محمد محمد مستجاب - قرية ليس بها رجل.. فصل من رواية

الفصل الثانى
بنات الحور:
هن سبع بنات، ظللن دهراً يعملن حول هالة القمر، مرة كل حول، كبراهن تخلع نصف ملابسها وتزغرد، والسادسة تخلع كل ملابسها وتتشاكس مع الخامسة، والخامسة تخلع ملابس الرابعة وتتضارب مع الثالثة، والأولى تهذر هذراً ثقيلاً مع الثانية حتى تبكيها، وبين أكوام الملابس ومواء العاريات وعبثهن، كان القمر يحتقن خجلاً، ويضطرم وجهه حمرة وارجواناً، فيضطرب النور وينهمر جزعاً ورحمة وأمل وبصيرة، ثم يبتلع الغبار الدموى المضطرب أنينا، حتى تغمر العتمة الكالحة القرية – عتمة دون قمر أو نجوم.
حينئذ تنتبه قريتى إلى ما حاق بقمرها، فتفزع إلى صفيحتها وحللها وكيزان أزيارها، تطبل وتزمر وتزغرد وترقص وتتوسل كى تفك بنات الحور الحصار عن القمر، فيهتز ويرتجف ويرتعش القمر على وقع الضجيج المرح الغاضب المتوسل السعيد، وتتقافز بنات الحور حوله، مرحة، شيقة، شبقة، تخوض فى هالته الدموية، حتى يصلن ذروة المتعة، فيتهالكن، ويركن، وينسحبن، ويتفككن، ويتبخرن، ويبدأ نور القمر فى الوضوح والتماسك والسطوع، ليصبح: صبرية.
***
1
أنت لا تعرف صبرية.
لكنى بالحتم – أعرف صبرية.
وأعرف تلك اللحظات الساحرة التى طافت فيها فوق أفاق الجماجم كى تتسلطن، ويقترب جسدها الفاتن، ووجهها الباسم من جلسات قريتي: نساء ورجال وأطفال، صبرية التى مثل جميع النساء، تمتلك أفخاذ وسُّرّرة ونهدين وعنق وقلب وأجمل وجه فى الوجود.
أنت لا تعرف صبرية.
لكنى.. من المستحيل ألا أعرفها.
وأعرف كيف قلبت حال الرجال، وأصبحت أمنية الشباب، وأشعلت غيرة النساء، وكيف كانت تنطلق الأقاويل عن قدرتها الفائقة فى إثارة كوامن النفس، وقدرتها الفريدة على مداهمة مضاجع رجال قريتى، وتدمير أحلامهم، وكيف كان أطفال قريتى يفتعلون البكاء والصراخ كى تربت صبرية على أكتفاهم وتلعب فى قرون شعورهم ثم تمنحهم قبلة من شفتيها المشتعلة.
أنت لا تعرف صبرية.
لكن.. من الجنون ألا أعرف صاحبة التكوين الساحر الفاتن الشرس أينما وجدت، المبتسمة لجميع الوجوه، تلك الابتسامة الرقيقة المدغدغة لكل الحواس، صبرية: الخجلة فى حياء العروس ليلة الدخلة، الجميلة كالرغبات القديمة، الخالدة كقصص حبنا الأول، المراوغة كالأحلام، الصادقة كمزاعم القديسين، الماكرة كالصحراء، القوية كالأطفال، الحارة كقميص امرأة منهوكة.
قال لها أبوها: ستصيرين أنشودة. ثم مات، وقالت لها أمها: ستصبحين أسطورة. ثم ماتت، وقالت لها امرأة عجوز: ستظلين بكر. أى بنت بنوت، وقال لها عجوز تزوج كثيرا: أدفع كل عمرى وأعود شاباً. كى أتزوجك، وقالت لها الشمس وهى تبكي: أنت أشد منى حرارة. وأقوى من أشعتي، فخلقك الله كى تفتتى ظلام الليل.
ورحل الجميع، وسحبت الشمس أشعتها، فبدأت صبرية التحرك على أرض قريتى، ترعاها جدتها وأهل القرية.
وصبرية - دائماً - مشدودة حول رقاب القرية، مشدودة، ومنصوبة فى ساحات عقولنا، تتربع على الفؤاد والكيان وتعاريج الجماجم، صبية تتسلل هامسة ناعمة تتلوى بين الأفواه والآذان، محملة بتفاصيل جسدها الفاتن، وردود أفعالها العجيبة، وكلماتها الرقيقة، ونظراتها القوية الخجلة، وكان القمر، يبتدر، ويتهلل، ويتفتت، ويكتمل بصفته قمراً مكتملا ناصع التألق فى استدارة خدود صبرية، ويزداد حيائه، وخجله، عندما يلمع ضوئه فى بريق عيونها السوداء الغارقة فى الكحل، يصادقها ويلازمها خلال مراحله، فيبعث فى جسدها حمى الجمال، وفى جسد قريتى نيران الاشتعال.
تتحرك صبرية على وجه الأرض، قبل أن توقظ أشعة الشمس الواهنة القرية، وتنشغل فى أعمالها اليومية: حلب البقرة، التحسيس على مؤخرات الفروج، وضع المياه وبقايا الخبز الجاف للحمام، خض القربة، تغير مياه الزير، كنس صحن الدار ومدخله وعتبته ثم رشهم بالماء، بعدها تبدأ فى تبخير الدار وقراءة مقدمة عدية ياسين والمعوذتين التى حفظتهما منذ أيام تعلمها فى كُتَّاب الشيخ راشد، ثم تقرأ الفاتحة على روح أمها وأبيها الذى التهماهما الوباء فى عام أسود على الجميع، ثم تصعد لسطح الدار لنشر الغسيل وتجفيف الكشك، وبعد ذلك تذهب وتستحم بماء الورد، ثم تعد الشاى وتضع عليه اللبن وتذهب به مع بعض قطع الفايش لجدتها، التى تكون قد انتهت من ركعات صلاة الضحى.
- صباح الخير يا سيتى.
- صباح الخير يا بنت ولدى. ربنا يطرح فيكِ البركة. وأشوفك فى بيت العدل.
- أنتِ عيزانى أفارقك يا سيتى.
- يا بنتِ الواحدة منّا مالهاش غير دارها.
وبعد تلك الكلمات، تقبّل صبرية كف جدتها، ويكون الوقت قد حان لخروجها من الدار.
2
كان فى الجو نسمة هواء مشبعة بالبرودة التى يستلذها الوجه، وجه مشرق حنون كوجه صبرية، وفى السماء تناثرت قطع من السحب الرقيقة، تسير صبرية زاهية الحواجب والشفاه والنهد، العيون المتسعة التى تشمل الكون، تشع منها رائحة ماء الورد، تتلذذ أشعه الشمس بالسقوط على أديم وجهها ورموشها الطويلة، فتبتسم صبرية، حينئذ تبدأ الحياة فى قريتى.
وكل خطوة تخطوها صبرية مراقبة: من عيون النساء قبل عيون الرجال، يشاهدوها وكأنهم يشاهدونها لأول مرة، والجميع ينظر إليها بعيون متسعة جائعة، دون أن نخفى ما فى القلب من رغبة جامحة فيها، لكن ما كان يعنى القرية: جسد صبرية، جسدها المهتز الضاحك المغمض العينين، المغروز داخل خلاياه ألف رغبة ومليون اشتهاء، وأن تلك الأشياء عندما تتحرك لا تسرى بل تضج، لا تنساب بل تتقافز، ليست من الداخل بل على قمم أجهزة الحواس الخارجية، على الأذن والرموش والحواجب والأنامل والشفتين، حتى عنقها الطويل كعنق الغزال، وتناسق ثدياها البارزان، وما ترتدى هذا الصباح، مع أن جلبابها نادراً أن تغيره، وطريقة ربط الطرحة على رأسها، ومدى اللتماعة عيونها وكحليهما، وغمازات خدودها وتوردها بعد أن كانت حمراء، واكتنازه شفتها وتلك النمنمة الموسيقية فوقيهما، وتستمر صبرية تسير غير عابئة بعيون وهمس القرية، ويستمر ماء الورد الذى يفوح منها جاذباً أنوف الرجال والنساء، والخلخال فى قدميها يتلألأ ويعكس ضوء الشمس.
لكن طفل أوقفها كى تقبله بدون سبب، فضحكت صبرية فى حبور وقبلته، حينئذ بدأت الإشارات الفجة الحمقاء من بعض الرجال، وصبرية لا تهتم بمثل هذه الأفعال، وأن كانت تضايقها، فلا أحد ينسى عندما اشتكت صبرية من مضايقات هذا القادم من العاصمة لأبيه الثرى المهيب، فما كان من الرجل ألا أن قام بربط ابنه فى دكته أمام الدار وانهال عليه بالعصا حتى أنقذه على آخر نفس ذوو القلوب الرحيمة، ليعود القادم إلى العاصمة: يحكى عن صبرية وجمالها وجسدها وعلقتها، ويترك القرية تحكى عن شجاعة صبرية وروُحه المتألمة.
وظلت صبرية تسير فى طريقها إلى السوق، لكن نملة كانت تتسلل وتسعى صاعدة ساق أحد الرجال، فرفع جلبابه وبدأ يهرش، حينئذ اضطربت صبرية، ثم توقفت ورفعت حاجبها مندهشة، وأغلقت عيونها فى بطء وقالت:
- هذه قرية ليس بها رجل.
تضاحك الرجال وضرب أحدهم قفا الآخر، وقام آخر بإصدار صوتاً فاحشاً من فمه، وواحد رفع جلبابه كاشفاً عضوه، فأجفلت صبرية، ثم اتسعت عيناها لتمتص المشهد كله، ثم بصقت على الأرض واتجهت لحال سبيلها.
3
كان تصريح صبرية قد تناثر فى الهواء الطلق، حتى حط على جريد النخلات على مدخل القرية، فبدأت فى إطلاق الرصاص فى ثوب هذا الصباح.
واليوم - يوم السوق، يوم الزحام، يوم جبر الخواطر والسرقات والفضائح والآكل والمساومات والصراخ، وصبرية، تحب هذا اليوم، حيث لقاء الناس والكلام فى أى شيء، والاصطدام بالمقاطف والحصير وأعواد القصب وآكل الطعمية، ومقابلة أشخاص لن تراهم فى طرقات القرية، كما أنه يوم الاتفاقات والرغبات وقضاء المصالح.
عندما دخلت صبرية السوق، كان الهمس قد أصبح طنين وتحول الطنين إلى لمسات واحتكاكات واضحة، رداً على إعلانها الذى يمس رجال القرية فى مقتل، حيث بدأ رجال القرية – كلٌ بطريقته - فى تدمير إعلان صبرية: قرية ليس بها رجل، بينما تحاشى بعض الناس لقاءها.
وبدأ الرجال والنساء يحتكون بصبرية، بدون داعي: عصفور صاحب دكان العطارة خبطها على مؤخرتها، وفرغلى أبو أحمد الذى يسرق كيزان الذرة كى يبعها فى السوق خبطها بجواله الممتلئ فى صدرها، وعبد البصير الأسمر الضخم والذى لا يمكن تحديد سنة أو عمله أو الطريقة التى يتكسب بها، افتعل شجاراً أمامها كى يشم ماء الورد النافذ من جسدها، بينما زكى صاحب غرزة المعسل جعل صينية مشروباته تلامس جنبها الأيسر، وعثمان – ذلك الذى اصطاد أكبر قرموط فى الساقية، رفع حواف جلبابها بالصنارة، ووديع الطيب الساذج، الذى يضع القرش على القرش حتى يصبح زكيبة نقود، أوقع بعض النقود أمامها وبدأ فى جمعها حتى يتفرس فى وجهها، ثم قامت ثريا وإنعام باعتى الجبن والملوحة بإلقاء بعض الكلمات الخارجة عن الحياء بالقرب من أذن صبرية، وأثناء مرورها من أمام شادر الجزار سيد غزلي، وقف خضر تاجر البهائم ووضع يده فى صدره وقال: اليوم- يوم السوق، يوم الدبح، يوم الطبيخ الأحمر، ومتى نأكل اللحم، وكانت نظراته تلتهم وتمزق فى جسد صبرية الناعم البض، حتى جامعى ثمار التوت حاولوا إبراز رجولتهم وتأكيدها.
لكن صبرية لم تعر كل هذا أى اهتمام، قضت مصالحها من السوق، ورفعت مشنتها ووضعتها على رأسها واتجهت خارجة من السوق والزحام والهمس، لكن العمدة ألتقى بها على باب السوق، ونظر لها نظرة فاحصة - وكان إعلانها الصارخ قد وصله – حيث كان وجهه محتقنا وغضباً وقال لشيخ الخفر بجواره: سبب هلاكنا.. نساء قريتنا.
فابتسمت صبرية، ابتسامتها الرقيقة المدغدغة لكل الحواس، وعبرتهما وخرجت من السوق.
4
كان هارون دائماً يلتقى بصبرية فى قاربه، لم يحدث أبدا، أن التقى بها فى شارع أو رأس غيط أو السوق أو طاحون، يلتقى بها فى القارب، فى اهتزازة القارب الناعمة، حيث تتعلق عيناهما، وتظل معلقة وهو يجدف من بر إلى بر، يربطاهما هذا الإحساس الناعم الحزين المتشابك المتعاشق المتوجس المرتعب الشاعري، والمأساوى أيضا، فالقلوب دائماً تخاف من الغد، وصبرية وهارون، يخشاه، كما يخشاه كل الناس، مع أن هذه اللحظات البسيطة، كانت تملأ روحيهما بالحياة والبهجة.
وجميع ركاب القارب يقرأن لغة العيون بين هارون وصبرية، فيبتسمون، ثم تميل امرأة على أخرى ويضحكن، حتى لا يلاحظ هارون عيونهن وابتسامتهن، فيزوم هارون ويقول: لا إله إلا الله، فتتراجع النسوة وتتباعد ثم تلتقى وترد أحداهن: محمدا رسول الله، فتضع صبرية طرحتها على وجهها فى خجل وتخفى ابتسامتها المشعة.
كان شاطئ هارون خالياً من ركابه عندما جاءت صبرية، فاستقلت القارب لوحدها كملكه، وكان هارون سعيداً بها، واستمر هارون فى التجديف والنظر فى عيون صبرية، لكن عيون صبرية لم تستطيع الصمود فأجفلت، ثم سألته عما إذا كان فى ترعته غيلان وجنّيه يلهو معها طوال الليل، فقال لها أن الغيلان تسكن القرية ونسائها جنّيات يخطفن الأرواح، فضحكت صبرية حتى اهتز القارب فى سعادة.
مر بجوار قارب هارون، صندل محمل بالأحجار، فألقى ريسة عليه التحية، فرفع هارون ذراعه ورد التحية، ودعاه لشرب كوب من الشاي، فشكره ريس الصندل، ثم أشار له على جمال صبرية، حينئذ ضحكت عيون هارون الرملية ولمعت، وحاولت صبرية معرفة ما يدور، فقال لها هارون: إنهم قادمين من أسوان فى طريقهم لأحد التجار بالمنيا، ثم قال لها: ذات يوم سآخذك فى نزهة بالقارب فى ترعة الإبراهيمية حتى نهايتها فى آخر الدنيا، فضحكت صبرية بقوة وقالت له: مركبك خربانة، وغارقة بالتأكيد، فهل تستطيع أن تقف ضد الريح وقوة الأمواج.
كانت صبرية وهى فى القارب تتصرف كطفلة ترى الدنيا لأول مرة، لا تكف عن الحركة، والعبث فى مياه الترعة، والمرح والقفز على صدر القارب وحوافه، والكلام عن نساء القرية، وضيقها من الرجال الذين يفترشون الطرقات بدون عمل غير الكلام ومؤخراتهم التى تشبه عقولهم، وهّم جدتها الخائفة من الموت قبل أن تزوجها ورؤية أحفاد أحفادها، وبلغت حداً من السرور والخفة أن رشت هارون بالماء، فأغرقت عمامته وجلبابه، فضحك هارون ونهض يخلع جلبابه، فأجفلت صبرية واستدارت وهى تقول: يخرب بيت أبوك.. حتعمل إيه؟؟
فضحك هارون وقال:
- إنه يجب كسر رقبتها فى يوم من الأيام.
كانت صبرية تحمل معها بعض قطع العجور، فأخرجت واحدة وقدمتها لهارون، الذى تناولها وترك مجدافيه، ومال بوجهه على حافة القارب، يغسل العجور فى مياه الإبراهيمية، ثم كسرها نصفين وقدم نصف لصبرية، فقالت له وهى تخفى خجلها بطرحتها: من يد ما نعدمها، ثم جلست صبرية على صدر القارب وأمسكت المجدافين وبدأت فى التجديف، ثم استلقت فوق مقدمة القارب على ظهرها، وراحت تتأمل السماء واستدارتها ورحابتها، ثم نهضت وعيونها بها حزن غامض وقالت: لماذا لا يوجد بيوت فى السماء.
كان هارون ينظر لها صامتاً، فلم يجب، فاقتربت صبرية منه، فقال لها: إننا دمرنا الأرض، فلنترك السماء لله.
وعندما اقترب القارب من شاطئه الأثير، كان قرص الشمس يلامس الأرض فى نهاية الأفق، غادرا القارب، وكانت نيران كانونه مشتعلة، وضع بعض الحطب ثم شوى لصبرية كيزانا من الذرة، وتحدثا الاثنان فى كل شيء، الأحلام، والغد، والقرية، واستمر الكلام بين الوجهين، أو بمعنى أدق بين العينين: عيون صبرية السوداء وعيون هارون الرملية، ثم واجهت عيون هارون الرملية عيون صبرية الغارقة فى الكحل وقال لها: لا داعى لهذه الكلمات التى تمس كرامة رجال القرية، كان هارون يتحدث وهو قلق وخائف عليها، وهنا نهضت صبرية ونفضت كفيها ثم عدلت طرحتها وأحكمتها على رأسها وقالت: هذه هى الحقيقة.. القرية ليس بها رجل..
فضحك هارون فى شدة، وضحكت صبرية فى خبث، وابتسمت الشمس وبدأت فى سحب أشعتها الواهنة، تمهيداً لإنزال أستار الليل.



* الرواية الفائزة بجائزة يوسف أبو رية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى