مصطفى نصر - زواج ملتون

أحس ملتون برغبة ملحة في أن يترك لندن، يرتاح من التفكير وقراءة الكتب لبضعة أيام، قرر فجأة أن يسافر. زاره صديقه كوك في الصباح، حدثه عن رغبته هذه، فضحك صديقه قائلا:
- ملتون العظيم يمل من الكتب والأدباء؟!
- أريد أن أهرب من لندن، مللت المناقشات والنزاعات.
ضحك كوك طويلا:
- وأين تريد أن تذهب؟
- أكسفورد.
صاح فزعا:
- تذهب إلى أكسفورد في هذه الأيام، ألا تدري أنها معقل الملكيين، وأنت معروف بعدائك للملك ومن أنصار كرومويل الجمهوري؟!
- سأتخفى حتى لا يعرفني أحد.
- وماذا ستفعل في أكسفورد؟
اشتقت لجو الريف وهدوئه بعد العناء الذي نلاقيه هنا بسبب الحرب الأهلية التي تدور، سأذهب من أكسفورد إلى قرية " شتوفر " القريبة جدا منها؛ لمقابلة صديقي القديم ريتشارد باول.
وقف كوك وصاح مندهشا:
- أنت اليوم غريب جدا ومختلف، ريتشارد باول من أنصار الملك شارل، فكيف ستتقابلان؟!
- رغم ميولنا المختلفة، فأنا وهو صديقان، لي عنده دين حان موعد سداده.
- قل أنك أفلست وتبحث في دفاترك القديمة.
- بذلك المبلغ سأقضي عدة أيام في الريف بعيدا عن الحرب.
**
لم يصدق ريتشارد باول نفسه وهو يرى ملتون أمامه، كيف أستطاع أن يصل إلى قريته والموالون للملكية في كل مكان، قادتهم يعرفونه ولن يتوانوا عن قتله إذا رأوه.
صاح ريتشارد: أسرع بالدخول قبل أن يراك أحد.
جاءت زوجة ريتشارد، هي تعرف ملتون جيدا،كثيرا ما زارها في بيتها.
لم تعرفه ماري - ابنتهما - أول الأمر، فقد مر وقت طويل على آخر مرة رأته فيها، صاح ملتون:
- صرتِ جميلة جدا يا ماري، تغيرتِ.
- وأنتْ – يا عم ملتون – شعر رأسك غزاه الشيب.
صاح ريتشارد ضاحكا:
- هو مشغول بلغته اللاتينية وكتبه التي لا يفهمها سوى الجمهوريين أمثاله.
ضحك ملتون طويلا:
- الجمهوريون أكثر تفتحا منكم.
- إنكم تخالفون شرع الله في كل ما تدعون.
لم يعلق ملتون بشيء فقد أخذه جمال ماري، في عينيها هدوء وسكينة هو في أشد الحاجة إليهما الآن.
لم تكن الزوجة مرتاحة لهذه الزيارة، فالمنطقة كلها تابعة للملكيين، جنودهم في كل مكان فيها، وجوده قد يسبب لهم ضرراً، لذا؛ نادت زوجها وأخبرته بمخاوفها، فصاح بها:
- ملتون صديقي منذ زمن بعيد، لابد أن أحسن ضيافته.
- والقرض الذي أقرضه إياك؟!
- أتظنينه جاء خصيصا من أجل القرض؟
- أيجازف بحياته، يأتي في معقل الملكيين أعدائه دون سبب؟!
لم يجبها ريتشارد بشيء، فصاحت به:
- ارشد عنه أنصار الملك ليقتلوه وترتاح منه ومن دينه.
- لا، إنه صديق قديم..
**
عندما عاد ريتشارد إلى صديقه ملتون وجده يحكي لماري:
- تعبت كثيرا حتى وصلت إلى هنا، تخفيت حتى لا يعرفني رجال الملك، كما أن الطرق وعرة بسبب الحرب الدائرة الآن.
كانت ماري تضحك سعيدة من حديثه:
- لكن عندما رأيتِك أحسست بأن التعب لا يساوي شيئا..
صاح ريتشارد مقاطعا:
- أظنك في حاجة إلى الراحة.
- لا، إنني أريد شيئا آخر.
قال ريتشارد لنفسه: " هاهو ذا يطالب برد قرضه كما قالت زوجتي، لابد من أن أخذ حيطتي واستعد له ".
قال ريتشارد وهو شارد:
- مُرْنى يا ملتون.
- أريد أن أتزوج أبنتك ماري.
صاح ريتشارد مندهشا: زواج؟!
أحس ريتشارد أن صديقه ملتون قد وضعه في مأزق، فإن لم يقبل بالزواج؛ سيغضب وسيطالب بماله، وريتشارد لا يمتلك منه شيئا الآن، فالحرب أفسدت كل شيء. الجنود المتحاربة وطأت أرضه الزراعية بأحذيتها الثقيلة فسوت الزرع بالأرض. وإن وافق ريتشارد أغضب ابنته، فملتون أكبر منــها بكثيــــر، تدخلـت زوجته فزادت المشكلة تعقيدا، قالت:
- إنه من أصدقاء كرومويل ومن الممكن القبض عليه فجأة.
- لو حدث هذا، سيقبضون علينا أيضا لأننا أصهاره.
صاحت ماري وسط دهشة أبيها وأمها.
- سأتزوجه يا أبي، فإنني أود العيش في لندن.
وانتقلت ماري باول إلي لندن. بدلاً من أن يعود ملتون بنقوده؛ عاد بها هي.
كانت سعيدة، مبهورة بمباني لندن وقصورها الطويلة الواسعة، كما أن ملتون كان حانيا عليها، لم يغضبها قط طوال الشهور القليلة التي عاشتها معه، عيبه الوحيد أصدقاؤه الذين يأتون إليه كل مساء، تصنع لهم الشراب، تصيخ السمع لما يقولون؛ فلا تفهم شيئا، إنهم يتحدثون لغة غريبة بعيدة عن الإنجليزية، يتناقشون ويحتدون، حتى تضحك من تصرفاتهم. أحيانا يتصرفون وكأنهم يمثلون تمثيلية ساخرة مضحكة.
تسير في الشقة الواسعة، تنتقل بين حجرة وأخرى علهم يخرجون ويعودون إلى بيوتهم، يتركون لها ذلك الشيخ العجوز الذي صار كل ما لها في هذه المدينة الواسعة؛ لكنهم لا يذهبون بسهولة، كل ليلة تنام قبل أن يذهبوا.
يعود – هو – متعبا، يخلع نظارته وخفيه ويندس بجسده بجوارها تحت الغطاء.
ذات صباح وضعها ملتون بين يديه الكبيرتين، تابع وجهها الجميل سعيدا، صاحت:
- لقد مللت، تبتعد عني كل ليلة بأصدقائك وكتبك ولغتك التي لا أعرفها، أريد أن أخرج، أسهر خارج البيت مثل الأخريات.
ربت على خدها في حنان:
- اهدئي يا عزيزتي، سأخرج معك، لكن ليس الآن، فلدي كتاب مهم لابد من الانتهاء منه خلال أيام.
- وأنا، ماذا سأفعل؟!
- سأعلمك اللاتينية، سأعطيك كتبا تقرئينها.
صاحت غاضبة:
- لا أريد أن أتعلم لغتك ولا أريد كتباً، كل ما أريده أن أذهب إلى بيت أبي في شتوفر.
ضمها لصدره لتكف عن البكاء:
- اذهبي كما تشائين على أن تعودي بعد يومين أو ثلاثة.
وذهبت ماري إلى بيت أبيها ولم تعد.أرسل ملتون إلى صديقه كوك، طلب منه أن يذهب ويعود بزوجته من قرية شتوفر، لأنه مشغول للغاية؛ فكرومويل في أشد الحاجة إليه هذه الأيام.
وذهب كوك إلى هناك. لكنها أصرت على عدم العودة، صاحت غاضبة:
- مللت كتبه وألغازه وأصدقاءه و....
وتدخل والدها – ريتشارد:
- ملتون مؤلف كبير،لا يستحق منكِ هذا.
لكن الزوجة صاحت غاضبة:
- دع البنت في حالها، لقد أصفر وجهها ونحل جسدها مما تراه في بيته.
وعندما أراد كوك أن يدافع عن صديقه ملتون، صاحت ماري في وضوح شديد:
- معذرة يا سيد كوك، لن أعود معك، حياة ملتون غير مناسبة لي.
وتطورت الأمور بشكل لم تحسب عائلة ريتشارد باول حسابه، ولم تظنه سيحدث أبداً لقد تقوضت الملكية في انجلترا، قبض كرومويل على الملك شارل الأول وهو يحاكمه الآن.
بكت المرأة التي كانت متحمسة لعدم عودة ابنتها إلى ملتون، صاحت فزعة:
- حياتنا في خطر.
وقالت ريتشارد:
- من الممكن أن يقبضوا علينا، فالكل يتحدث عن أنصار الملك الذين تم القبض عليهم.
قالت الزوجة: خاصة لموقفنا من ملتون، فهو مستشار كرومويل الآن.
تابعت ماري ما يحدث في ضيق، فقد سببت لأهلها ضررًا بعدم عودتها إلى ملتون، قال ريتشارد: ملتون يستطيع حمايتنا.
وأكملت الزوجة: ومن السهل أن يقدم صك الدين للسلطات ويطالبنا بسداد قيمته.
قال ريتشارد وهو ينظر إلى ابنته: والحل؟
قالت الزوجة في أسى: أن تعود ماري إلى ملتون، وأن تتحمل لغته اللاتينية وأصدقاءه ذوي الوجوه القبيحة.
**
بينما ملتون في بيته، متدثرا بغطائه الثقيل متابعا لصوت الهواء العاصف في الخارج، وهطول الأمطار الغزيرة؛ سمع صوت دقات خفيفة على الباب. كان الوقت متأخرا حتى أحس بالقلق. فمن الذي سيزوره في ذلك الوقت، والجو العاصف؟!
وجد ماري أمامه، حقيبتها في يدها وهى ترتعش من البرد، والماء يتساقط من رأسها ووجهها وملابسها.
- ماري، أدخلي، إنك ترتعشين.
- جئت مع بعض أهل القرية النازحين إلى لندن.
- تفضلي.
تركت حقيبتها على الأرض وأسرعت لتركع على ركبتيها أمامه صائحة:
- جئت مقرة بذنبي، إنني لم أقدر قدراتك ومواهبك.
رفعها عن الأرض:
- اخلعي ملابسك المبتلة وأسرعي إلى المدفئة، سآتي إليك بملابس أخرى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى