متنا محبوبا ومنبوذا في نفس الآن. الغريب في الشيء، أن المغامرة تتهيأ تحت غيمة حداثية في الترجمة. الشاعر-المترجم يحتوي لغة الآخر بسلاح هش لأنه قابل للكسر. الكسر هشيمٌ وتفكيك. الشاعر-المترجم لا يهادن لأنه يكتب الترجمة في حرب لسانية. لأن اللغة لا تنتمي إلى أحد. لذلك الترجمة خسارة. وحين نترجم، نحاول الدنو من الخسارة السيدة حيث المغامرة ترسم كتابة ثالثة وغريبة ومقلقة. الجمع بين الشعر وترجمته يشبه القيء عبر أنف السماء على حد تعبير جورج باطاي. ثم ألا تكون الترجمة كما لو طاقة مكهرَبة أو حامض نووي للكتابة. ثم يسقط الشاعر-المترجم في ما لم ينته من ترجمته. عملية نقول إنها، على لسان الشاعر فيليب بيك، " رسمة المبعَدين/ والمنجرفين الصغار/ عبر وسطاء راشِدين. "

* 5: يقول هيدغر في دراسته عن هولدرلين، كل الناس يكتبون شعرا، إلا الشاعر يكتب لغة، السؤال: هل المقصود باللغة هنا الذهاب إلى القصي والمستحيل؟
>ج 5: لم يتوقف هيدغر في معظم مؤلفاته عن مساءلة ماهية اللغة، علاوة على وظيفتها التواصلية. هيدغر يفكر في اللغة مع هولدرلين ليفلسف ما يتكلمه الشعر. اللغة في فلسفته مسكن الكائن أو منزله. حيث علاقة الإنسان بالكائن لا تمر بالضرورة عبر اللغة بل هي اللغة نفسها. وإذا قرأنا دراسات هيدغر في الشعر وعن قرب، نكتشف أنه يحاول فهم الكائن عبر الزمن الشعري. زمن اللغة الأصلية هي لغة الشعب أو الحشد الذي يكتب. وهنا المفارقة الغريبة. الشاعر الذي يكتب لغة يخلق وصلا مع الكينونة في العالم وداخله. لغة الشاعر حسب هيدغر هي التي تتكلم (تكتب) هي تلك التي تتخلص من ناطقها. لذلك الشعر يكتب لغة غير لغة الناس الناطقين. ويجب أن نذكِّر أن هيدغر لم يكن يهتم بالجانب الفني أو الأدبي للشعر، بل ما يهمه كثيرا هو ماهية الشعر. إنها نظرة الفيلسوف الذي يقترح مستويات من القراءة. عكس دريدا الذي كان لصيقا بجمالية النص الشعري. لذلك في جملة هيدغر مفارقة غريبة فعلا. هيدغر في مقارباته للشعر أكثر انغلاقا من دريدا. هذا الأخير وسَّع مضايق اللغة الشعرية ليفككها في آخر المطاف. ربما نطرح السؤال الهيدغري بشكل آخر: ما طبيعة اللغة التي يكتبها الشاعر؟ لغة الشاعر فيها لغات متعددة، فيها لغة تعمير لساني من وقت وزمن آخر.

370278215_7124196300964812_5768983412335806473_n.jpg

* 6: في كتاباتك الجمالية والفكرية ثمة اشتباكٍ واضح بين الفكر والشعر، هل في ذلك مواكبة لراهن الكتابة المعاصرة، أم هو استجابة لشبقٍ ذاتي مخيالي، أدى إلى انتاج عوالم متفردة؟
>ج 6: ثمة دائما الفكر حاضر في كتاباتي بشكل عام. ببساطة، إننا نفكر ونحن نكتب الجملة مثلا. مسألة نزوع وميل نحو الفكر. ثم الجماليات تنادي على الفكر لتحلل دهاليز المتون الفنية. وهذا الترحال بين الشعر والفكر ليس تصنعا أو تكلفا. بل هو تركيز على نقطة احتدام في اللغة شعرا ونثرا. ربما نقول إن الضمير المتكلم (أنا) الذي يمارس الكتابة، يتحول إلى حوار. " أنا حوار ". والضمير المتكلم الترحالي يحاول أن مراجعة الأنا الحوارية لتصير النحن الحواريون. " نحن حوار ". وحين يراجع، يدقق. التدقيق عملية سفر كما لو الرعشة النصية التي تفكر في الآن والهنا والهناك. لأن العالم يَعْبُرُنا. وعبوره يستجوب فطنة الكتابة حتى لا تسقط في سوق السهولة. ما علينا إلا أن نقرأ ما ينشر حتى نميل جهة الفكر الصعب والغامض والليلي.... هنا شيء ما يحدث: الكتابة تفقد التوازن. أما الكتابات التي قامتها منتصبة تبقى في مكانها سجينة نفسها حيث لا عزاء ولا قضاء.

* 7: من يقرأ نصوصك بتفطن وامعان يرى بأن الشعر بالنسبة لجسدك هو نضيدة حواسية، ما مصير ذلك الجسد، في حال نفدت طاقتها؟
>ج 7: بشكل أو بآخر، الجسد نقطة مهمة في الكتابات المعاصرة. الجسد محرك لا لون له في الشعر، في النثر الذي ينمو ويزدهر ويتغالى في أسئلة شائكة. النفري، دانتي، المعري وآخرون كتبوا الجسد، ولم يكتبوا فيه أو عليه. المسألة مختلفة. وفي هذه الدائرة المفتوحة إمكانية الكتابة بشكل مخالف. حتى في الفن، نفس الإشكال حاضر بقوة. والجسد لا ينفذ في الكتابة لأنه طاقة متجددة: ماء اللسان واللغة. فعلا، طاقة ولو كانت يائسة، تدوم في الرغبة الإبداعية التي تخفر أخاديدها. الجسد عصارة الخيال والفكر، وليس لفافا أو جِراباً. ثم كيف التعبير شعريا على الجسد؟ كيف تحتويه جملة في البحث عن فونيمٍ؟ إنه الجسد. وهنا أفكر للمرة المليون في النفري العظيم. كتب بجسده جسد اللغة عبر عربية ثالثة. الجسد مهم لأنه عين الروح ونافذتها. والجسد بالتناوب في النصوص الإبداعية هادئ، هوائيٌّ، محموم، متعذب، ممزق، متهلل، أو يضمر نارا في أحشائه. أحيانا نكتب الشعر وجسدنا في محبرة معاني وصور واستعارات غامضة، بامتياز.

* 8: ما الإيقاع الذي أثارك في الشعر، اللغة أم محاولة الانقلاب عليها جسدياً ، وكيف جمعت بين الاثنين معاً ؟
> ج 8: كل شيء موجود في حاجة إلى إيقاع من أجل ضبط الخطوة ولو في السقطة. وكل إيقاع في حاجة إلى موسيقى جهيرة وخفيضة. وهنا القلب الموسيقي يقيم فجأة في بطن الإيقاع الشعري. " الشعر في موسيقاه ". النص الشعري، أحيانا، أو النص الخارجي هنا، يستطيع أن يعثر على موسيقى ممتصة كمادة ابتزازية تخلق إيقاعا لا بد منه في كتابة الشعر والنثر. الموسيقى في الشعر هي رغبة إغراء/إغواء تتقدم في طبيعة الشعر الحالم بإيقاع. وهنا تحضرني جملة لبودلير حيث كتب: " أحلم بنثر موسيقي بدون إيقاع وبدون قافية ". الأمر غريب. مفارقة فعلا. نثر موسيقي، نعم. بدون إيقاع. حيث هذا الأخير عمود فقري للبحث عن شعر يستعيد موسيقاه الخارجية وليست الداخلية ليلتقط ما العالَم يقوله لنا تحت سماء الفكر والإيقاع (الفكر إيقاعٌ). وحين نتطرق إلى الإيقاع، لا يجب أن ننسى أهمية الجملة في توليد موسيقى إيقاعية. الأذن تكتب عبر اليد لتترجم حواسا ربما. القادم في الشعر إيقاع الخارج يسقط في مغارة الموسيقى الشعرية، من طبيعة الخال والشعر.

* 9: الترجمة: هي تلاسن حواسي تحت رعاية اللغة، على هذا الأساس يكون عمل المترجم تأليف جسدي أكثر منه لغويا، وهذا ما بدا واضحا في مشاغلك الشعرية والفكرية. فهل تسعى في ذلك إلى الذهاب بالنص الأصل إلى تمجيد الاحتفاء بغموضه الجسدي، بعيداً عن المكينة اللِّسانية؟
> ج 9: كما ذكرنا أعلاه، الترجمة جسارة شوساء. حين نترجم كما لو أننا نشطب على لغتنا الأم لنصحح لغة الآخر بلغة ثالثة. ثم الترجمة تتطلب الكثير من القراءة والبحث اللغوي أيضا. الترجمة ترميم ما لا يمكن ترميمه، أي أننا نترجم ما ينقص فينا كقراء أولا. ثم تلك الغرابة في طيات لغة المترجم تحوم حول اعوجاجات ترجمة تليق كما يرام. وغموض الترجمة هو دائما احتفاء وعرس وقلق إبداعي وصعوبة نزيهة. كل هذه العناصر تدفع بالترجمة أن تكون فكرا. ألَمْ يقل الفيلسوف الفرنسي جان-لوك نانسي إن " الشعر تشنج أو إغماءة اللغة ". جملته عميقة جدا. الترجمة بهذا الشكل تصير تشنجا في إيقاع الترجمة اللغوي. الترجمة تتطلب أيضا آليات اشتغال مختلفة: القراءة والإنصات إلى النص الأصل والدخول فيه وفهمه وإدراكه والتقاط التمتمة فيه. ربما نعترف بمحنة المترجم وهو يسبح في لذة كتابة الترجمة. ومن هنا نبوءة دريدا: ترجِمْني وشاهِدني حتى أبقى أطول قليلا. وزن الترجمة وزنٌ فكري لغويٌّ.

* 10: في الشعر كما السينما، يحضر المكان بإيقاعه الزمني ، وهذا خلاف ما يحدث في أدب اليوميات ، وفن الرواية ، ولأنك من مدمني نبيذ المخيال : الشعر ، حدثني عن علاقتك بالمكان ، وهل الشعر فن مكاني أم مربي فراغات في رأس العالم ؟
> ج 10: كلما سمعنا كلمة " مكان "، نستحضر شعر ما قبل الإسلام. شعراء هذه المرحلة استطاعوا كتابة المكان شعريا بلغة قوية ومتفردة. شعر الوصف اللامجاني. وصف دقيق إلى حد السمو اللغوي. المكان يخترق مخيلة الشعراء والفنانين. السينما خصوصا. لأنها تكتب المكان بالعين. وتقتضب العالم بالضوء والعتمة. بينما الشاعر بكتب المكان بيده التي ترتعش. حالة تماس، ليس إلا. ثم كيف للشاعر أن يحتوي المكان لغويا؟ عبر الصور. عبر الترجمة. عبر الصمت كحيز ضروري لتوسيع فكرة المكان وتحويره وتدويره. ثم يتوجب على الشعر أن يكون بيداغوجيا ليربي. وهذه نقطة مهمة. المكان في حاجة إلى بيداغوجية شعرية لنكتبه. أحسن مثال على ذلك شعر ما قبل الإسلام. أو كتاب من صنف جورج بيريك الذي تفنن في القيض على ماهية الأمكنة. ولقد كان مهووسا بالسينما. المكان ثقب لساني وحركة مستعادة من محاولتنا لفهم المكان الذي نسيناه بشكل غريب. ثم فجأة الشعر يغازله ويغتصبه كما فعل ذلك دريدا باللغة الفرنسية وهو يتفلسف.

* 11: بعد كل هذا السفر بين الأطراس الإنسانية والشعرية، ما الذي يشكله المغرب لديك؟
> ج 11: بضمير المتكلم "أنا" أجيب. دائما، أتحاشى أن أقول شيئا في هذا الموضوع. أعيش المغرب في صمت مقلق، في رجة أكتبها وكأنني أرتكب جريمة. وفي قرارة نفسي، مسقط رأسي له مساحة ضخمة في جسدي. كأنه الوشم الأمومي أو رائحة القطران مثلا. ثم طفولة الذكرى. وهل نبقى فعلا أطفالا في الشعر أو الكتابة عموما. المغري بركان هادئ فيَّ. أعيشه وأكتبه وعيناي منغلقتان عليه. حتى في حياتي اليومية، أتحاشى الموضوع لأنني فيه. يجيء ويغيب. وفي هذا الذهاب والإياب تحدث أشياء فوق زربية مسكونة بالصمت الأبدي الرائع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى