شهادات خاصة حسين دعسة - شهادة* عن تلك القصّة الطَّيف!

..ممّا مسَّني ذات غرام، قبل أكثر من أربعة عقود اكتشفتُ أنني أشاهد طيفَ ما يلاحقني، منذ كتبتُ قصّة (الشيخ عبّاس) التي سافَرَت من بين يديّ عبْر البريد العادي، إلى صفحات مجلة "المستقبل" الباريسيّة.. وقتئذ لملمتُ طيفَها وحيدًا، غنيًّا بمخيال شرقي أنيس بإشاراتِ وتنبيهاتِ الكاتب الشاب بداية العام 1977.
كان للمجلّات السياسيّة العربيّة كـَ"الحوادث" و"كلّ العرب" و"الوطن العربي" و"المستقبل"، المُهاجرة إلى أوروبا سحرها الخاص ودهشة التلقّي وعنفوان الحريّة.
شكَّلَت الكتابةُ عندي، صدور قرار، نبَّهني فتاهت وغابت الحكاية سنوات طوال، طيفكِ، أصابَني شتَّت الحكايات ونسيتُ أنّني غازلتُكِ وما زلتِ من أوَّل.. أوَّل أمس(...) تتبادلين الأماكن عبْر أزمنة الخرائط، تلك التي كلَّما تغيَّرت التصَقَت بها حكاياتُنا من جديد.
.. فأيّ كتابة كنتِ؟
كأنَّها تلك المسافة بين ومضة وأخرى.
وجدتُ حريَّتي تتفلَّتُ من وهج دفاتر وكرَّاسات، تنوء بما في نبضِها من أزمنة؛ ذلك أنَّها شهقة اللاجئ والمهاجر، والممسوس، عاشقًا لموسيقى تناثرت عبْر المنفى، في زقاق المخيَّم الذي حدَّد مجالُه أفقَ حكاياتِنا، وتلك الحكايات الشفاهيّة التي تبادلها الناس في عنفوان النَّظرة إلى الآتي!
في هذه القصص، كلَّمتُ وكلَّمَني هاتف المغيب من على ضفاف النيل، وشواطئ مخاضة نهر الأردن، وشغف نهر دجلة الخيِّر.
يأتيني الطَّيف، يقلِّب معي خربشات كثيرة، باتت كلمات تنحاز إلى الصَّمت والنَّبش والتعرّي، فكنتُ ضحيّة تلك الأمنيات ونالني من حرائق الشُّموع ما نال فضّة روحي اللُّجين المعتَّق، لأنَّني كنتُ أسمع خلاخيل أُمّي تتراقص في ليل الدُّروب بين البيَّارات، تلاحق ثعالب الزَّرع والثوّار الصِّغار ونزوات أخرى، ليس منها سَقْي الأشجار وقد حطَّ بينها زرق العيون وأشباح غريبة لم تخرج من حكايات جدَّتي سارة، ولم تكن عن مَن فَتَلوا شواربهم استعدادًا لحمل البنادق القديمة؛ ولا عن تلك البراءة في سقف بيوت برّاكيّات المخيَّم بالبوص وقصب الماء، وتربيه بخيوط القنَّب والكتمان، وهي قصّة أشغلتنا بها جدَّتي عن الحروب الصغيرة التي كانت تجري داخل بيوت المخيَّم.
المهم؛ قصتي ليست هنا(...)، هنا طيفكِ وبعض الحكمة.
كأنها حرير الروح تهبُني ألقَها وتصقلُ صورة الطَّيف وقد نالَ وسْم الحُبّ من رملٍ وطينٍ وبرتقال.
.... ظَهَرَ في الرُّؤيا أنَّني أتأمَّل دائرة القمر، خجلتُ من غباشٍ أصاب بَصَري، كان طيفكِ يتصارع مع ظلِّ القمر على صفحةِ النَّهر، وباتَ قمرُكِ يُرسل لي القُبَل.
.. وظهر، أيضًا أنَّني وشَّحتُ صدرَ القمر بظلال أصابعي التي تعطَّرَت بأصابع، غارَ النيل وتبادَلَ مع أصابعي رقّة اليمام الخافي.
تلك الكتابة وهذه المجموعة هنا، هي مدارج الرُّوح، وفق سردٍ ينبشُ في خاصرة مُتعبة، بريدُها ذاكرةٌ إنسانيّةٌ تمتدُّ إلى نصف قرن من خوض الحروب الصغيرة بألعاب، هي بأقمارها وأنهارها وأسواقها وغرف نومها؛ لعب أطفال.
تلك القصص النادرة، بثَّها قلب معمّم بالتجلّيات والإشارات والتنبيهات.. عاش وعاش، يقرأ تائهًا "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة" و"رحلات جلفر"، ويرسم تلك التوابيت والأكفان، يراها كالوشم في قلب بصماتٍ لأصابع احتَرَقَت بالنُّور الصّاعد من بين تراب وحقول وسراب يتناثر هنا وهناك؛ ذلك أنّه يتبع خيط الدّم.

.. هي لكُم، فقد خسرتُ معركة الإخفاء.. ولبستُ طاقيّة الحُبّ، فكانت دليلي.

حسين دعسة
عمّان- الأردن ٢٠٢١


===================
* عن قلب البنفسج.. والوردة الحمراء
قصص قصیرة
حسین دعسة
عمّان- الأردن 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى