منى وفيق - قصة صاحب الظل الطويل

ملء شدقيها تضحك .. متجاهلة حزنا في القلب يعشّش.. تتعالى هي اليوم على حزنها، قهرها، هزائمها أيضا. هي ذي تستقبل العام الجديد بقصّة شعر جديدة .. تشتري باقة ورد تهديها لنفسها .. تتعهّد كما كلّ سنة بآلاف الوعود، ستصبح نعامة من فصيلة لا أرى، لا أسمع، لا أتكلّم. وما دخلي مادام لا شيء أصابني .. تقسم أيضا أنّها خلال عيد الحبّ هذا ستتصالح مع ذاتها وستلهو مع هذا وذاك والآخر .. بل تجزم أنّها ستعاني مستقبلا وبقوّة من تضخّم الأنا .. حتّى أنّها ستفقد أيّ قدرة على التّضحية. ولأنّ ظلّه الزنيم لا زال هنا فلا شيء ممّا تُمنّي به نفسها سيتحقّق.
لا تدري لِم أسمته صاحب الظلّ الطّويل منذ غادرها. ثملة هي بزلّة نبضه الأولى: "يدقّ القلب يدقّ .. ولا أحد يفتح الباب". إنّها تشتاق لكلماته الأقرب للسعة الجليد .. لنظراته الّتي لا زالت تكتوي ببرودة جمرها. منه تعلّمت أنّ الحبّ حقّ يُنتزع ولا يعطى. ألم يحرّك السكّين في قلبها لينزف له؟
نعم. والله قد فعل!
أشياء كثيرة تصغر كلّما كبرنا" قالتها سحر يوما. "مخلص" أتى بعدها يؤكّد أنّنا نحن من نصغر ونتقلّص في حين تظلّ الأشياء كبيرة .. كبيرة!
"مخلص" .. تهمس باسمه وتتحسّس شفتيها اللّتين لا تزالان رطبتين بذكر حروف اسمه .. لكأنّهما تنتصران له!!
تعبث بها الذّكريات .. تثير فيها شهوة الأفعى في الخراب .. تحملها لتتذكّر كيف التقت ذات صيف ماطر بـ"مخلص" .. صاحب الظلّ الطّويل!
في الثّاني من انتكاساتها تعرّفت عليه. تحديدا في مستشفى مرضى السّرطان. بحرقة كانت تبكي بعد أن كشف لها الطّبيب المُعالج مدى تقدّم السّرطان في رئة والدها اليسرى. اقترب منها مبتسما كطفل في عامه الأوّل. مارس اغتيالا جميلا لحزنها. وسيما كان، شفّافا، ذكيّا أيضا. تركته يركض بحُريّة في دهاليز نفسها حين تكرّرت اللّقاءات بينهما بعد ذلك.
منذ صغرها وهي تنفر من ذوي الأسنان الصّفراء .. يقول قائل "إنّ عين المرء باطنه" أمّا هي فبياض الأسنان يعكس لها بياض القلب. لكنّها أحبّت أسنانه الصّفراء هو المدخّن الشّره.
مرّة أحسَّها مختنقة وجريحة. سألها عن السّبب. أجابته بسؤال آخر: "هل تعرف كيف مات لوركا؟". فاستفسر منها عن هذا الّذي غدر بها. كم عشقت إدراكه العميق وفراسته. يجهل هو أنّها قبّلت روحه ألف مرّة.
لطالما أغبطت نفسها عليه. تُحدّثه عن خوفها وتفكيرها المستمرّ بالموت .. فيصارحها برعبه من مجرّد التّفكير في الموت الحقيقيّ كالإقصاء والتّهميش. تبثّه حزنها الشّديد وامتعاضها من دراسة الطبّ .. فيئنّ أمامها من حوادث الاغتصاب المتكرّرة للعراقيّات أمام أزواجهنّ وأبنائهنّ. تهدي له عطر "جورجيو أرماني" .. فيُسكنها وردة في جوف حرف في قصيدة. تشرح له مراحل سرطان الثّدي والرّئة .. فيخبرها عن تغلغل السّرطان في المؤسّسات الحكوميّة والمستشفيات والفنّ والعدالة. تتحدّاه على مدى مقدرته في استفزازها .. فيناقشها في الجنس والجسد ومُجمل التابوهات. ليجعلها تخلُص إلى انتمائها لشعب يخاف لغته وأحايين كثيرة تاريخه!
لم ينمُ فيها مطلقا أيّ إحساس بسطحيّتها مقابل عمقه. هي لم تكن سطحيّة أبدا. كانت تدّعي ذلك وحسب. لكنّها كرهت أن يستفزّ فيها عمقها الّذي تناسته طلبا للرّاحة.
القدَر كان صديقا حميما لها. صديق يطلّ عليها باستمرار ليدعوها إلى طاولة الشّطرنج ناشدا ملاعبتها. فأجمل الأدوار هو دور لم يلعبه بعد. وكان "مخلص" آخر جولة ظفر بها للآن. تُرى ما عناه ذاك الشاعر حين قال إنّ الإنسان أعظم من قدَره؟!!


منى وفيق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى