حسب الله يحيى - أصابع اللذة.. قصة قصيرة

منذ طفولتنا المبكرة.. عودنا أهلنا ومعلمينا أن رفع الأصابع.. يعني طلب الأشادة والامتنان والتأكيد على الرأي، وليس الأعتراض عليه أو تقديم رأي مختلف عن سابقه ..الأصبع الأولى، أصبع تأكيد لمن سبقنا عمراً وعلماً وتجربة.. واصبعنا المرفوع هو من طبع الوفاء والأخلاق الحميدة .أما الأصبع الثانية، فهي اصبع جحود وانتقاد وعدم رضا.. وهو ما ينافي السلوك السليم والتوجه الحميم .. ! وأما.. أما الخنصر.. إصبعي الأصغر فقد دفنته ذاكرة الحروب ..

نشأت مع أقراني على هذا الطبع ..

وعندما طلبت فتاة القاعة، رافعة اصبعها طالبة الحديث؛ سرني الأستماع الى أنثى تمتلك شجاعة أن تقول وتبوح بما يعتمل فيه ذهنها من أفكار :

– استاذ.. ألا تعتقد ان الحياة أكثر بلاغة من عروض المسرح ؟

كنت أجلس وراء منضدة، متنبها الى الحاضرين بعد اكمال محاضرتي عن (المسرح والحياة) .

تأملت الأصبع والوجه والصوت.. ونسيت السؤال ؟

نبهني مدير الجلسة الى السؤال.. فطلبت اعادته، فأعادته برقة وابتسامة ورغبة في الوصول الى الاجابة السليمة.

أجبت.. لا أذكر اجابتي.. غير أنها – كما اعتقد – لاتخرج عن اطار تأييدي المطلق الى ان هناك مشاهد حية.. أغنى بكثير من كل عروض المسرح؛ بل من الفنون والآداب.. وان الفن – أي فن من الفنون – ينتقي مشهداً أو موقفاً من الحياة، ويشتغل عليه على وفق رؤية خاصة، ويمكن للآخرين الاشتغال عليه برؤى مختلفة.. وأسوأ ما يحدث فشل الفن.. ان يكون ايقاع الحياة أشمل معنى واعمق بلاغة ودلالة وتأثيراً.. وحين حدقت بوجه الفتاة، وصلني احساس بالامتنان والشكر و..واتمادى في احساس للقول بأنه يحمل طابع (الأعجاب). الاعجاب بشخصي او محاضرتي او إجابتي.. وكل هذه المواصفات تنم عن إرتياح عميق وصلني منها.. والوصول ليس كما واقع الأمر الذي لم ادركه الا عندما تقدمت الفتاة مني سائلة :

– استاذ.. هل يمكنني الحديث معك خارج القاعة ؟

فوجئت بطلبها، ولم أكن حتى أن أحلم به او توقعه على وفق أي تصور كان .

على عجل، وخشية ان تغير طلبها قلت :

– بالتأكيد ..

وبسرعة ودعت زملائي، ثم خرجنا سوية .

سرنا في شارع بامتداد الأفق.. وامتداد الأشجار.. كان خالياً من المارة الا القليل.. كانت تونس نائمة في ذلك الوقت، تقضي قيلولة بعد الدوام الرسمي ..

سألتني عني، كنت صريحاً معها.. سألتني ما إذا كنت اريد معرفة شيء عنها، أجبت: يكفي أنني عرفتك ..

عادت تسألني : ماذا عرفت عني، انا مجرد شكل، وفي أحسن الأحوال قد أكون لوحة جميلة في نظرك.. هل هذا يكفي كي تكون على معرفة بتفاصيل عالمي ؟

– للوجه احساس.. لو لم نكن نحس بالألوان والحركة، ما كانت لوحة، وانما مجرد خشبة وبقع من الألوان.. نحن من يبعث الحياة في اللوحة .

– وهل بعثت الحياة فيّ ؟

– بالتأكيد ..

– كم أنت واثق من نفسك ..

– من لا يثق بنفسه.. لايمكن ان يثق بالآخرين ..

ابتسمت.. كانت تريد ان تجرني الى حوارات طويلة ونقاشات متشابكة وافكار متعددة.. كانت تريدني – كما اعتقد – ان اكون حقل تجارب لحياة تمارسها بحرية .

– ماذا يوحي اليك إلحاحي في امتداد الحوار بيننا ؟

– بصراحة.. بصراحة ..

– بكل صراحة ..

– انه ينم عن أمور كثيرة منها.. أن يكون الأمر مجرد فضول في معرفة هذا الرجل القادم من العراق، او اكتشاف إنسان تريدينه حقل تجارب لمسألة دراسية علمية.. او.. او تريدين ان تكوني قريبة منه ؟

إبتسمت وأجابت :

– ماذا تقول إذا أجبت بأنني اريدك لهذه الامور مجتمعة.. فضول مني، واكتشاف شخصية أثارت إنتباهي وأنا طبيبة في علم النفس.. لأعرف ما سر هذا الانتباه اليك دون غيرك، وربما . أقول ربما.. نكون أصدقاء !وجدت راحة في إجابتها.. وراحة في صراحتي معها.. وراحة امتلكت علينا السؤال والجواب.. فيما كان المساء النيساني يتقدم الوقت.. والوقت يتجه نحو الظلام، والظلام الى موعد قد يمدنا الى زمن يتواصل من دون إنقطاع .

إقترحنا ان نتناول طعامنا في أقرب مطعم نمر به.. اعتذرت.. قالت تكفينا شرائح جبن بالخبز.. رفضتُ.. وأصرتْ ..استجبت لأصرارها.. اقترحت ان نقضي المساء في مشاهدة مسرحية على مدرجات مسرح قرطاج.. اعجبتني الفكرة ..

اقلتنا الحافلة للمكان.. كان جمع من الناس يجلسون في الهواء الطلق على مقاعد حجرية.. وهم يتمتعون بنسائم المساء ومتعة مشاهدة عرض مسرحي هناك .

(2)

متلاصقان جلسنا على المقعد الحجري، وحولنا جمع كبير من المتفرجين وقد إنصرفت أنظارهم الى المشهد المسرحي ..

كنت أحس بدفء جسدها من دون أن أحرك ساكناً، كما لو كنت أخشى على هذا الدفء ان يزول ويختــــفي فجأة .

كان المقعد الحجري بارداً، لكن دفء الملاصقة في جلستي تلك كان يبعث فيّ نشوة ولذة.. لم آلفها من قبل .التصقت يدي بيدها.. وأبقيت على يدي في المكان لئلا تبتعد اليد الأخرى ..

فوجئت بأصابعها تتحرك، تشتبك بأصابعي في الظلام .. كان الجميع يتابعون الأحداث.. فيما أحداثنا كانت تمضي بلون آخر، وبأتجاه مختلف .

كانت أصابعها لاتشبة أصابع أمي التي كنت اعشقها وهي تعمل في كل تفاصيل البيت من دون ان تتعب اصابعها .

اصابع امي تستقيم وتتعرج وتنفتح وتلتوي على وفق طبيعة ما تمسك.. اما أصابع (رفاه) فكانت اصابع مختلفة، أصابع لم آلف شبيهاً لها فيما شاهدت من كل الأصابع البشرية .. !

كانت طويلة ونحيفة وممتلئة وباذخة وناعمة.. لاتصلح الا للعزف على أوتار القلب والروح والجسد ..

كان قلبي يخفق على غير عهده.. حتى خشيت عليه من الانفلات عن جسدي، فيما حلقّت روحي.. مثل حمامة بيضاء في سماء زرقاء صافية.. كنت خائفاً من إكتشاف أصابعي !

ولاحظت أن اعضاء في جسدي بدأت تتحرك وتحفزني على إيلائها قدراً من الأهتمام ..

كانت أصابعنا معاً تشتبك في لمسات ناعمة، خجولة، حذرة.. غير أنها راحت تقوى على بعضها شيئاً فشيئاً ..

كان الصمت يضج في عالمينا.. فيما كانت أصابعنا تتشابك.. ويمتد بها الأشتباك الى الصراع والى الدخول في الاصبع الآخر وفي يد الآخر، في كل الآخر..وخشيت ان تتبين الفراغ بين إصابع يدي ..

أصابع سرية تضج بالحركة والحرارة والغريزة والرغبة والدهشة والسحر ..

أصابع بها لذة حليب الأنثى، وعرق الرجل ..

بها أحاسيس شتى، وبها رغبة متعددة لاتريد أن تؤجل مواعيدها . كانت رفاه تلتصق بي.. تعطيني من الدفء سخونته، واعطيها من السخونة جمرات.. فيما المسافة بيننا كانت قد ألغيت تماماً، حتى أننا نسينا كل ما يحيط بنا ..كانت أصابعنا تعمل في الخفاء ما لم تعمل في العلن طوال حياتها.. أصابع لامرئية تملأ الزمان والمكان والكون كله.. تملأ علينا ذلك الماضي المشحون بالتوتر والخطر والرهبة.. مثلما تملأ علينا الحاضر بكل ما يحمله من هموم وضغوطات نفسية ومشكلات يومية .كذلك.. كان المستقبل في تلك اللحظة يكفينا.. به نحيا ما أسعدنا من حياة، وعلى وفقه نموت فما أجمله من موت لذيذ ..أصابع تحيا، تتوهج.. الضوء فيها يبدد عتمة مدرجات مسرح قرطاج بكل إتساعه ..

كنت أحس بأن وجودي كله قد أنصهر في اصابعي تلك..

كانت تنظرني وتبتسم.. وانظرها وابتسم ..

كانت اصابعها تحدثني وتشدني وتقبلني بقوة.. قوة إمتلكت صبا انثى وكتمانها كله.. كانت الرغبات تشتعل في كل واحد منا.. حتى وجدنا أنفسنا أننا ننصهر ببعضنا، نذوب ونتحول الى دفء لماء ينبعث من قلب الصخر الذي نجلس فوقه فيما يتسلل الدفء الى نهر صافٍ.. كما اللؤلؤ أوالمحار أو الجواهر ..

لم نكن نعرف شيئاً مما يجري حولنا.. كانت أنظارنا تحدق في المشهد المسرحي، فيما كانت أرواح سحرية تخترق أجسادنا وتنظر الى دقائق وتفاصيل كل جزيئة تحتويها أبداننا.. أصابعنا كانت مجردة.. عارية.. عريها يضج بالرغبات ..

عريها لذة تتفوق على كل شيء وتعلو فوق كل العوالم الحيطة بنا..

أصابعنا.. من وسلوى، وأصابعي جداول مائية تشق طريقها الى ذاك الأحلى من الحلا.. حتى لأحس بطعم لم أعرف مديات اللذة فيه من قبل أبداً.. وإن كنت حذراً على الخنصر المقطوع من يدي ..

كانت اصابعنا تتعب أحياناً فتستريح قليلاً، وتستعد للأنتقال الى جولة أخرى من بهاء العمل الذي يباهي نفسه بالنشوة والحبور.. وتئن الأصابع، وتتعانق بحماس وتغوص.. تغوص.. الأصابع في الأصابع.. تغوص وتذوب من لذة، وتحيا من رغبة، وتئن من سعادة، وتصرخ من حياة أجمل ما فيها هذا اللقاء الذي تلتقي فيه الكائنات كلها على الخير والمودة والبهاء ..

لم تعد أصابعي.. أصابعي التي اعرفها.. ولم تكن أصابعها تلك الاصابع التي تعرفها.. اصابعنا كانت تمضي في عوالم اخرى.. في رغبات لا تعرف التأجيل ولا الحذر ولا الانتظار.. كانت تلغي كل الأزمنة وتمتد الى كل الأمكنة.. يتسلل وجودها الى كل خلية فينا .. كان العالم من حولنا يشتعل بغابات من اللذة والانشراح، كان العرق يتدفق من اصابعنا وكنا نستحم بماء من زلال.. فيما يندفع ضوء سخي من كل خلية من خلايانا ثم نسترخي ونحن مملوءون بالحياة السعيدة.. ثم.. ثم تفاجئني:

– أين أصبعك الصغير.. خنصرك ؟

أجبتها وأنا مطمئن الى صدقي معها :

– ألم أقل لك إنني عراقي.. وما من عراقي لم تأكل منه الحروب شيئاً.. ما من أحد !

فوجئت بصمتها.. وحين حدقت بوجهها في الظلام بدا بريق دموع في عينيها وهي تنهمر ..


* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى