ناصر كمال بخيت - مقولات الرحيل

كنت أتأمل الوجوه الإفرنجية الشاحبة في تجوالي بين الطرقات المتجمدة.. كان الطرف الآخر من الأرض نقيضا في كل شيء تقريبا.. قالت تحت الأشعة الدافئة:

- سنكون يوما زوجين، ونتذكر تلك الأيام ونضحك عليها كثيرا

ثم أردفت تحكي أحلامنا معا.. كنت أدرك تماما مشاعري ناحيتها فنحن نعيد قصص الحب التاريخية والخيالية، وربما دون كاتب ما في يوم ما قصتنا وتداولها الناس والعشاق، فالكلمات التي أنظمها في حبها لا تقل عما قاله قيس في ليلي وجميل في بثينة وأبو نواس في جنان وغيرهم من شعراء العرب الأفذاذ.. لكن ما قالته والدتها ليس شعرا فقد سألتني:

- الشقة!

وأشياء أخرى لا قبل بطالب في الجامعة بها.. هززت رأسي حتى انتهى اللقاء.. بعد أن انقضت سنوات الجامعة، وأدركت عجز الأحاسيس عن تحقيق الأحلام الرومانسية.. ترددت على جهات العمل المختلفة، ولكنني لم أحقق شيئا.. سألت نفسي والآخرين:

- كيف يحقق الأغنياء ثرواتهم؟ إذا كان العمل الجاد، فأنا أعمل ليل نهار.. إذا كان الذكاء، فالجميع يشهد أنني لست غبيا.. إذا لا بد أن في الأمر سرا!

بعد فشلي في كشف السر.. قررت الرحيل، ولكن كان علي أن أكمل أوراقي.. قال الموظف المختص:

- ينقص أوراقك.. الختم.. الدمغة.. الرسوم، ثم هناك أوراق أخرى ناقصة.

أعددت حقيبتي وودعت عائلتي.. قال والدي: أريدك رجلا.. قالت والدتي: يكفيني أنت.. قلت: لا بد أن أرحل.. وكان الرحيل.

**

لم تعد في قلبي إلا بقايا تخبرني في كل لحظة أنني كنت ساذجا.. في شوق أنظر إلى صورتها التي لم أستطع أن أمزقها يوما، فاعلم أنني لم أنضج بعد.. أتمتم بعد أن أتذكر قصتنا معا:

- كل شيء قد انتهى فقد اختارت صديقك.. يمتلئ الكون بالفتيات وعليك أن تختار واحدة وأن تنسى وأن تعلم أنك غريب عنها وعن الوطن.

أرسلت لي أمي خطابا وكتبت فيه: أن قلبها يتمزق لغيابي وغربتي عنها.. تعتقد والدتي أنني ما زلت طفلا صغيرا، هكذا قالت لي في خطابها.. ابتسم لقولها، ولكن سرعان ما تدمع عيناي، فكم أتشوق إليها وإلى حضنها الكبير!

لم أعد أثق بالأصدقاء أو تجذبني امرأة.. جعلت من قلبي سدا منيعا لا يخضع لمحاولات الاختراق المستمرة.. كانت مشاعري غائبة في الوطن.

**

كانت حقيبتي ما زالت مغلقة، لكن عيني أدركت منذ الوهلة الأولى أنني قادم من دفء أزلي لقلوب متجمدة، فقلبها الجنوبي ما زال عالقا بكياني.. عندما اقتربت منها وجدت في عينيها عتابا وغضبا وحبا ورقة ، جعلتني أهيم في خواطري وأنا أسمع المذياع يشدو بأنغام "العندليب" بينما مع تلك الفتاة الغريبة في غرفتي أحاول مرارا، ولكن أجدني عاجزا أن اخترق حدود المباح التي وضعته الجميلة.. أتذكر صورة الحبيبة.. أصنع منها تمثالا لقديسة ثم أعود فأحطمه.. تتناثر البقايا في أرجاء القلب وتبقي.. أخطو نحو حقيبتي.. أغلقها ثانية ثم اتجه صوب الجنوب حيث أمي وبقاياها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى