علي حزين - حالة خاصة..

غداً أول يوم في العام الدراسي الجديد, لم أشعر بالغبطة كالأطفال . ولم أشاركهم المرح , ولعبة " الإستخباء " فقط اكتفيت بترتيب ثيابي .. ملأت الشنطة القديمة بكراريسي الجديدة, أحسست بشعور غريب .. يصحبه ألم في بطني .. دوماً ينتابني هذا الإحساس في ليلة الامتحانات, أو عندما أنتظر " هدي " وهي عائدة من المدرسة ..
ــ غداً سأراها .. بعد غياب طويل .. خمسة أشهر مرت .. وكأنها دهر ..
شعرت بالاختناق فجأة , خرجت أمشط الشوارع المزدحمة .. لاحظت عيناي طفلاً تكاد السعادة تفسخ صفحات وجهه الأسمر, دفعني حب الفضول للاقتراب منه .. أسمعهوهو يقول لأبيه , بصوت ملئ بالنشوة , والسعادة ...
ــ أنا أريد شنطة مثل أشرف يا بابا ..؟
الأب تحمل عيونه الخوف , والقلق .. من الأسعار التي تصرخ من جوف "الفتر ينات".. فالغلاء قد أحرقه حتى النخاع يتحسس الأب جيبه وهو يقف أمام كل فترينه, لتلتهم عيونه الأرقام الخيالية المتوحشة.. يمصـ مص سنين الماضي بين شفتيه , ويترحم علي أيام زمان .. الطفل لايدع أبيه يغرق في ركام ذكرياته المتداعية .. يهزّه هزة عنيفة.. وكأنه ينتشله من مستنقع الذكريات البالية .. وهو يشير إلى إحدى " الشُنط"...
ــ لكنها يا أبني غالية قوي ..؟
يبكي الطفل وهو يضرب بقدميه علي الأرض, ويطيح بيديه في الهواء في حركة عشوائية .. ُيَهددهُ الأب بنظراته الحاده .. يجذبه وهو يقرض علي شفتيه .. من الغيظ , وقلة الحيلة ..
ــ أسكت سنشتري من هناك ..!
وجدتني مشدوداً خلفهما .. لا ادري لماذا ..؟.. ربما تعاطفاً مع الابن الصغير.. أو ربما لأن الأب حالته تشبه حالة أبي .. وربما لأني كنت أريد أن أعرف نهاية القصة ..؟ وربما شيئاً اخر لا أدرية ..؟ ..
ــ " ماتفتح يا أعمى .. ماشي وأنت نائم " ..
تنبهت .. نظرت إلى سائق " التاكسي " في هدوء , بادرته بابتسامة باهته قائلاً له :
ــ ولا يهمك ..
ــ كيف ..؟! .. ولما تجيب لنا مصيبة ..؟! ..
واصلت ابتسامتي .. وأنا اتجاوز الشارع الطويل , المزدحم كيوم الحشر ..أبحث عن الصغير وأبيه , فغداً أول يوم في العام الدراسي .. والكل في الخارج , لشراء المستلزمات الدراسية.. صعدت علي الرصيف .. والعربة وتغوص وسط الزحام , يتحوقل الناس, ويرمونني بنظرات اللامبالاة ..
تذكرت ذاك الرجل الذي يبحث عن شنطة لأبنه الصغير, كان مرابطاً أمام إحدى الشركات التي أعلنت عن " الاوكازيون الصيفي الكبير " أقترب منهما .. علي مهل .. اسمعهما .. يبتسم الأب وهو يقول لأبنه :
ــ ما رأيك في هذه ...؟
ــ لا , أنا أريد الثانية يا بابا ..؟!!..
ــ يا ولدي الفلوس قليلة, وأخوتك البنات لم أشتري لهنّ أي حاجة حتى الأن ..؟!
بدأ الطفل وكأنه يتفهم ما يعنيه أبيه .. فعلت وجهه مسحة من الشفقة .. وكأن الأب خدر مشاعره الصغيرة بكلماته .. فقلب فرحته إلي شعور بالمرارة .. ظِلْلتُ .. أرقبهما من خلف الزجاج عن كثب, برهة خرج الأب بعد حين , تعلو شفتيه ابتسامة عريضة وكأنه يُعلن انتصاره علي الغلاء المتوحش, أسمعه وهو يقول لأبنه.. وهو يقلب في الشنطة الزرقاء :
ــ ما رأيتك ..؟
ــ لكن ليس بها الا جيب واحد ..؟
ــ ............
وظلت واقفاُ مكاني حتى غابا عن بصري وسط الزحام .. نظرت في ساعة معصمي .. كانت الساعة العاشرة مساءً .. والشوارع ما انفكت تموج بالناس, والصخب ينبعث من كل مكان .. الافتات بألوانها الزاهية تشد الانتباه, قرأت اغلبها, وأحفظ الكثير منها عن ظهر قلب , ولكني لا اعرف شيئاً عن أصحابها .. البيت يتراءى ليّ , من بعيد ..
غرفتي أحسها أحياناً صحراء قاحلة .. وأحياناً أراها ضيقة .. وأحياناً أشعر فيها بالسعادة .. وأحياناً اخرى أبكي فيها , دون أن يراني أحد .. وأحياناً .... وأحياناً ..... لكنها دوماً تشعرني بأني أملك شيئاً ما .. لا ينازعني فيه أحد , غير أن أصوات الصبية الصغار , وهم يلعبون في الشارع , خلف الشباك , بالكرة .. يقلقني .. يستفزني .. يثير حافظتي .. يشتت أفكاري.. التي احاول ان أجمعها .. لأتم قصتي التي لم تكتمل بعد .. فأراني أطاردهم , وأنا أكيل لهم , ولآبائهم , الشتائم .. والسباب... ا
لليل فقط هو الوحيد هو الذي يخلصني منهم جميعاً ... وغداً أيضاً .. سأكون سعيداً جداً .. لآنه أول يوم في العام الدراسي ...

*******************************
من مجموعتي القصصية (( حفيف السنابل))
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى