آدم محمد إدريس أزوكاي - الحورية

كطيفِ حبيبةٍ غابر، أو كحالة عشق تتلبّسك زمناً ثم تتلاشى، فيما تحاول جاهداً أن تستعِيدها من بقايا ذاكِرةٍ بعيدة؛ تبدو كسلا مدينة الشغفِ الزاهر الجميل، كحورية تحرّشت بها أمواج عاتية فَلَفظتها على يابسة محبوسة بين جبلين على ضفة نهرٍ مُتمردٍ وغدّار؛ حورية برشاقة غزلان براري القاش الخصيب، تربعت على عرش ذاكرتي ولا زال في مخيلتي منها بعضٌ من نارٍ بين الرماد، كما لو أنني مرتحل عنها تواً!

فارقتها مأخوذاً بغرورِ من سيسبِق رِفاقه إلى العاصمة، نزعتُ جُبة روحي وعلّقتها متدلية بين جبال توتيل ومكرام ريثما أعود، ممتطياً جسداً وشنطة حديداً، ومنتعلاً “شِدّة” ظناً مني إنما هي أيام وأرجع! لأحكي لرفاقي، فيما بعد، عن عجائب العاصمة ونوادِرها، وما خَطَر ببالي أنني مغرور مغشوش أُخذ على حين غفلة. وإن نوادر حكاياتي وطرائف مواقفي التي جمعتها لأسردها، حين عودة ما، بِبُهارات التهويل والتشويق، ستتخثر في عروق الروح الفارغة و تتجمد بين فكين ولسان يابس، لا زال يتوق، مُذْاكَ، للأُنسِ والسَمرِ في غربته البعيدة.

في ذلك الصباح، كان أبي قد باع مِعزةً من أغنامه التي يُحابيها علينا، فقد كان لابد ـ بالرغم من محاباته تلك – من تدبُّر تذكرة البص إلى الخرطوم.

دسَّ أخي بين ملابسي البالية قميصه الجديد الذي لم يلبسه إلا يوم العيد، لأتأنق به في المدينة الكبيرة، أو ربما طمعاً منه، في غنيمة أكبر عند عودتي.

خرجتُ وأخي بعد الآذان الأول وقبل الثاني و”مكرام” تسبح في الأحلام، مكتسية سواداً وهدوءً، إلا من بعض نِباح الكلاب الذي يتناهى إلينا من بعيد. جارنا محمود السقا، الذي استيقظ لتوه، ودّعنا على وقع نهيق حماره ودعواته المشفِقة وهو يشُدّ خُرجَه على الحمار استعداداً ليوم طويل.

ما بين القلق ونشوة المغامرة وبخيالٍ محدود، تقريباً، عن ماهية ما أنا مُقدِم عليه؛ كنت أتقافز طرباً بين أشجار “السّنامكة” و “العُشر” في الوادي الممتد بين مكرام ـ الدروة ـ والختمية الجديدة، وقد كفاني أخي الكبير حمل شنطة الحديد الثقيلة ــ التي ما كنت لأنوء بحملها من دونه ـ أنا الذي بعدُ لم أكمل الثالثة عشرة من عمري.

تجاوزنا خُور “أميراي” وتُرعتِه، وبعضَ مَكبات النفايات القبيحة هناك، حين كان الشيخ “محمد جمال” إمام مسجد الختمية يصلي الفجر مرتلاً سورة (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) بصوت ملائكي ينساب إلى القلب بلا استئذان، كأني أسمعه لأول مرة، ولا تزال أصداؤه باقية في نفسي كَمَا البارحة.

ركبنا (برينسا) شبه مكشوفة، إمعاناً في الإغراء والغواية مع الأجواء الصباحية الساحرة، وفي الطريق إلى السوق الشعبي، هبت علينا نسمات القاش الهادئة ممزوجة بعبق الفواكه من بين سواقيه، كأنها هاربة من جنات الخلد لتتجول صباحاً في ربوع كسلا مشبعة برائحة الطين القادم من الحبشة لِلتبرّك بأضرحِة الأولياء و الصالحين في المدينة العتيقة.

الدكاكين منكشفة على سيوح مترامية من كل جانب، كنقطة في فلاة، بعيدة عن أحياء المدينة، يغزوها هبوب بلا هوادة من كل مكان؛ دكاكين منزوعة المصدَّات، ووحيدة، بلا أنيس يسلي وحدتها. وعلى مسافة تغري بالعودة، لكنها لا تسمح بالرجوع، تراءت الأحياء القريبة (السواقي، حي العمال، حي العرب) حيث يقبع السوق الشعبي بكسلا.

كان توتيل منتصباً في الخلف، وكلما التفتُّ إليه غمزني بنصف تلويحة، على وعد أن يكملها عند التهاب سياط الحنين يوماً ما، حين عودة، وقتها ستكون أحضانه مشرعة على مصراعيها.

ككل محطات الوداع حيث تفيض المشاعر الجياشة وتطفح خوافي اللهفة المكبوتة، عجَّ المكان بالمودعين والمسافرين. على الوجوه تعابير شتى؛ بعضها غير مبال، وبعضها الآخر تكسوه مسحة حزن مصطنعة، وأخرى لا شيء يبدو على تقاسيمها. فتاة تتململ في حضن أمها مخافةَ أن تُدنّس دموع أمها المفجوعة أناقتها، وجاهدة تغالب بكاءها خشية أن يُبعثر ما تعبت في رسمه طويلاً من مساحيق الأكشاك الرخيصة.

بالكاد أتمالك لعابي أمام إناء الزلابية الممتلئ، قرب (بنابر) خشبية قصيرة متناثرة حول موقد ناري كبير، يتوسطها قهوجي رث الثياب نقي الابتسامة يحدثك بـ”هدندوية” ممزوجة بقليل من العربية مع إصرار عجيب على أنه يتحدث بلسان عربي مبين، فيقول لك مستنكراً وساخراً: (يا أخينا إنتا ما تفهم أربي ولا شنو؟!). وبحجم ابتسامته يرتفع مؤشر زبائنه الذين لا يهمهم إن كان أنيقاً أو رثاً، حيث يمزجون عزوبة روحه بأقداح قهوته ويرتشفونها بصوت شخيري حاد يرتفع وينخفض في هرجلة موسيقية مقيتة كأوركسترا بلا قائد يضبط إيقاعها ويموسق نغماتها، فتلك أعراف يتفرد بها أصحاب هذه البلد.

في السوق الشعبي، تذكرت ما قالته لي جدتي بلهجة التقراي ذات يوم: (موت مَا مي يمرئيت لأبووه) وهو ما يمكن ترجمته بـ(نكره الموت لأنه يأخذ منا من نحب وكذلك السفر)، فيما بدت البصات السياحية تتململ إيذاناً بالرحيل، فها هو بص “المدينة” و”هزاع” و”سوار العاصمة” يطلقون الأبواق لتجميع الركاب. فجأة انسحبت البصات من المكان فبدا كأنه محطة مواصلات “القرقف – وَقر”.

تلاشت الوجوه البهية، وبقيت الوجوه المغبَّرة، حتى الفتاة التي تابعت تململها في حضن أمها اختفت، وبقيت ورفاقي ننتظر بصنا المتهالك..

عندما تسافر بِبص شعبي في أصقاع السودان؛ فأنت تُخاطر بِخصوصِيتك، وربما رفاهيتك أيضاً، فما عندك متاح للجميع، وما للجميع متاح لك بأريحية ورضى، يمكن بكل بساطةٍ أن تفقد مقعدك في غمرة تسلطٍ أبوي من الرجل الستيني الذي يجلس بِجوارك، فقد يلكزُك مُعَنِّفاً بأن تتخلى عن مَقعدِك لصالحِ العجوز التي تتدلى فوقك، ممسكةً بعمود حديدي أعلى سقف البص ورجلاها بالكاد تُلامس أرضيته، عندها ستجد نفسَك بين أن تَرضخَ صاغراً لأوامره لتترنح مكانها معلقاً على ذات العمود، فيما تتهاوى المرأة المسكينة على مقعدك، تستجمع بعضها المُبعثَرِ من شدة الرجّ والخجّ!.

وحين ترفض أن تتنازل عن حقّك في المقعد الذي حجزته بِحُر مالِك؛ فإن لم يَقتلك تأنيب الضمير حتماً ستقتلك سِهام النظرات المُستهجنة لفِعلتك.

و من أحسّ ارتخاءً في جَفنيك سَيسطو، بلا هوادة، على الصحيفة التي بين يديك، مستأذناً بلا مُبالاة ــ بعد أن يكون قد قرأ أكثر من نِصف مقالٍ ــ: (معليش يا أخونا شفتك زي نعسته كدا)، وله أن يجودَ بها لِلذي أمامه دون أن يستأذنك حين تكفيه منك مجرد إيماءة بلهاء، ابتسامة ليست لها أي مغزى.

الجميع يتعامل بتلقائية عجيبة كأنهم يتعارفون من سنين!؛ طفل يجلس في حِجر امرأة تُجاوِر أمه يُمازِحُه ثُلثُ ركابِ البص. ومن يشتري حلوى أو ترمس (حمص) يجامل كل من حوله، كأنه يستنجد بأسنانهم جميعاً على الترمس الذي ربما لا يتجاوز حفنة اليد.

كنت وسط هذه الجوقة، أجلس بين الرجل الستيني الذي طالما حاول جاهداً مع الشاب الذي يجلس قرب النافذة لأنه يسفُ سعوطاً (تمباك)، ولأن الشاب لم يعِره اهتماماً؛ تبدأ رحلة التَمطّي من كرسيه إلى النافذة مُتحاملاً على رجليَّ ومُتخطياً الشاب الجالس قُرب النافذة ليَبصق (السفة) مطلقاً رذاذ لعابه المندلق من فمه والمنعكس من النافذة. وما أن يستوي جالساً في مقعده حتى يبدأ في تكوِيرِ سفةٍ أخرى بِتلذذ وغِبطة؟!

أما جليس النافذة فقد كان عُنقة الزرافيّ الطويل، كلما غازله النوم تراقص بقرب كتفي، حتى إذا استسلم أخيراً رمى بعنقه عليَّ بكل ثقله، و لما ضايقني شخيره وسيلان لعابه على كتفي أوقظته بقوة، فانتفض معتذراً، ليبدأ عنقه في الترنح مرة أخرى لينهار ممتطياً هذه المرة صدري، كما لو كان مضرباً عن النوم سنيناً عددا.

رغم العفوية والطِيبة، التي تبدو قلة ذوق أحياناً، ولأول وهلة، لم أتأقلم مع الهرجلة الصارخة في البص، أحببت أن أحتفظ بمسافة تصون خصوصيتي دون أن يتسلل منها الجفاء! بدا جوّ البص بمَزِيجِه المتداخل نبوءة مُبكرة بمقبل أيامي في المدينة الكبيرة التي تلتهمُك دون اعتبار لخُصُوصِيتك، كأنها كَرش فِيل.

عند تحشرج صوت ماكينة البص، عرفتُ ممن كانوا يتحاورون خلفنا، أننا على مشارف الخرطوم. فيما الشمس استنفدت طاقتها وغرقت في المغيب.

ــــــــــــ

* قاص من إرتريا يقيم بسلطنة عمان

** القصة الحائزة على المركز الثاني في مسابقة جائزة (محمد سعيد ناود) للقصة القصيرة في دورتها الثانية. الجائزة تنظمها سنوياً: مكتبة أغردات العامة على الإنترنت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى