هوشنك أوسي (*) - أول يوم في المدرسة، استعدادا للدراسة.. صورة وصرخة وباب حديد!

في إحدى صباحات صيف 1983، أمسكتْ جدّتي بيدي، وأخذتني إلى السّوق. قلبي قلبُ عصفورٍ، يغرِّدُ مِن الفرح والسّعادة. ظننتُ أنّها ستشتري لي حلوى، فخاب ظنّي وأملي. أدخلتني إلى دكّانٍ بواجهة من الألمنيوم والبلوّر. رجلٌ بنظّارات سميكة، ووجهٍ متطاولٍ، وملامحَ خشنة، جالسٌ خلف طاولة من الحديد، عليها لوح زجاجي، تحته صور فوتوغرافيّة لأناس، لا أعرفهم. أدخلني الرّجلُ إلى غرفة خلفيّة شديدة العتمة. لم يمشّط شعري، لم يقل: "ابتسم، كي تظهر الصّورة جميلة". أجلسني على مقعد، وقال: "ركّز نظرك على هنا" مشيرًا إلى عين الكاميرا. ولأنّني شحيح البصر أصلاً، ضاعت الكاميرا والمصوّر وسط تلك العتمة اللزّجة التي ابتلعت المكان.

"أقول لك: أنظر هنا، هنا". كرّرها عدّة مرّات، مزمجرًا، بسخط وغضب، ولم يراعِ حالتي الصّحيّة والنّفسيّة البائسة، ربّما لأنّه يجهل ذلك. الجهلُ شفيعُ الجاهل وسُمُّه. صار يمسك برأسي، ويكرر: "لا تحرّك رأسك، وركّز هنا"، ضاغطًا على جمجمتي بكلتا يديه الغليظتين. سيطرَ عليَّ خليطٌ من الخوف، الحزن والعجز، أفقدني النّطق، كأنّني أصبتُ بالخرس. دمعت عيناي. وأخيرًا، التقط المصوّرُ لي صورةً شمسيّةً؛ أبيض وأسود، كي استكمل أوراق الدخول إلى المدرسة. تلك كانت البداية الأولى غير المبشّرة لطفلٍ يحضّرُ نفسهُ ليكونَ تلميذًا.

جرى ذلك صبيحة الأوّل من سبتمبر 1983. كدخولٍ متعثِّرٍ إلى المجهول في رابعة النّهار، كان الأمرُ مصحوبًا بالخوف والقلق، والترقُّب. وجدتُ نفسي على مقاعد خشبيّة، مع جمهرة من الأطفال، أعرفُ منهم اثنين أو ثلاثة، والبقية؛ ذكورًا وإناثًا، كانوا غرباء. أخي الذي يصغرني بعام، إلى جواري. لأنّني تأخّرت على دخول المدرسة عامًا كاملاً. طفلٌ كرديٌّ، لا يفقه من اللّغة العربيّة شيئًا، غير الشّتائم التي يتقاذفها الأطفال في الشّارع. مكان مجهول، لغة مجهولة، أشخاص وأطفال مجهولين، وسط هذه المجاهيل، عليَّ اكتشافُ نفسي، وأثباتُ وجودي. لكن، كيف؟!

لم أفهمُ شيئًا من تلك السّيدة الجميلة التي تتحدّث إلينا بلغةٍ ليست غريبة لغة أمّي وجدّتي التي نتكلّم بها في البيت! فاتنة، بجديلة سميكة وطويلة، تنحدر بدلال على صدرها، جهة اليسار. ترتدي قمصًا أخضرَ داكنًا، زاد من بياض عنقها وبشرتها. عينان واسعتان لوزيتان، يعلوهما حجبان قوسان مشذّبان. الأنف دقيق، والفمُ خاتم، والخدّان درّاقتان ورديتان. اسمها ماري، من القامشلي. رقيقة، شديدة العذوبة، تفيض أنوثةً وسحرًا. وهي تتحدّث إلينا، ترشدنا، تعطينا المعلومات الأوليّة لبدء الدراسة. وأنا أجهل ما يقوله لسانها، وأشعرُ بدفء ما تقوله لغة جسدها. ماري السريانيّة فتحت لي نافذة اللغة العربيّة، وجعلتني أتهجّى الأحرف، وأحفظ الأرقام، وغادرتنا بسرعة. حلّت محلّها مدرّسة جميلة أخرى، لكن عصبيّة المزاج، اسمها أمل. ويا ليتها كان لها من أسمها شيء! ذات يوم، سهوت، وظننت أنّني في البيت.

تحدّثت همسًا إلى أخي الذي يجاورني في المعقد بالكرديّة. أذنا أمل كانت كأذني قطة، وثعلب، وذئب، فالتقطت الهمس الكردي الذي دار بيننا. صرخت في وجهي وضربتي على يدي وقالت: "ميت مرّة قلت لك: لا تحكي بهذا اللسان الأعوج"! حدقّت في عينيّ بغضب، وفي داخلها بركانٌ من الفاشيّة يغلي، كأنّني قاتل أبيها! استسلمت للبكاء من العجز والرّعب.

مسكينة تلك الـ"أمل"؛ المعلّمة التي أتت من طرطوس في السّاحل السوري، كي تكرّهني في اللّغة الكرديّة، وتحببني في اللّغة العربيّة. لم يكن مقصدها شريفًا طبعًا. لكن، لقمة عيشها كانت مغموسة في سمن البعث وعسل فاشيّة النّظام. مسكينة أمل، هكذا علّمها ولقّنها نظامها السّياسي الذي ما يزال يحكم البلاد والعباد. هكذا علّمها بعثها الفاشي؛ كيف تقسو على أطفال كورد، كي يتحوّلوا إلى عرب.

تعلّمت من أمل حبّ اللّغة العربيّة، ولم أتعلّم منها كراهية العرب. تعلّمت منها كيف أراقص اللّغة العربيّة، كمَن يراقص عشيقته، بحساسيّة الكردي الذي يعزف على النّاي في البراري، أو على قمم جبال كردستان، ولم أهجر اللّغة الكرديّة. هكذا كُنت، ولمّا أزل؛ ذلك الطّفل الذي بلغ السّابعة والأربعين من عمره، وما زال يجهل؛ لماذا جدران مدرستهِ كانت عالية جدًّا كجدران سجن؟ بابها كبير من الحديد، بطلاء أسود، تكبّلهُ تلك الأقفال والسّلاسل، كأنّه باب ثكنة عسكريّة؟!




* هوشنك أوسي، كاتب، شاعر، صحفي وروائي سوري كردي، من مواليد عام 1976. صدر له حتى الآن تسع دواوين شعرية باللغتين العربية والكردية. منها «لا أزل إلا صمتك» الصادرة عن دار بتانة للنشر والتوزيع عام 2020، و«بعيني غراب عجوز» عن دار خطوط وظلال في الأردن، وله ثلاث روايات منها «وطأة يقين؛ محنة السؤال وشهوة الخيال» التي فازت بجائزة كتارا للرواية العربية عن فئة الروايات المنشورة عام 2017.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى