توفيق قسم الله - أبيشاي* / نورية.. والخذلان

أفسدَ توازنَ الصداقةِ ..بعدها لملم حقائبَه طواعيةً ، وبصمتٍ كغير عادته ثم غادر ، وبلا عودة…. !!!
(سيناريو إختياري .. أخرجه مستر × لنفسه ) !!
هذا السنياريو الاختياري يلزمني دائما أن أسبق عند ذكره بالفعل الناقص ( كان ) دون أخواتها لإسم العَلم ( صديق) ، ملْحقًا بياء المتكلم ..لتُرسمَ في النهايةِ ب ( كان صديقي ) هكذا سياق العبارة ..وللأسف.
وعند رحيله ولجمالِ القدر أخذ معه كلَّ شيء…
نعم كل شيء …صورتَه الهزيلة والهشة التي كان يحاول تضخيمها أمامي ، ونبرةَ صوتهِ المزعج والمنفر ، بالذات عند الغضب… ، وإصدار الأوامر الوهمية عند بلوغه ذروةَ الهلوسة والنرجسية !!!
نعم لم يترك شيئا غير هذه القصة :-
كانت أبيشاي/ نورية قليلةَ الصبر (بصلتها محروقة) ، وبما أنّ وهدةَ قلبِها الضيقة لم تكن تستودع بضائعًا ضخمة ، وذات حجم كبير … كانت دائما تستفرغ كل مالديها وبسرعة مذهلة ودون الأخذ في الاعتبار للهزات الإرتدادية التي ستعقب جراء هذه الهفوة المتسرعة ؛ لتدع بذلك مساحةً فارغة لما ستأتي لاحقًا من بضائعَ جديدةٍ وسريعةِ الإستهلاك … بالاختصار ( لا تب في فمها فولة ) .
قُبيل مغيب الشمس ، واكتساء السماء بحمرةِ الخجل و الوجل .. يستبدها القلقُ ويحكم قبضته عليها ، ويزداد نفادُ صبرِها ( إن كان موجودا في الأصل) !! ، وذلك عند انتطار قدوم زوجها النحيل ، وفارغ القامة ، الذي يخال لمن يراه لأوّل وهلةٍ.. لولا سماكة جلده وتماسكه ؛ لتطايرتْ عظامُه هنا وهناك .
أبيشاي / نورية كانت تدري جيدا ؛ أن زوجها الثمل والشمسَ نقيضان ، قد أقسما بأن لا يجتمعا معًا في بيتها المتواضع في إحدى أحياء أسمرا العريقة ( إنداماريام) .
كان زوجها يغادر البيت فجرًا للعمل ، وينهي عمله بُعيد الساعة الرابعة عصرا ، وكان يرجع إليها عندما يبسط الليلُ ملكوتَه ، ويستفحل مدّه في سماء بيتِها المتهالك كأوراق فصل الخريف الهابطة من الشجر .
ولمن يعرف حاله يكاد يحسم قطعًا ؛ بأنه لم يرَ ملامحَ وجهِ زوجتِه في النهار قط ، وهو بكامل وعيه وإدراكه العقلي …إلا عند النظرة الشرعية إليها ؛ بذريعة الزواج منها .
حتى يوم زواجهما كان فاقدَ الوعي ثملا … هكذا كانت تقول جارتهما / سابا ..شهادةُ صدقٍ مموهة بالمزح والفكاهة.
• سلامات ( ماما مدهن ) …ناوليني النبيذَ المعتق .. بقارورة (برلي ) العنقاء مثل عنق ( نورايي ) .
كانت تلك عبارة روتينية لأحمد عندما يصعد عتبات حانة (مدهن ) المتهالكة ، قادمًا من عمله وهو منهك ، بغية الإسترخاء الروحي والجسدي .
بعد أن يكتفي من احتساء النبيذ ( ميس) المستساغ ، ويتجرع بالشّراهة زجاجةَ جعة مولوتي ( Moloti ) تقدمها له ( ماما مدهن) كمسكِ الختام .
لو كان بإمكانه لبدأ وختم بجعة ( ملوتي بيرا ) الفاخر ، وطيب المذاق ، لكن إمكانيته المادية لم تكن تسمح له بذلك .
في بعض الأحيان كان يمتعض غضبا من (مدهن) الذي كان يناديها ب ( ماما مدهن) رغم ضآلة فارق العمر بينهما ، تعبيرًا عن قربها منه ، وحسن معاملتها مع الجميع ، ولطيبتها التي كانت تضاهي طيبةَ أقرب كائنٍ لديه …أمه طبعا ، وذلك عندما تقدم لزبائنها (سوا) مريسة بدلا من النبيذ ، في حال عدم التتمكن من عصر النبيذ ؛ وذلك لانعدام العسل ... المكوِّن الأساسي له !!! .
كان يكره( سوا ) لأنه كان يعتقد أن مفعوله بطئ ، ولأنه كان يريد أن يبلغ ذروة النشوة بالسرعة… كي يستنفزف بهجته هناك مع أسراب تشببه ، قبل أن تغلق (ماما مدهن) حانتَها ، لأنه كان يدرك أن البهجة ستتلاشى تماما بمجرد رؤيته لأبيشاي/ نورية.. رعبًا ورهبًا ، حالته كانت تختزلها عبارة ( نكد مع وقفِ التنفيذ ) .
يخرج أحمد من الحانةِ الدافئةِ والصاخبةِ مترنحًا ، ومستغيثا بجدران أسمرا التي لا تخون .
جدران أسمرا كانت تعرف بصمات أصابعه. . تحتويه وتدلّه طريق بيته …كعصى ضريرٍ ، أو ككلب ( أليكس ) الحاذق في حالة انعدام الدليل .
عندما يصل البيت ويقابل أبيشاي /نورية التي كانت تنتظر قدومه ، يبدأ التقشف في الكلام خوفًا من أن يخونه لسانه الفحل أمامها ، لأنه كان يدري جيدًا أن السر في استمرارية علاقتهما هو لسانه الضليع والمعسول ..لذا كان يبادرها السلام بالإشارة دون التلفظ بكلمةٍ واحدةٍ لسببين :-
• لأن لسانه الذي لا يضاهيه أحد في الطلاقة قد خذله ، وبدأ تدريجيا يثقل ويتلعثم .
• ولكي لا يعطيها مجالا لتشغيل إسطوانتها المشروخة عليه … ؛ أن يقلع عن الشراب حالا …ويضعَ سدًا منيعًا بينه وبين عشقه الأبدي ( Moloti ) ، الذي كان دائما يصفه بسائغ الشراب ، ودمٍ يسري في عروقه …ليعطيه نبضًا وبهجَ الحياة .
كان يظن إنْ توقف عن شربه ستتوقف حالًا عقارب ساعة وجوده ، ولن يعود ككائن بشري ... يعيش على ظهر هذه البسيطة كما كان من جديد .
ومن يسمع كلامَه المضطرب بلسانه المتعثر الذي كان يطلقه بالاقتصاد إضطراريا ، يتذكر مقولةَ الأديب /نجيب محفوظ :-
( لقبلونا كما نحن ، أو اتركونا كما نحن ..
فلا أنتم تملكون حق تعديلنا ، ولا نحن نملك رغبة التبرير .! )
عندها كانت لأبيشاي/ نورية حيلة ذكية ..تهرول داعسةً الأرضَ بقوةِ فيلِ أبرها الأسطوري الضخم ، كأنها تحمل حقدًا دفينا على الأرض ، وأرادت بهذا التصرف الإنتقامَ والتشفي منها …هكذا كان يبدو لمن يراها .
تهرول ..إلى تلفونها الأرضي القديم ، و تضغطه بقوةٍ(عمدًا) ثم تجرّه دائريا على التوالي مايجعله يصدر صوتًا عاليًا ، إعلانا عن غضبها منه، وتوصل بذلك رسالةً إلى زوجها الثمل ، والمتقن على امتلاك قلبها الضعيف، مفادها أن قيامتَهُ على وشك القدوم .
لحسن حظ والدي ( الله يرحمه ) ، لم تكن الهواتفُ المحمولةُ موجودةً في ذلك الزمن ، كان التلفون الأرضي هو الوسيلةٌ الوحيدةُ للتواصل.
تتصل أبيشاي /نورية… بوالدي وتقول له بصوتٍ مشحون بالغضب العارم :
- لم أعد أتحمله بعد ، أعدكَ..هذه ستكون المرةَ الأخيرة والحاسمة .. أرجوك أن تأتي إلينا غدًا الصباح برفقة عمي الشيخ / محمد برهان …..باختصار …قررتُ أن أنفصل عنه …أريد الطلاقً البائن … .
بهذه الكلمات المتقطعة تختزل عباراتها ، رغم غموضها لم تكن عصيةَ الإدراكِ لوالدي الذي كان أنتابه أخطبوط الملل من تكرارها .
في الوهلةِ الأولى ، وكعادته يرد عليها بهدوء دون انفعال :-
- هل أنتِ متأكدة من قرارك هذا ؟!
ترد عليه بكلماتٍ قوية … عزافة على الوتر الحسّاس : –
_ أنتَ دائما …باردٌ مثل الثلج تمامًا… لو كان أخي / حقوس على قيد الحياة… لما استطاع صبرًا حتى وقت إطلالة الشمس .. لقدمَ إليّ حالًا دون أن يهاب عتمةَ الليل …ومن غير أن يهدر وقتًا في استبدال الملابس ، وانتعال الحذاء !!! .
وتغلق السماعة بقوةٍ وبلا وداع …
ولأن والدي كان متأثرا بوفاة أخيه الأصغر منه سنًا / حقوس ، كان دائمًا يحاول سدّ الثغرة التي خلفها في الأسرة بعد رحيله .
يقول لها حاكًا رأسَه العريض ، وضاغطًا إحدى عينيه تحسرًا لما بدر منه من البرود عند الرد عليها … محاولا طمئنتها بإصدار صوتٍ حماسي مكتسب : –
• لا تقلقِ.... سآتي إليك غدًا عند الصباح برفقة عمي الشيخ / محمد برهان ، أنت فقط أثبتِ على قولك.
ولكن والدي الذي كانت تلومه أمي دائما بأن رعونته معها تتلاشى تمامًا أمام إخوتِه ، لم يكن يدري أنّ لزوجِها أحمد كانت لديه خلطةٌ سحريةٌ يتناولها عند الليل وبعد إغلاق سماعة تلفونها المزعج ، ولم نكتشف محتوى تلك الخلطة حتى هذه اللحظة .
يذهب والدي الأنيق لابسًا بدلته الكلاسيكية التي أرسلها إليه صديقُ طفولته من مدينة الضباب (لندن ) ، والتي لم يكن يلبسها إلا في المناسبات ، برفقة عمه المُهاب والوقور الشيخ / محمد برهان ، الذي كان يرضخ لطلبه ، ولم يملْ بتًا من تكرار الذهاب إلى بيت أبيشاي/ نورية ولنفس المهمة .
وبعد أن تفتح لهما البابَ ؛ ينتابها الهلع ، وتسألهما بسؤالٍ لا يُطرح إلا من قِبل من له ذاكرة السمكة أو أُصِيب بمرضِ فقدان الذاكرة (الزهايمر ) : –
• هل أنتما بخير؟!
بغتةً تتظاهر كمن أسعفته ذاكرته الهشة للتو ، ولكي تواري سوءتها …تتكلف باطلاق إبتسامةٍ خافتةٍ …يكاد يدرك تصنعها طفلٌ رضيع .
كانت تدري أن غضب والدي منها لن يدوم ، وسيرضخ لطلبها ؛ لأنها آخر عنقود البيت ؛ لذا لم تكن تتكلف كثيرا في عناء التمثيل من أجل التبرير والإرضاء.
تُدلي طرحتَها نحو جبهتها العريضة التي كانت تشبه جبهةَ أبي …كي تبدو بذلك أكثر حشمة وجدية أمام الشيخ المهاب/ محمد برهان .
وتطرح لهما سؤالا صادمًا بميوعةٍ يخالجاه ضمنيًا العتابُ والمزاح : –
- أخي / حسين …هل أخذتَ ما قُلتهُ لك أمس في محمل الجد ؟! … إنها كانت مجرد زوبعة عابرة نشبتْ بين الزوجين وعدّت كسابقاتها دون أثرٍ يذكر .
كأنها تريد أن تقول له بذلك مقولة فقهاء الأمة المشهورة : ( الفتنة نائمة ..لعن الله من أيقظها) !
ثم تبدأ بإستلطاف الجو المتوتر :
• تفضلا و افطرا معنا ، ولحسن حظكما ( قجا فتفت ) / ቅጫ ፍትፍት/ مع العسل هو فطورنا اليوم …..أدري يا أخي وسندي…. أنك لن ترفض تناول وجبتِك المفضلة في هذا الصباح أليس كذلك ؟! .
كأنّ في الليلة البارحة لم يحدث شيئا !!!
نعم لم يحدث شيئا !!!
هكذا كانت أبيشاي / نورية …تخذل والدي أمام عمِّه الوقور !!!
سردت هذه القصة التي أقتنيتها مِن الذي ( كان صديقي ) ، كي أستشهدَ بها أنه وفي المشهد السياسي الآن لدينا أمثال أبشاي / نورية .... كُثُر مثل الرمال ، لا مبدأ لهم ولا قضية ، يتلونون تلّونَ الحرباء ، حيث النفاق أصبح عندهم ملح السياسة ، والكذبُ وسيلة للتسلق على أكتاف البلهاء والسذج .
هذا المكانُ معتقٌ بالحب
هذي الأرضُ حالمةُ الرؤى
عُلْويةُ الأبعادِ
عذراءُ الطّويةِ
طاهرةْ
قمْ أيُّها التمثال قمْ
وارحلْ بعيدًا
لا نرى إلا لطمةً
على وجهِ البلادِ الآنَ
أو سكينةً مزروعةً
في الخاصرةْ

_________
• أبيشاي : تعني سيدتي بلغة أهل القرى بالتقرنية .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى