أحمد امين - أدب الحرب (١)

عاش العرب طوال حياتهم عيشة حربية سواء في جاهليتهم أو إسلامهم، فحياتهم في الجاهلية كانت حياة حروب مستمرة بين القبائل المختلفة، إما للإغارة وإما لدفع الإغارة، بل كانت الحروب وسيلة من وسائل العيش، وفي الإسلام اضطر المسلمون للحرب من أجل وقوف أعدائهم أمامهم في نشر الدعوة أولًا، وللفتح ثانيًا، حتى إذا مُدَّ في سلطانهم ما شاء الله أن يمد، وقفوا أمام خصومهم الذين يريدون نزع ملكهم من روم وتتر وصليبيين، ولم يدعوا القتال إلا في فترات قليلة في العصور الأخيرة.

وللأمم الحربية أخلاق تخالف أخلاق الأمم المسالمة، ولكلٍّ أدبٌ يخالف أدب الأخرى؛ لأن الأدب ظِل الحياة وسجلها، وإذ كان العرب أمة حربية غَنِيَ أدبهم في هذا الباب غنًى كبيرًا، وسلكوا في القول في الحرب كل مسلك؛ ونحن نعرض صورًا من أدبهم في هذا الباب:

من ذلك أنهم صوروا لنا المثل الأعلى للفتى العربي المحارب، فوصفوه بأنه حديد الفؤاد، ضامر الجسم، أخمص البطن، لم ترهِّل جسمَه الحياةُ الوادعة الهنية المطمئنة، كما وصفوه بأنه يقظ متوثب، لا ينام كما ينام ثقيل الجسم الكسول، إنما هو نوم خفيف، يزول لأقل حركة؛ حتى لو رميت بجانبه حصاة لسمع لها وقعًا كوقوع الهدَّة العظيمة، فيثب وثوب الطير، ثم إذا هبَّ من نومه هبَّ مستويًا في غير كسل ولا التواء، وإذا دفعته إلى الحرب خاض غمارها، واندفع فيها اندفاع الصقر على فريسته، ثم هو لا يعبأ بمكاره الحرب، ولا ويلاتها وغمراتها، فهو في أحلك الأوقات، وأشد الأزمات، منبسط أسارير الوجه، يلمع جبينه كما يلمع البرق، ولا يستطيع أن ينال منه نائل، وهو ينال من كل من أراده، فإذا عزم لا يصده صاد عن عزمه، وكان كالسيف القاطع، وهو ردء في الحرب لصحبه ومن يقاتلون معه، وموئل في السلم لذوي الفاقة والحاجة، فذلك قول أبي كبير الهزلي:
وأتت به حُوشَ الفؤاد مُبَطَّنًا
سُهُدًا إذا ما نام ليل الهَوْجَلِ
فإذا نبذت له الحصاة رأيته
ينزو لوقعتها طمورَ الأَخْيَلِ
وإذا يهبُّ من المنام رأيته
كوثوب كعب الساق ليس بزمَّلِ
ما إن يمسُّ الأرض إلا منكبٌ
منه وحرف الساق طيّ المحمل
وإذا رَميتَ به الفجاج رأيته
يهوى مخارمها هُوَيَّ الأجدل
وإذا نظرت إلى أَسِرَّةِ وجهه
برقَتْ كبرق العارض المتهلّل
صعب الكريهة لا يُرَامُ جنابُهُ
ماضي العزيمة كالحسام المفصل
يحمي الصحاب إذا تكون عظيمة
وإذا همُ نزلوا فمأوى العُيّل

ووصفوه بأنه يضع حياته في كفه، يحرص على الشرف أكثر مما يحرص على الحياة، لا يمل الحرب وإن طالت، ولا يمل الأخطار وإن عظمت، ثم لا تنسيه شجاعته عدله ونبله، فهو لا يجزي حسنًا بسيئ، ولا يقابل غلظًا بلين، ولا يكفُّون عن بطولتهم؛ لكثرة ما يتعرضون له من محن، ولا يملون الحرب؛ لتعاقبها حينًا بعد حين، فشجاعتهم خالدة، وبطولتهم لا تنفد، لا يركنون إلى الدعة، ولا يتلمسون الراحة، فذلك قوله:
فوارسُ لا يملون المنايا
إذا دارت رحى الحرب الزَّبون
ولا يجزون من حَسن بسيئ
ولا يجزون من غلظ بلين
ولا تبلى بسالتهم وإن همُ
صلُوا بالحرب حينًا بعد حين
ولا يرْعوْن أكناف الهوَينى
إذا حلُّوا ولا أرض الهدون

ثم هم يهزأون بالموت حتى كأن المنية لم تخلق:
قوم إذا لبسوا الحديد حسبتهم
لم يحسبوا أن المنية تُخْلق

إذا دعوا للقتال لبُّوا الدعوة من غير ريث، وأسرعوا إلى النجدة من غير تلمس علة، وجوه مشرقة، ونفوس مستبشرة، فذلك قوله:
وإذا دعوتهم ليوم كريهة
سدوا شعاع الشمس بالفرسان
لا ينكتون الأرض عند سؤالها
لتطلب العلات بالعيدان
بل يسفرون وجوههم فترى لها
عند السؤال كأحسن الألوان

يفخرون بالدم يجري على أقدامهم؛ لأنه دلالة الطعن والإقدام، ويستنكرون الدم يجري على أعقابهم؛ لأنه دلالة الفرار والإحجام:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما

وهم ذوو نسب في الحروب عريق، إذا أفنى القتال منهم جيلًا خلفه جيل، وإذا أفنى القتال شيوخهم أورثوه شبابهم، قد وُهبوا نفوسًا عزيزة غالية، ولكنهم أرخصوها في الحروب، مرنوا نفوسهم على القتال ومواجهة الحرب، فلا يجزعون من موت ولا يبكون ميتًا، ثم هم يواجهون المكاره فيكشفونها بالسيوف في أيديهم والحمية في نفوسهم؛ فذلك قوله:
وليس يهلك منا سيد أبدًا
إلا افتلينا غلامًا سيدًا فينا
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا
ولو نسام بها في الأمن أغلينا
إني لمن معشر أفنى أوائلهم
قيل الكماة ألا أين المحامونا
ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم
مع البكاة على من مات يبكونا
ونركب الكره أحيانًا فيفرجه
عنا الحفاظ وأسياف تواتينا

تلك صورة للمثل الأعلى الذي كانوا ينشدونه لفتى الحرب ورجال الحرب، عزة نفس واسترخاص للحياة، وبذل للنفس في سيبل المجد، وحفظ الأعراض وطيب الأحدوثة، وهو ما توحيه دائمًا الحياة الحربية، وهناك صور أخرى في أشعارهم الكثيرة على هذا النحو، نجتزئ منها اليوم بهذا القدر، ثم نعرض لظواهر أخرى من أدب الحرب فيما بعد.




فيض الخاطر (الجزء الثامن)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى