حيدر علي‮ ‬الجبوري‮ ‬ - توسيرام

بعد أربع ساعات فقط ، سيموت ، وهو لا يعلم انه سيموت لسبب واحد ، فعلاقته بالحياة لم تستدع التأمل بالموت والبحث عن فروقات بينهما ، واعتياد الفقر دوما يكلله بالفوز بنهاية الانتظار وقدوم المرتب البسيط الكافي لثلثي الشهر ، هو لن يموت ، بل سيُقتل بأربع رصاصات دوّى صداها كل شوارع الحي ، وسمعها من تبقى في البيوت متمتمين مع أنفسهم بدعاء ومساعدة الله لمن تلقى تلك الطلقات ، وآخرون قال بين جدران غرفهم بلعنة على من حمل ذاك السلاح وصوّبه. وبرغم مرور الوقت دون الانتباه لسرعته ، بقي سؤاله عن ذلك المذاق الذي في فمه بدون ردٍّ أو شرح ،فقد أزف الوقت تحت شجرة الخِروِع التي طالما كان يحتسي الشاي بقربها ، لكن هذه الليلة بعد دخولها على المدينة ودخل كل مأواه خوفا وتحسبا على من سيأتيه الدور فيها باغتيال ، كانت ليلة أخيرة بكل شيء ، إلا بشرب قدح شاي أدمن عليه بعد كل عشاء , وعشاء اليوم الذي أشعل فمه نارا بفعل الباذنجان المقلي الممزوج بمذاقي المرارة و الحرارة ، وببذور كثيرة شبهها ضاحكا مع زوجته كأنها تلاميذ مدرسة وقت الخروج من فصلهم ، عشاء استدعاه أكثر للتفكير باحتساء قدحين من الشاي ، لإبعاد ما تعبأ في حاسة تذوقه من طعام . فنادى بطلبه أن يُعد له الشاي وهو يشاهد التلفاز حيث زوجته في المطبخ ، لكنها جاءته بخبر أنها قد نسيت إخباره بنفاد الشاي من العلبة ، ولأنه الليل فقد أغلقت المحلات أبوابها منذ مغيب الشمس ، وجاراه مَن على يمين منزله و يساره قد هُجّرا فتركا خلفهما منزلين يحيطهما الظلام و الصمت المخيف ، وضاعت اثر تهجيرهما ميزة كان أكثر ما يعتمد عليها هو : طرقة باب احد الجارين العزيزين والطلب منهما ما يحتاجه . صار كمن يتفقد أماكن من منزله ما بين غرف ومطبخ , آملا العثور على شيء حلو حتى لو تمرة منسية تحت أريكة ، او قطعة من حلوى استغنى عنها طفله ، فحفظ بعد المرة السادسة عدد الرفوف الملصقة في باب الثلاجة ، ومساحة بطنها الفارغة بسبب الثلث الأخير من الشهر ، وليس سوى علبة دواء باردة كانت في الرف الأعلى امتدت يده إليها ، ليقرأ ما مكتوب على جسدها ، وإنها دواء التوسيرام ،شراب معالج للسعال ، فتذكر على الفور مذاقه والذي كان قد شبهه وقت إصابته بوعكة وكأنه شاي قد أخذت النار سِحره وأبقت على مرارته مهما زاد فيه السُكّر ، فامتزجت فيه الحلاوة بالمرارة . ثم ملأ غطاء زجاجة الدواء ذلك ليأخذ جرعتين ، فأغلق بعدها الثلاجة وكله قناعة بأن ما شربه مجرد مذاق سيعوض عن الشاي ، وما هو إلا ظلام ليلة سينتهي فتفتح المحال أبوابها ولا يكرر ما مرَّ فيه ، لكن ، وبعدما اتجه نحو سريره قاطعت مسيرته طرقة باب لم يك يتوقعها ، ولا حتى زوجته ، فتساءلا من يكون الطارق والشوارع لا يسير فيها ألان غير مجاميع موت ، أو شرطة تبحث عن مطلوب ، اقترحت عليه زوجته بأن لا يستجيبا لمن يطرق ، وسيتظاهران بأنهما لم يسمعا شيئا مهما تكاثرت عدد الطرقات أو زاد صوتها ، لكن أسوأ الاحتمالات جالت برأسه تفكرا ، ومسألة اقتحام الدار أمر لن يكون هو السبب فيه .

– من الطارق ؟

سأل من داخل داره وعلى مبعدة من الباب خشية أن تخترق الرصاصات الحديد وتصيبه ، فكانت الإجابة مبتدئة باسمه وأنهم يريدون منه ردّاً لمسألة منهم ، لكنه حاذَرَ أكثر من صوت محرك السيارة الذي لم يسكت ، وتمنى لو كان يتكلم كما البشر ليخبره بما يصبون إليه . فكان اشتداد الحيرة إن سلّمَ أمره وفتح لهم باب الدار مع استعداده لمواجهة عضلية معهم لا غير ، أو في الأقل إبعاد فكرهم من اقتحام الدار فيما لو لم يستجب وانتشار الأذى على زوجته وطفله .

- أهلا بكم .

قال لهم ، لأنهم كانوا ثلاثة ، اثنان واقفان وآخر يجلس خلف المِقوَد ، وبعد سؤالهم عن صاحب احد المنزلين الفارغين بجوار داره ,أشاح بنظره نحو المنزل المقصود ليجيبهما ، لكن الإجابة لم تك مكتملة ، فصوت أربع طلقات ملأ صداها المكان ، وكل شوارع الحي ، وكل من سمعها ترحَّمَ على من استقرت بجسده ، وهناك من لعن مطلقها كأنه يقول تمائم مع نفسه . أما هو ، فكل ما رآه وقتها كان مجرد نهاية لحياته كما نهايات الكثيرين قبله ومن سيكون بعده ، فاستدارة سيارتهم وتركهم إياه بدمه ، وركضت زوجته نحوه ورميت جسدها بين الظلام وهي تطلق عويل الموت القادم إليه ، وتدلي أوراق شجرة الخروع بقربه ، كل ذلك كان يرى ويُرى ،أما ما كان يشعر فيه ، فلم يكن له جواب حتى منه ، فقدح الشاي الذي لم يحتسيه بتلك الليلة ، افقده الحس بما كان في فمه من مذاق ، واختلطت عليه مرارات كثيرة من عشاءٍ ودواءٍ , وموت..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى