د. فاتحة الطايب - ابن بطّوطة ، الإنسان الكوني !

"إن الذات التي لا تنتمي إلى وطن خاص ، ذات لا تملك ما يخول لها السعي وراء المواطنة الكونية لأنها تعد في هذه الحالة على هامش العالم ."

من المؤكد أن الشاب الطنجي ابن بطّوطة1(1304-1377م)، ثنائي اللغة والثقافة :عربية –أمازيغية2، الذي غادر المغرب المريني سنة 1325م قصد أداء فريضة الحج، لم يكن يشبه غالبية الشباب المسلم الذي شد الرحال ساعتها إلى الحجاز، فهو ابن "طنجة" التي يصل موقعها الجغرافي القارة الإفريقية بالقارة الأوروبية ،وتترجم ثقافتها الاجتماعية بصمات عوالم متداخلة أكسبت أهلها، إجمالا ،أسلوب حياة حضري متفتح على "الآخر".
من المؤكد، في المقابل، أن ابن بطّوطة الكهل الذي استقر في بلده بعد رحلات دامت ثمانية وعشرين سنة، عاد إلى المغرب سنة 1353م وقد بصمته، علاوة على التجربة العمرية، مختلف العوالم الثقافية التي تفاعل معها كما لم يتفاعل أي رحالة قبله شرقا وغربا. لقد عاد ابن بطّوطة وفي جعبته حكايات عجيبة عن حياة الإنسان في القرن الرابع عشر أثمرت تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار3 التي تندرج ضمن التراث الإنساني. عاد ابن بطّوطة إلى بلده نهائيا، إذا، بتصور مختلف شيدته سياحته في العالم الإسلامي وأجزاء من العالم غير الإسلامي. وكم كنا نتمنى لو أنه قيد يومياته بعد استقراره في "تامسنا" لنتمكن من قياس درجة الاختلاف بينه وبين مواطنيه، الذين لا يتقاسمون معه التجربة الفريدة نفسها. . واقع الأمر أن فرادة تجربة الرحالة المغربي، لا تكمن فقط في تفوقه على أبناء عصره شرقا وغربا بالمسافة الطويلة التي قطعها ،و تصل إلى حوالي مائة وعشرين ألف كيلومتر، وإنما تكمن أيضا في استعداده الفطري والثقافي لاختراق حدود اللغات والثقافات وقدرته الفائقة على التفاعل والتواصل. مع العلم، أن مرتكزات التواصل لدى ابن بطّوطة تختلف ما بين سياحته في العالم الإسلامي والسياحة في أجزاء من العالم الأوروبي المسيحي، فغالبا ما كان يقدم نفسه ويستقبل في العالم الإسلامي بصفته "مغربيا"، في حين كان يقدم نفسه ويستقبل في العالم المسيحي بصفته "مسلما".
كان ابن بطّوطة يلجأ في العالم الإسلامي إلى تخصيص الهوية في بداية لقائه بأبناء الشعوب الإسلامية الذين تواصل معهم، على أساس التكيف الناجح لثقافة الإسلام مع مختلف الأنماط الثقافية المحلية4 الخاصة بالشعوب التي تتشكل منها الأمة الإسلامية. وهذا يعني، أن الانتماء إلى الأمة الإسلامية يشمل بالنسبة إلى ابن بطّوطة الانتماء بالضرورة إلى وطن يملك خصوصية تغذي الاندماج ولا تعيقه ،في ظل ديانة لا تفرق بين العربي والأعجمي إلا بالتقوى.
إن إحساس ابن بطّوطة بأنه في بيته في العالم الإسلامي إحساس نابع من توفره على بيت خاص، به يعرف ويثمن وإليه يعود ليوازن ويقارن. وقد أكد رحال الملة الإسلامية التلازم بين الانتماء إلى الوطن والانتماء إلى الأمة الإسلامية معا، بمساندة طموح المغرب المريني إلى تقلد دور موحد الأمة ،بعد أن لاحظ في أثناء سياحته الطويلة في الأرض تفككها الداخلي وتهديد الآخر المسيحي لها. ما يفيد، أن انتماء ابن بطّوطة إلى عالم القرون الوسطى المنقسم إلى دارين متصارعتين متنافرتين بالرغم من تواصلهما، كان ينطلق من الولاء التام لأمة إسلامية موحدة تتضمن فسيفساء من الأمم العربية والأعجمية التي تملك تواريخها الخاصة وثقافاتها المندمجة في بعضها البعض بفضل وحدة الدين الإسلامي الذي يسع كل الثقافات.
لقد تجلت روح ابن بطّوطة الكونية أول ما تجلت في رحاب البلدان والأقاليم الإسلامية، يترجمها من ناحية تحرره -في المجمل- من العنصرية والتعصب والرؤية الضيقة بشكل لافت للنظر مقارنة بمعاصريه، ومن ناحية ثانية إقباله الشغوف على المختلف واغتنامه الفرص المتاحة للتعرف على حضارة "آخر" دار الإسلام ، كما هو الشأن بالنسبة إلى القسطنطينية. فمما ساعد "السراكنو"-"الطالب المسلم" وهو في العاصمة البيزنطية على التحرر من سلطة ضغط الموروث وواقع العلاقات بين الدارين ،اللذين يبصمان الرحلة في أكثر من موضع ، تركيبته الشخصية والثقافية الفريدة. فبفضل هذا النوع من التركيبة أبدى ابن بطّوطة تسامحا ملحوظا مع الديانة المسيحية ونوه بالمستوى الحضاري العالي للنموذج المسيحي البيزنطي، الذي اقترب منه مدة شهر وستة أيام اختفت خلالها ثنائية دار الإيمان/ دار الكفر من قاموسه تماما ، لتحل محلها محاولة إنسانية جادة لتقبل الاختلاف وإشادة موضوعية بالحضارة البيزنطية التي لا يرد الحديث عنها في الرحلة إلا وهي مقرونة بصفة العظمة .
وإذا كانت الفروق الجوهرية بين الأورثوذوكسية والإسلام، إضافة إلى الاختلاف اللغوي ودبلوماسية المضيف المتحفظة في ظل توتر العلاقة بين الدارين، عوامل حالت دون أن يحس ابن بطّوطة أنه في بيته، فهي لم تمنعه في المقابل من أن يستمتع قدر الإمكان بكونه ضيفا على أهل ثقافة مختلفة وأن يحاول تأسيس علاقة لطف معهم .وهنا يكمن تميزه. بهذا نستنتج أن مواطنة ابن بطّوطة الكونية في القرون الوسطى تتأسس على بعدين اثنين متلازمين ،في ظل التسليم بأن "الشريعة الإسلامية هي الأساس الملائم للمجتمع الإنساني"،وهما: الاندماج التام في الأمة الإسلامية،و تأسيس علاقة لطف مع الآخر المختلف . ولعل ما يجمع بين هذين البعدين فضلا عن الوعي الكوني الذي تحدث عنه الناقد عبد الفتاح كيليطو5 ،هو الحس الحضاري الذي يتمتع به الرحالة المغربي، فسواء تعلق الأمر بالعالم الإسلامي أم بالعالم غير الإسلامي ،فإن عملية الاستكشاف لديه توظف وسائل الحوار والتواصل المتوفرة في الفضاء الذي يستكشفه.
. إن تضافر الوعي الكوني مع الحس الحضاري، هو الذي خول لابن بطّوطة أن يصبح في النهاية "علما مفردا" استطاع نسبيا أن يحقق في زمنه معادلة صعبة التحقق: الانتماء إلى الوطن والأمة وتأسيس علاقة لطف مع "الآخر". مما يستفاد منه، بأن الذات التي لا تنتمي إلى وطن خاص ،ذات لا تملك ما يخول لها السعي وراء المواطنة الكونية لأنها تعد في هذه الحالة على هامش العالم .



.............................
الهوامش:
1-محمد بن عبد الله بن محمّد اللواتيّ الطنجيّ.
2-ينتمي ابن بطوطة إلى قبيلة لواتة الأمازيغية، وتحفل الرحلة ببصمات هذا الانتماء حيث تحضر العناصر الحضارية المغربية الموظفة للمقارنة مع العناصر الأجنبية باللغة الأمازيغية تعميما (أفراك / أنلي /أفكاي/...).
3-تحقيق عبد الهادي التازي ،مطبوعات أكاديميّة المملكة المغربيّة،سلسلة " التراث"، 1997
4-روس.إ.دان، مغامرات ابن بطوطة الرحالة المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي ، ترجمة أحمد بوحسن ، مراجعة عبد الأحد السبتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، ،ص. 25
5- انظر: Abdelfattah Kilito , « Ibn Battùta : Les raisons du voyage »,in :Tanger : espace imaginaire , la Faculté des lettres et des Sciences Humaines de Rabat et l’Ecole Supérieur Roi Fahd de Traduction de Tanger , n° 710, 1992




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى