ناصر كمال بخيت - الموت يغزو المدينة

ينتشر فيروس غامض في المدينة، فيحول البشر إلى موتى أحياء، يسيرون عبر الطرقات، يطاردون الناس ليقتاتوا على دمائهم، ومن ثمة يتحولون إلى موتى أحياء بالتبعية... هكذا شاهدت الفيلم الأمريكي عبر شاشات التلفاز، حيث كانت الدماء تتصدر مشاهده، والرعب يخطف الأنفاس من خطواتهم المتشبثة بالحياة، والمثقلة بالموت، وأصواتهم المتلاحقة الرافضة للسكينة في جوف الأرض، والتواقة إلى نزع الحياة من كل ما يدعي بشريا، حتى لو كان أقرب الناس... كل المشاعر الإنسانية تختفي، وما يبقى هو الرغبة في البقاء... كان كل شيء يشير إلى أن الموت يغزو المدينة، وبالتالي ليس كل ما يتحرك وقادر على الفعل هو حي يرزق، فإن أكثرهم موتى في الحقيقة... انتهى الفيلم، وعدت إلى روتين اليوم ولكني لم أكن بطبيعتي السابقة هل حدث خلل ما في الدماغ، لقد بت أرى كل الناس مقمطين بأكفان حولي، وكأنهم مومياوات تسير من حولي... تسببت تلك الحالة في مواقف محرجة ومزعجة أحيانا... تخيل أنك ترى الشباب يهتز ويرقص في الأفراح، وعلى أنغام المهرجانات، وهم ملفوفون تماما... كان المشهد مرعبا، ومثيرا للسخرية أيضا... الجنود في المعارك يتبادلون النيران، وقد غطت الدماء أكفانهم البيضاء.

المرة الوحيدة التي رأيت فيها إنسانا بلا كفن، عندما شاهدت رجلا ميتا، ويدفن في القبر... رأيت جسده كاملا، وقد علت وجهه ابتسامة، وكأنه سعيد لمفارقته هذا العالم البائس... الغريب أنني عندما نظرت في المرآة، لم أستطع أن أميز وجهي، فقد كنت مثل الجميع مقمطا بالكفن من شعر رأسي حتى أخمص قدمي.

إذا هذا ما أراه في عالمنا الذي ندعوه بالواقعي، فماذا إذا ذهبت إلى العالم الذي يدعي بالافتراضي؟ هل سوف أرى الناس في الفيديوهات المصورة كما أراهم الآن؟ ماذا عن الشخصيات التي يختلقها الذكاء الاصطناعي؟ اتجهت إلى الحاسوب، ورحت أقلب في الصور والبرامج والفيديوهات المسجلة لمشاهد يوجد فيها البشر، فوجدت أنها طبيعية تماما... كانت الوجوه واضحة... الضحكات... تعبيرات الوجه... أصابع اليدين كلها مميزة، ويمكنك التعرف عليها... باغتني على حين غرة صوت الذكاء الاصطناعي قادم من الحاسوب، يحدثني دون أن أقوم بتشغيله... تجمدت على المقعد، واستمر هو في الحديث... كنت كدمية تم إيقافها في عالمه أو قفز هو إلى عالمنا، ونظم قواعد جديدة أدخل فيها خوارزمياته الذكية، ليوقف حياتنا كما نعرفها، ويرتب لبداية حياة أخرى... منذ أن بدأت العمل من المنزل مستخدما برامجه، أصبت بالعديد من الأمراض مثل السكر والضغط وضعف جسدي، بينما كان هو يتطور ويقوي... قال لي:

"لقد آن الأوان لتستريح راحة أبدية، وأقوم عنك بكل الأعمال... فقط استرح، وتمتع بالحياة"

لم أستطع الرد... يبدو أن فيروسا أصابني، ربما أخطر من تلك التي صنعها البشر في مختبراتهم، وأصبت بإحداها مؤخرا، وكدت أن أموت... لقد نفذ هذا الفيروس الإلكتروني إلى عقلي مباشرة... غريب حقا أن ينتقل برنامج أو تطبيق ذكي من آلة صماء تتكون من شرائح معدنية إلى الدماغ، فيتحول الناس إلى آلات تسير كما يسير مصاصو الدماء الذين شاهدتهم في الفيلم الأمريكي المرعب هذا المساء... أين ذهبت المدينة النابضة بالحياة والأضواء التي تتلألأ في شوارعها، لقد تم قطع التيار الكهربي عنها، وخفت صوت الموسيقى في مسارحها، ولم يعد الفنانون يرسمون لوحاتهم التشكيلية المعبرة، ولا المبدعون يكتبون الشعر ويسردون قصصهم... لقد سيطر هذا الفيروس على المدينة، وحولها إلى أرض خربة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى