حسب الله‮ ‬يحيى - أصابع النساء

الى نقاء وبهاء ايزيديات وطني

أنا رجل مفتون بأصابع النساء .

أصابع النساء.. كائنات فاتنة متحركة تختلف عن جميع الكائنات التي تملأ الطبيعة بهاءً وألقاً .

وعلى وفق هذه الاصابع يمكن أن تقيس جمال المرأة بجميع تفاصيل جسدها.. وما من إمرأة تعنى بجمالها وأناقتها إلا وتبدأ بمراقبة أصابعها وجعلها السبيل الأمثل في مواجهة الآخرين .

كما ان اصابع المرأة تقودك مباشرة الى معرفة إن كانت آنسة او على عهدة الزواج او مقترنة برجل يتدبر التعامل مع هذه الأصابع طوال حياته معها ..

كانت قد مرت بحياتي أصابع نسوية وهذا لايعني أبداً أنني أباهي نفسي بتعدد العلاقات وانني رجل يفتن النساء بطلعة وجهه أو شبابه الآسر .

أنا.. على العكس من ذلك، رجل تستري لايقوى أحد على معرفة طبيعة علاقاته مع النساء.. فأنا أنظر الى طبيعة هذه العلاقة بوصفها في منتهى الخصوصية.. ومن أكثر الأمور فتنة وجمالاً فيها هو احتفاظها بسريتها والأخلاص لهذه السرية الى الأبد.

وقد جعلت هذه الطبيعة السرية الصميمية من حياتي.. حياة مستقرة.. آمنة بحيث لايكدرها نكد الزوجة ولا الحذر من معرفتها بتفاصيل خصوصياتي، ولا على الخجل من الأبناء ولا الحذر من المعارف والاصدقاء ولا فضول الآخرين الذين أمر بهم في طريقي كل يوم .

(2)

بأخلاص عميق أقول.. إن أصابع أمي كانت أجمل اصابع في العالم.. ولايمكن لي مقارنتها مع نساء الكون كله.. فقد كانت اصابع قدّت من الحنان.. وهذا أجمل ما فيها ..

نعم.. هناك من يقول إن كل الأمهات يمتلكن صفة الحنان بالفطرة التي تميز كل الأمهات.. وهذا يعني بدءاً ان كل أصابع الأمهات جميلة.. ومن هنا بدأ اعجابي واهتمامي وتعلقي بأصابع النساء ..

كانت أمي تحملني بأصابع يدها اليمنى.. تشدني على صدرها الدافىء، وتمكنت من تمرين يدها اليسرى على أداء جميع اعمال البيت .

كنت وأنا صغير أراقبها.. ورحت أشفق عليها، واشغل نفسي بالألعاب التي تعدها وكنت أستيقظ أحياناً فأجدها تخيط لي ألعاباً من الملابس القديمة او الطين او الخشب .

وحتى أخفف عنها ثقلي على صدرها، رحت أشغل نفسي بتلك الألعاب التي أتعبت نفسها اثناء فراغها من أجل صناعتها واعدادها لتسليتي ..

لا عليّ من أبي.. ذاك الأب الأثير الذي لايجد بهجته وسروره إلا بحضور أمي وبوجودي واخوتي واخواتي على مائدة الطعام.. ملتذين شبعين.. كان يجاملنا على تناول القليل.. وتفعل مثله أمي.. عن عفة واحترام وتضحية وعندما ننهض مع بقية الشمل عن المائدة متخمين وسخي الأصابع متجهين لغسلها.. يعدون اصابعهم ويبدأ دور أمي وأبي بتناول ما تبقى من الطعام ..

كنت أعاتبهما.. فيقلدني البقية.. معاتبين من دون ان يبالي أبي أو أمي بما نقوله ونكرره يومياً ..

تلك الأصابع.. قادتني الى مراقبة أصابع كل النساء.. من دون الرجال.. فقد كانت أصابع الرجال تقترن بأصابع أبي التي لم أكن اشاهدها إلا عند تناول الطعام.. وعلى وفق تلك المشاهدات القليلة التي كنت أعرف شغف صاحبها – أبي – بالعمل وتوفير مستلزمات حياتنا ..

كنت أحترم تلك الأصابع وأقدس فيها دأبها.. من دون أن أجد نفسي منشغلاً بها .

أصابع أمي.. كانت تشغلني وتتحول الى محور اهتمامي وانشغالي بعالم النساء ..

في البداية.. كانت أصابع المعلمات محط نظري.. وكنت أميز كل معلمة من خلال النظر الى أصابعها ..

حتى أن احدى المعلمات، سألتني مرة :

– حمودي.. لماذا تنظر الى أصابعي دائماً.. ما الذي تجده فيها ؟

فوجئت بالسؤال.. ولم اتمكن من أجابتها لفرط خجلي.. ومن حسن حظي، أنها لم تنتظر إجابتي طويلاً، وإنما عالجت الموقف، ودارت خجلي بابتسامة ورتبت على رأسي وراحت تشرح الدرس.. من دون ان يتنبه او ينشغل زملائي في الصف بالأمر.. وكان ذلك يسرني.. إلا أنني صرت منذ تلك اللحظة، أختلس النظر الى أصابع النساء، وأحذر أن تسألني واحدة من هن.. ذات السؤال الذي واجهتني به معلمتي ولم أملك جواباً له ..

(3)

كبرت وكبرت معي نظرتي للحياة وللمرأة بوجه خاص.. لكن الانشغال بأصابع النساء لم أتمكن من إلغائه من سيرة حياتي، بل صارت جزءاً أساسياً من هذه المسيرة الشاقة التي كنت أخوضها في اعمال يدوية شاقة ومن ثم في أعمال فكرية وإدارية اكثر ثقلاً على الذاكرة من المشاغل العضلية.. وذات ظهيرة، وجدت نفسي أجلس قبالة امرأة على مائدة طعام أعدت بعد ندوة فكرية مرهقة .

وما أن مدّت أصابعها لتناول قدح الماء.. حتى تمكنت من رصد أصابع يدها اليمنى.. فوجئت بخنصرها خالياً من خاتم الخطوبة.. وبقيت انتظر ان تمد يدها اليسرى اثناء تناول الطعام لأتبين ما إذا كانت متزوجة أم لا ؟

حضر الطعام.. وحضرت معه، رقابتي المشددة ونظراتي الثاقبة، أحسست بالطمأنينة والأسترخاء في جلستي بعد أن تبينت أن خنصر اصبعها اليسار كان خالياً من خاتم الخطوبة .

لكن هذه الطمأنينة لم تأخذ استقرارها طويلاً، وإنما راح القلق ينتابني.. وتساءلت: ربما كانت مطلقة أو أرملة.. أقول ربما، وهذا يعني أن كل الاحتمالات قائمة .

رحت ألوم وأعاتب نفسي على عجالتي :

– لماذا اوجه الأشياء على وفق مردودتها السلبية دائماً ؟

أجبت :

– لأنني عندما أصل الى ماهو إيجابي.. سأكون في غاية السعادة..

كان هو هذا منظوري للأمور على وفق هذه الصورة وفي معظم الأحوال التي كنت أمر بها . بقيت مشغولاً بأصابع يديها خلسة.. وأنا أتناول طعامي.. تنبهت الى اصابعها وهي تشير الى عامل الطعام.. معبرة عن حاجتها الى قدح من الماء.. فبادرت وقدمت لها قدحي.. شكرتني .

كان صوتها برقة الماء وعذوبته.. كان صوتاً ناعماً يتسلل الى القلب منذ الكلمة الأولى التي نطقت بها ..

ألححت.. وقدمت قدح الماء.. فأخذته وصار الماء يجري في قناة حنجرتها زلالاً هانئاً فرحاً بحنجرة تتغنى بكلمة الشكر ..

وعندما بدأنا بتناول الشاي، راحت المعلقة تعزف على القدح ليبدو الشاي بين اصابعها كما لو أنه آلة موسيقية ..

ليس بها حاجة إلا الى حنجرة ترافقها ..

بدا طعم الشاي في فمي حلواً اكثر مما هو معتاد مع انني لم اضع سوى الكــــمية القليلة التي اعتدت عليها ..

قلت مفتعلاً الحديث معها :

– يبدو ان السكر هنا حلو اكثر من اللازم .

إبتسمت . أحسست انها سرت بكلامي.. ربما عدّته.. طريقة أولى لمدّ جسور الحديث بيننا..

– ربما..

واسعدتني (ربما) هذه .

قدمت لي قدح شايها فوراً .. قالت :

– لم أضع فيه سكراً بعد ..

رفضت وأصرت.. أصرت ورفضت :

– نتبادل ..

وناولتها حلاوة روحي في قدح الشاي.. وناولتني بلهفة من تريد ان تعرف الرجل الذي أمامها.. (ربما) وربما تهدف الى ادارة حوار طويل.. من هذه الكلمات المنفردة ..

صار شايها في حنجرتي بعزف فيما راحت المعلقة تغني في قدح الشاي الخالي من السكر.. إبتسمت :

– الشاي خالٍ من السكر .

أردت أن أقول لها فوراً.. أنت سكرة، وخجلت من هذه العجالة التي أتمتع بها، سكت، حدقت في وجهي وارتباك حركة اصابعي وانا اتنــاول الشاي .. سألتني :

– عندك كلام.. اردت ان تقول شيئاً، قله.. لاتخشى شيئاً، لاتكن حذراً أكثر من اللازم.. أنا إمرأة واعية احترم كلام الآخرين .

دفعت بشجاعتي دفعاً .. قلت :

– يبدو أنك كنت سكر هذا الشاي .

تحولت ابتسامتها الى ضحكة اشرق بها وجهها.. وضحكت اصابعها الأنيقة الناعمة وهي تأخذ رشفة من قدح الشاي..

– شكراً لذوقك..

ولم تسألني مباشرة : هل أنت تغازلني كما توقعت.. بل راحت تتحدث في البدء عن شؤون الندوة والحياة القلقة التي تعيشها البلاد.. ثم انتقل الحديث عن عملها التدريسي في سنجار وعملي الجامعي في بغداد وكيف يمكن علاج الحالة القلقة هذه بالمعرفة والوعي والتوجيه الحسن والرؤية الوطنية التي لايشغلها ولايوحدها إلا الأنتماء الى الوطن ..

مرت أيام الندوة الثلاثة كأجمل ماتكون.. ونحن نلتقي على مائدة الطعام ثم نتحدث سوية في بهو الفندق وبعد انتهاء جلسات الندوة مما زاد بهجة حواسنا.. وبتنا نتجول في بغداد عصراً وقليلاً من مساء لا يأمن ظروفه أحد ..

مرت أيام تواصلت فيها (نور) من خلال الهاتف النقال والرسائل الألكترونية.. وعرف كل منا تفاصيل وآراء اضافية عن حياة الآخر..

صارت تشدنا صداقة حميمة.. وتبادل مخلص واعٍ في الأفكار.. وجدتني مشدوداً اليها أكثر من ذي قبل.. ويقلقني أن يغيب هاتفها ورسائلها عن مواعيدها المتفق عليها ..

حجب صوتها على الهاتف مباشرة وتوقفت رسائلها.. ولم يعد هناك من يدلني عن الاسباب.. حتى فوجئت ذات مساء بخبر يشير الى أن جمعاً من المسلحين الظلاميين المتشددين قد اجتاحوا قضاء سنجار وشردوا سكانه وصاروا شتاتاً بلا مأوى ..

كما أسروا النساء وقتلوا الشبان وعاثوا في البلدة فساداً ووحولوه الى فوضى وتخريب ودمار.. كنت ارى النيران على الشاشة واتمزق ألماً وحسرة.. وأكاد أجن وليس بوسعي أن أفعل شيئاً، واتسعت المعلومات وتراكمت اخبار سنجار ونكبات أهلها .

وتحولت النساء الى سبايا واطفالهن للهلاك والشيوخ الى عجز وموت والشبان الى الاعدامات بالجملة .

صار النوم عصياً.. اصبحت الأوقات بلا وقت، فيما الانتظار والقلق.. ثم اليأس ينخر في القلب ويحطم الذاكرة ..

وذات صباح مبكر.. فيما كنت اتوجه الى عملي مشياً على الأقدام خلاصاً من زحمة المواصلات.. سمعت إمرأة تفترش الأرض وتتوسل المساعدة من المارة .

توقفت عند نبرات الصوت، وتوقف صوت المرأة، أنا أعرف هذا الصوت جيداً.. أعرفه بكل تأكيد ولن تخيب معرفتي به أبداً.. كنت واثقاً من ذلك .

حدقت في وجه المرأة.. وافتقدته، ذلك أنه كان مغطى بالسواد الذي شكله تكوين المرأة بكاملها.. وحولها كتلة من هذا السواد .

كنت حذراً وأنا أسألها :

– من أنت يا إمرأة.. هل أنت نور ؟

لم تجب.. كررت والححت بالسؤال.. وجدت المارة يشكون في أمري ويحاولن ابعادي عنها :

– مسكينة ما دخلك بها ؟

لم أقل لهم انني اعرفها.. ذاك سري وسرها.. احتفظ به، قلت :

– اريد أن اعرف ان كانت خرساء ام لا ؟

– وما يعنيك ان كانت خرساء ام تتكلم وتدعي انها خرساء.. المهم أن بها حاجة للمساعدة.. ساعدها من كرمك.. احترم نفسك واذهب عنها ..

دفعوني وحاولوا ابعادي عنها.. وعندئذ تدخلت :

– اتركوه.. أنا أتكلم يا أخي.. أتكلم .

وتأكد لي أنها هي وليس من أحد سواها.. واضطرتني اللهفة الى أن اهتف باسمها امام المارة وآخذها بيدي ..

– نور.. نور.. هذا صوتك.. أنا اعرفها ياناس.. هذا الصوت اعرفه.

وعندما سكتت.. عرف الناس، أنني صادق في كلامي وأنها تعرفني لكنها تجهل ان تبوح لهذه المعرفة امامهم .تدخلت عندئذ وحاولت الفصل بيني وبين الناس..

– هذه المرأة من معارفي.. ما شأنكم .

انصرف البعض فيما راح آخرون يلتفتون ويتحدثون ويراقبون.. واعلن اكثر من رجل دفاعه عن حياة شرف المرأة حيث وضعوني في اتهام إزاء انتهاك حرمته ..

نهضت المرأة وأخذت بيدي وانصرفنا ..

أخذتها الى بيتنا.. عرفتها بزوجتي وابنائي.. ولم أكن قد حدثتهم بأمرها قبل، فذاك أمر يعنيني ولا دخل لأحد فيه .

غير ان وجود نور.. فرد جديد ينظم الى العائلة.. يتطلب مني التوضيح .

شرحت لهم الموقف.. حدثتهم عن مدينة انتهكت واستبيح أهلها.. وتوزع ضحاياها في بقاع شتى.. وحدثتهم عن اهل لا تعرف مصيرهم مثلما راحت تحدثنا جميعاً عن تفاصيل وصولها الى بغداد وكيف هربت من اغتصاب محقق وسلعة تباع بعدئذ بالمزاد العلني في سوق اعدوا له وعملوا فيه سماسرة.. وكيف أفلتت بأعجوبة حتى وجدت نفسها حرة تتسول.. وتنام في مكان خرب يأوي عدداً من المتسولات الأيزيديات.. حيث استحوذ شيخ ملتحٍ على ما يجمعنه من نقود اثناء التسول.. وكان قد اعدّ هذا المكان الخرب ليكون مكاناً آمنا ومطعماً عفناً لهذا الجمع من المشردات اللواتي خرجن من سنجار خلسة في ظروف صعبة وقاهرة.. وتمكن هذا الرجل على وفق علاقاته واساليبه من جمع عشرين امرأة ايزيدية ليوظفهن في التسول اليومي يضيفه الى رصيد الأموال التي يجمعها بطرق شتى ..

كان حديث نور أشبه بالأحلام البشعة التي تنتاب المرء وهو ينام بواسطة الاقراص المنومة فتصرعه خيفة من يقظه ومن خشية ورهبة ..

لتجعل الصحو على آلامه أفضل بكثير من تلك الأحلام القاتلة والدامية المثقلة بالشدائد ..

حدقت في وجه زوجتي.. وجدته حنوناً رؤوفاً مشفقاً، فاغتنمت الفرصة.. قلت :

– ستبقى نور تعيش معنا.. حتى نجد سبيلاً الى عودتها للعمل كمدرسة في احدى مدارس البنات في بغداد ..

– اشادت زوجتي بموقفي الانساني.. وحرص ابنائي على النظر الى مدرسّة قد تعينهم في دراستهم.. نظروا الى نور نظرة ألفة ومحبة.. اكثر منها نظرة شفقة ومساعدة.. وهذا ماكنت امني نفسي به .

أشرق وجه نور.. وراحت أصابعها تتحرك في ارتباك وتستقر في حضنها آمنة ..

وجدت فيها أصابع أمي وهي تحنو عليّ.. ضامة اياي على صدرها.. بيد.. فيما كانت تعمل باليد الأخرى مذجزة كل متطلبات البيت.. سرتني الذاكرة .. قلت :

– هل كان ذاك الماضي على بساطته وفقره وضيق يد أهله أفضل بكثير من هذا الرخاء المالي لدى الكثيرين مع غلظة في القلب والعقل والروح ؟

احزنتني النتيجة.. وجرح كبريائي الوطني.. وبت أنساناً لايمكن أن يستسلم لحال مرّ..ما لم يجيء حال آخر .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى