نزار عباس - حكاية رجل بسيط..

لقد حدث الأمر هكذا، أي و الله هكذا، لم أصدق عيني أول الأمر، و قلت لابد أن هذا كابوس جديد، فالبارحة شربت كثيرا، و حلمت أحلاما مفزعة، و لكن ها هي الجثة ممدودة أمامي، ممزقة غارقة في الدماء.
كان الجسر خاليا، و الساعة تشير إلى السادسة صباحا، و بداعي الفضول، وقفت أتفرس في الرجل القتيل ـ من غيري لا يفعل ذلك؟ ـ.
و لكن في اللحظة التي وقفت فيها، بدأت كل متاعبي مع العالم. فقد شاهدت شرطيا يركض باتجاهي، و كأن الجسر انشق عنه، ثم تقدم نحوي و صرخ: إذن قتلته أيها المجرم !
ـ ماذا تقول؟
ـ أنت تفهم جيدا ماذا أقول...
ـ اتق الله يا رجل. لقد كنت أتمشى، عندما صدمني هذا المنظر البشع.
ـ منظر بشع! ..ها..ها..و متى كنت رقيقا إلى هذه الدرجة!
ـ أعوذ بالله! يا أخي أنت لا تعرفني!
ـ و من لا يعرفك، أيها القاتل المحترف!
ـ محترف.. ـ ضحكت، و بدا لي الأمر، كأنه نكتة سمجة، و قلت: و الآن، دعك يا أخي من المزاح! فأنا رجل صاحب عائلة، و ذاهب إلى عملي، و ليست لي عداوة مع أحد..و لكن يبدو أن كلماتي كانت بلا جدوى، فقد وضع يده الثقيلة على كتفي و قال:
ـ حسنا! لا تحاول القيام بأية حركة و سلمني السلاح، و لكنه لم يتركني أجيبه، إذ سارع إلى تفتيش جيوبي، فلما لم يعثر على شيء، ضحك قائلا:
ـ لقد ألقيت السلاح في النهر، فأنت أذكى من أن تحتفظ به! و الآن هيا، و لا تحاول أن تظهر بمظهر البريء، و لدي نصيحة أريد أن أقدمها إليك مجانا، و هي أن تعترف بسرعة، فإن الرجل الذي سأسلمك إليه لا يعرف المزاح في حفلات التحقيق..
أدركت عقم إقناع هذا الشرطي، و قلت ليكن الله معي، فأنا رجل بريء، و لنر نهاية هذا الكابوس الرهيب، ثم سرت معه إلى حيث يريد..
***
و في اليوم الرابع،
قال لي:
ـ هل تقرأ الصحف؟
ـ أنباء الوفيات فقط..
صفعني، حتى خلت الدم صار في عيني.
قال:
ـ و ماذا تعني؟
ـ أنباء الوفيات يا سيدي، فأنا لا أهتم بما يحدث خارج بلدي.
قال:
ـ و من الناس الذين توفوا أخيرا؟
الحق إنه سؤال محرج، فأنا أعرف بأن الناس يموتون..و الشاعر يقول: تعددت الأسباب و الموت واحد..فبماذا أجيبه يا ترى؟
قلت:
ـ سيدي بعضهم بالسكتة القلبية.
قال:
ـ و بعضهم بالقتل..ثم صفعني مرة أخرى، تذكرت الرجل القتيل.
قلت:
ـ نعم يا سيدي..و بعضهم بالقتل..
استدعى شرطيا. أخذني إلى غرفة صغيرة جدا، ثم جاء ثلاثة رجال أشبعوني شتما و ركلا.زو لم أفق من هذا الهول إلا في اليوم الخامس. و قد استطعت أن أتحرك و أتكلم بعض الشيء، و بعد ذلك سمحوا بالزيارات، فزارني بعض أصدقائي في الدائرة، قال واحد منهم:
ـ أنت صاحب عائلة و المؤمن مبتلى، و سمعت أن هناك تخفيفا.
قال الثاني:
ـ أي نعم، اعترف يا أخي بما اقترفت يداك، فسبحان من لا يخطئ..
قال الثالث:
ـ و لماذا كل هذا الاعتزاز بالإثم.
قال الرابع:
ـ اعترف يا أخي و تذكر أطفالك.
قال الخامس:
ـ إن الله تواب رحيم. اعترف يا أخي فعيالك في انتظارك.
قال السادس:
ـ إن الذنب عليك، أ ليس هناك طريق غير الجسر يؤدي إلى الدائرة؟
هنا ضحكت، فهل أعبر إلى الدائرة سباحة؟
قال السابع:
ـ و لماذا وقفت عند الجثة؟ هل رأيت فيها منظرا جميلا؟
و قد أراد الثامن و التاسع و العاشر إلخ...أن يتكلموا أيضا، و لكن الباب فتح فجأة، بركلة قوية، و دخل من يخبرني بأن أخرج فليس هناك مبرر لبقائي..
***
المشكلة التي ما تزال ترهقني أنني بدأت أحقد على ذلك القتيل الممدد على الجسر، إذ أتصور أنه هو السبب فيما عانيته، ربما و أحيانا أغفر له فإنه لم يكن يقصدني فيما أعتقد، و على كل حال، فقد انتقلت إلى دائرة أخرى،لا أحتاج في الذهاب إليها إلى جسر...


ــــــــــــــــ
من مجموعة الكاتب التي تحمل عنوان "زقاق الفئران".
الصفحات: من 53 إلى 56.
أعلى