علي مفتاح - امرأة عشقها الموت

امرأة عشقها الموت

إلى سعاد المرأة التي شيعت كل أفراد أسرتها ، فأصبح النعيُ مسار حياة

كانت امرأة كاملة عقل و جمال ، تطرق باب قلبها لتساءله عن مغزى النبض خارج مملكة الحياة ، لم تكن تدرك بعدها أن للموت رقصات خارج كل الإيقاعات، لم تكن تدرك أن القبر سيكون مسار حياة ، و أن النعي و كل طقوس العزاء ،سيأخذ لون قصيدة مكتوبة بحبر من الدمعات، لم تكن تدرك أن الصبر في حضرة الموت يمكن أن يصنع و يكتب بالدمع المنهمر المعجزات .
كانت امرأة لها حلمها ، أكبر في أن تحصره و تحاصره رياح كل الجهات ، تأخذ البحر بين يديها كطفل/ طفلها ترضعه حلما و حبا ، كيف يعيش، يموت ليمنح لكل من يسبح في فلكه الضوء و الحياة ، كانت معجزتها أنها امرأة تلد طفلا و تنحت في صدره آية: " الحياة قصيرة فاحتضنها، و احتضن موتك و أنصرف حيث أنت " ، كانت معجزتها أنها تلد طفلا و في اليوم الموالي تهيئ له قبرا على مقاس موته، قريبا أو بعد حين .
إنها امرأة عشقها الموت فسلبها الحب كامرأة كاملة الأنوثة ، و سلبها كل ألوان الأمومة ،و جلست إليها وحيدة تحصي كل هذه النكبات ، ما أعظمك يا امرأة علمت الموت ما لم يكن يعلم ، علمته أن قسوته مكافأة قدر، و طعنته بريق أمل ، علمته كيف يختار الجرح في أقصى مداه ، و يختار من الطعنات أمرها، و من اللحظات أحزنها، و من الفراق أصعبه على الاستيعاب و القبول ، إنها علمت الموت أن يكون موتا حقيقيا بدون مجاملة أو محاباة لأرواح تعشق الحياة .
سيدتي أنت التي عشقها الموت فامتزج بمصيرها، مد لك يده فقبلت هذه المعاهدة ، مشى بجانبك عمرا و حل بين ضلوعك ذهرا ،و تقاسم معك رغيف يومَك ، لم يكن لزاما على هذا الموت أن يأمر الحضور أن يغادروا حلبة الرقص ،فيدعوك لرقصة حياة على شرف كل الأرواح التي دفنتها بيديك ، لم يكن لزاما عليه أن يضع يده اليسرى في يدك، و يمناه انسلت لخصرك، تقيس درجات الأنوثة في نبض جسدك المثقل بالدموع و الآهات ، لكن للموت جرأته .
سيدتي أنت التي عشقها الموت و كأنه لم يعشق امرأة أخرى في حياته ، أفرد لك في قلبه مكانة مائزة دونا عن باقي نساء هذا الكون المثقل بالأنوثة و بالحسن و الجمال ، طوبى لك بهذه الحظوة المتفردة ، و طوبى لنا بك سيدة عرفت كيف تروض الموت بصبر الأنبياء ، مدي يدك و اسحبي الإشادة من كل الشعراء ، مدي قلبك و املئيه من ضوء الحياة ، عفوا سيدتي إن كان كل الجرح يؤدي إليك، و الموت لا يطيب له المقام إلا بين مقلتيك، فذلك لأنك سيدة كل المعجزات و كل المقامات .
سيدتي أنت التي شربها الموت حد الثمالة ، أنت التي اعتصرها الموت لكي يشرب و يمتص منها رحيق الحب و رحيق الحياة ، أنت التي عدت اليك بعد غياب ، و نسجت لنفسك هناك بين موطن القلب و الروح مقاما لك للعبادة ، لم تخرجي منك و أنت الناسكة المتعبدة في حضرة الموت و حضرة القبر ، و أقسمت للموت أن تنتقمي من الموت بالابتسامة .
سيدتي أنت التي حملت كل تلك القبور فوق صدرك عمرا ، و مشيت اليك ذهرا ،و غرست في تربة الموت أزهارا بألوان لا لون لها سوى لون الموت و لون الفجيعة ، انت التي تحلمين لكي يتوقف هذا النزيف ، طبعا ضدا في الانثى التي بداخلك و ضدا في الأم التي كنتها، لم يتوقف النزيف ،أقسم أن يمشي فيك مجرى الألم في الحمل الذي أضاع الأم المرضعة .
سيدتي ، يا أنت التي عشقها الموت ، هذا الحبر لا يكفي ، و هذه الكلمات و الحروف لا تكفي، و هذا الحس الشعري لا يفي ، و الموت لغة أخرى و حبر آخر، و أنا أقف ها هنا أحاول أن أرتل جرحك ترتيلا ، و أحاول جاهدا أن أفهم المعادلة : من بينكما كان المقتولَ من القتيلِ ؟ أ أنت ؟ أم الموت ؟ أم أنا الذي يدعي مجازا أني سأعيد كتابتك، و سأعيد رسم ملامحك و أنت تقفين على حافة قبورَ كل من رحلوا من ذريتك، تقرأين على مسامعِهم هذا النص ، يلوحون لك بنفس حرقة الحب بينكما الذي لم يمت رغم موتهم ، و يقولون لك بصوت واحد : " يا أمي ، الموت أصغر منك بكثير ، أنت في حضرته قديسة علمتنا قبل الموت و بعده أن الحياة مجرد رحلة عابرة لحب عابر، و الموت رحيل نحو الحب الأزلي و الأبدي ،دمت على قيد هذا الحب، و دمت قديسة في محراب الموت " .
أيتها المرأة التي عشقها الموت ، و لم تبادله نفس العشق ، كان يطرق بابها ، يتسلل إلى أرواح أكبادها، يسرق روحا و يتوعد أخرى في زيارة قادمة ، و هي المتيمة بنسج الحكايات و تأويلاتها، و هي المرأة التي عرفت كيف تقص لنا سيرة الألم ، و عرفت كيف تلد أنوثتها من جديد و ينبعث جسد امرأة من عدم ، و عرفت كيف تكتبَني لأكتبَها و أكتب عنها ،و أكتب ما أملته علي دموعُها و هي تعيد على مسامعي قصة أطفال / أطفالها ، قصة زوج لم تحب رجلا غيره ، و لم تعشق ذكرا بعده ، فكانت هذه الكتابة ، لأصبح بذلك طرفا في ألم الرحيل ،و الحلم بالعودة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى