صبحي شحاته - لعبة الاِختباء..

رأيت فجأة يدا صغيرة تمتد إلي، راحت تنقبض وتنبسط يائسة، كانت يد مستحيلة، تنتمي إلى الخيال، وأنا عادة لا أفرّق بين الخيال والواقع، كأنها تقصدني أنا بالذات، فكأن صاحبها يعرف أنني أراها رغم المسافة الشاسعة التي تفصل بيننا، تجمدت عيناي وأنا انظر بأسى ورهبة، بعدما قمت واقفا متطلعا إليها، كأني انظر عبر شق باب كوني انفتح في غرفتي إلى عالم آخر قاس جدا جحيمي...
كان صاحبها طفلا مدفونا تحت انقاض منزله، يطمره التراب، ولا ينتبه إليه أحد من المسعفين، الحركة حول المكان غامضة، إذ تلوح الأجساد خطفا في الدخان الأسود الساخن الكثيف والعفار والغبار المتصاعد طبقات من الجنون، الكل يجري هنا وهناك، والصرخات تتصاعد واهنة متعبة مرعوبة، والأقدام تقفز فوق اليد، دون أن تراها...
كنت أشعر بنبض قلب صاحبها، إنه طفل قوي حتى يتحمل هذا كله، لكن ليس لديه خبرة بفوضى العالم، ولا يدرك ماذا يحدث، ولماذا يحدث له، وأين أبيه، أحسست لا أدري كيف، بأن الطفل كان قبل قصف المنزل يختبئ من أبيه أثناء اللعب معه، ولا بد أنه ظن أن المكان الذي اختبأ فيه انهار عليه فالبيت قديم جدا عاش فيه كل أجداده... تراب ودبش، كتل ثقيلة جدا فوقه هو بالذات، وكانت يده المرفوعة متصلبة تنفتح وتنقبض بين الحطام...
مدتُ يدي إليه من غرفتي خلال المسافة المستحيلة، التي انفتحت في خيالي، كأني أريدها أن تخترق تلك المسافة كلها فعلا، فإذا بها تلمس أصابع اليد، فنبضت فيها الحياة، وتوردت فرحت انضوا من حوله التراب وأرفع قطع الخرسانه، هكذا دون التأكد من أنني أفعل شيئا، أو أشك أنني أفعل هذا حقا، وهل أنا مجنون أم عاقل، وأنا لم أعد أفرّق بين الجنون والعقل في هذا العالم الذي أعيشه، حتى ظهر لي رأسه الصغير، كان شعره مليئا بالتراب وفمه جاف ناشف...
كانت يداي الاثنتين تعملان بسرعة ودربة كأني عامل حفر وإنقاذ، ماهر وخبير، وكانت أذناي تلتقطان نبضات قلبه، التي تدق بقوة وسرعه، كأنه يحدثني مكملا اللعب:
- أنا... أنا... هنا...
اخرجته من تحت الانقاض ذاهلا كأني في كابوس، حملته ورحت أسرع به وسط زحام الصارخين والمسعفين، وهم لا ينتبهون لي، كانت عيناي جامدتان تتحجر فيهما الدموع، فيما نبضات قلبه الصغير تتخافت...
وضعته على طاولة خشب خشنة متسخة ببقع الدم، تسلمه مني طبيب دون أن ينظر إلي، وراح يعالجه بسرعة يرطب فمه بسائل ما يشبه الماء، ويقلبه على وجهه ويضربه على ظهره بدقة، تقيء الولد ما في بطنه، وشهق أخيرا بقوة وفتح عيناه بقوة... كان يبحث عني، يريد أن يراني...
حاولت الاقتراب منه وتقبيله، لكن جاء أطباء بأطفال آخرين إلى الطاولة متزاحمين عليها ويعملون بسرعة على انقاذهم... الزحام يشتد ويجبرني على الابتعاد، أخذت ألوّح له، وأنا ابتعد أكثر كأني اسقط دون قدرة لي على المقاومة منهكا تنهال الدموع من عيني وأشعر بالإغماء بينما هو يحاول الابتسام والنداء علي مكملا اللعبة:
- أبي... أبي... أنا هنا... هنا... هنا...

صبحي شحاته


***


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى