حيدر عاشور - لَيلَة مَوتِهَا اَلأَخِير

ها أنا مرةً ثانية أعود للحياة أدور في نزيفي، ومهما طالت فيّ الروح لن انسى وجهك ما حييت؟!.. فلا فضيلة للأثر ولا مجد للموت الذي هو صورتك التي ستبقى آفة لا مرئية في ذاكرتي. للحائرة يا الله اختر مشيئتها في ليلة موتها الأخير بيد شيخ التكفير المحارب الهزيل وهو يمضي بجسدي في رحلة جماعية، اصرخ من هذا الموت البارد؛ والنشوة صوت غيظ فاحش تحارب إبليس دون ارتعاشه لدرجة السخافة، ورائحة نتنة نتاج نوم طويل غير ذي معنى.. وهم يكررون ارتماءهم على أمل نتاج حرام يجهزونه ليوم الذبح. لست وحدي الأرض التي ينخرون بجسدها من أجل روح محرمة، هناك في البعيد كما لم تره العين تنعقد جرائم غير مرئية يندّ لها الجبين، والمجرمون يمارسون طقوسهم الدينية على آثار دم الشرف. وفي غرف الموت الحمر أشاهد شيوخا مبتهجة ونساء يشبهونني، واسمع كلبيتهم تلهث من جوع الشهوة وسادية لم تخطر على بال أحد ولم ارَ مثلها في حياتي.. النساء يتساقطن كالأوراق في أحضان البغاة، فالمكان مغارة عميقة والأرض صخرية صلدة وجموع من الغربان والكلاب والخنازير يتحدثون عن العقل والحكمة والمستقبل والمال وجيل قاتل، جعلوا من المغارة حاضنة لإنتاج الأطفال. فقد رأيت عفن الغايات وقوة مشايخ النواصب الفاجرة، ورائحة أفعالهم القبيحة منشورة في أجندات الأرض على أنهم قتلة غير مرئيين تستخدمهم الأموال الأجنبية لكسر عفة الشرف بين شرفاء الأرض الذين يحملون في صدورهم عقيدة المذهب، وباب الكسر هي النساء الضعيفات. فلا شيء يعذّب الصالحين غير المساس بشرفهِ. فاخترعت(داعش) للإباحية طرقا وقوة على استباحت الأبواب الخضراء واقتحامها، وسفك دم الشرف بتعسّف الاغتصاب. وانت، وأنا، وأنتم مهما كانت قوتكم في وحدتكم تبقى جامدة عيونكم وهي تنظر اختراعات الموت بتوسل دموع الأطفال قبل الكبار. هي حرب الهائمين على وجوههم مع الخوف وبعكس اتجاه النصائح.

كان صباح تلعفر محطمَّ أذرع الأبطال، صباح النار الحارقة لبيوت القرى والنواحي اقتحمت تلك المجموعة المكونة من ستةِ أشخاص يشبهون الوحوش، جلدوا أبي أمام أخوتي وأمي بسوط غليظ ارتفع صوت أبي من الألم كأنه يسمعني ان أختبئ في المكان الذي خصّصته لي عائلتي البسيطة. ومع ارتفاع صوت أبي انسحبت من غرفتي بهدوء ودخلت حجرة صغيرة داخل الغرفة في أعلى السقف ونمت على صراخ أبي وأمي وأخوتي. لم يقاوم أخي الصغير السوط فمن أول ضربة ابيضت عيناه وهو يشير الى مكان اختبائي. فجاء ذلك القبيح وهو يطلق اسمه علنية: أنا "أبو مروان المرادي" وهذه الحسناء غنيمتي. وسحبني من شعري كمن يسحب خروفا معدّا للذبح. دمي جمد في عروقي، وصوتي اختفى تماماً. لم استطع حتى قول اسمي.. فأطلق عليّ أسم "عفران". والذي لم استطع قوله أنه اغتصبني في السيارة ورفع بكارتي وانا بنت أبي القروي الفقير. فاض دمي على ضحكاتهم، ولعنهم لآدميتي وشيعيتي، ولمعتقدي ويقيني. فمع كل سكين كنت أنادي ولِيي اسد الله الغالب على كل غالب، وقد تعاقبت عليّ السكاكين كأنها تماثيل صنمية رخامية، كأنها وحوش ضارية مقززة جائعة لجسدي الذي لم يمسه حتى الهواء. سكاكين لم تسمع بكائي وهي تهاجم عفتي في مهب الريح وبشهادة السماء وطهارة مياه تلعفر. لقد رأيت كثيرا، وأنا بين الحياة والموت. رأيت نساء أعرفهن، ولا يمكنني التواصل معهن، كانوا يفرغون شهوتهم فيهن مع الضرب بالسوط،.. وأطفالا بلا عمر تشاهد بغاءهم، والكارثة ان الأطفال مجهزون بسلاح خفيف ما أن يؤشر شيخ القتلة على أحدهن فيبدأ الأطفال بالرمي حتى الموت بلا شفقة ولا رحمة بل لا يرمش لهم جفن وهم يسفكون دم الضحية قد تكون أمه الذي أنجبته من مياه محرمة. ولأني من غنائم "المرادي" لم يجرؤ أي كلب منهم نحوي إلا بأخذ موافقته.. وكل من يراني ويعرف اسمي "عفران" يركبه الخوف ويبتعد عني. قد تكون قوة بلا قوة منحني إياه الله ليحمني فأمنت بقدري وبنعمة اعتقادي ويقين نجاتي. فأنا إنسانة لا قدرة لها على الكلام والدفاع عن النفس كنت مثل دمية جميلة أتنقل من مكان إلى اخر، فأينما يذهب المرادي عليّ ان أكون معه.. لم أر يوما دون قتل او ذبح او الضرب حتى الموت والرجم لمن لم تطع أميرهم.

وذات يوم جاء الى المغارة رجال مدججون بالسلاح من بينهم ما يطلق عليه بالخليفة، استعرض جميع الأسرى من النساء وبدأ يختار من بينهن.. وقف أمامي وقال: ما اسمك. لم استطع ان اقول اسمي فاجتمع صوت الدواعش قائلين: " عفران". كم عفران عندكم كل الجميلات من تلعفر اطلق عليهن "عفران" اريد معرفة السبب؟!.. والكل يؤشّر على "المرادي" وهو يرتعش خوفا من خليفته حتى قال:

- هن أغلى رؤوس تلعفر نسباً، وكلهن في خدمتك خليفتنا، فهن شابات صغيرات نبني على أجسادهن رغباتنا ونضع في أرحامهن نطف جيشنا المستقبلي ونجعل منهن ظمأ للمحرومين من المناكحة، حسب فتواكم في إباحة جهاد النكاح لقوات (داعش).

في دواخلي تضرّعت لله ان يقتله، ولكنه كان مراوغاً ثعلبناً، ولكن ما قيمة الزجاج الذي حطّمه هذا الزنديق، ما قيمته اذا قتله وان لم يقتله.. فالدم لا يفارق فريسته. وجسدي المحطم ووجهي الشاحب وعينيَّ وما رأت أو ما رآه الآخرون وما سنراه هو ثوب شرف سقط، وجسد عارٍ ينهض.

صرخ الخليفة كل النساء ملكي الخاص خذوهن الى نفق النكاح وليتم تهيئتهن لمباركتهن قبل ان يحبلن برجال جيشنا المستقبلي. تم سوقنا الى نفق طويل كان يحوي على نساء من مختلف الطوائف والمذاهب، والأكثرية من الطائفتين الايزيدية والشيعية. كل امرأة تدخل النفق تنقب بنقاب النكاح. ما من واحدة في هذا النفق تعرف الأخرى.. والكلام يتوقف عنهن وتبدأ لغة العيون تتحدث، والقلوب تتوسل برب الكون فالمصير القادم هو أعلم به.

وأنا في حالة هستيرية، أقدمت عليّ داعشية ظالمة جردتني من ثيابي، رغم برودة المغارة، بين نفسي قلت: اخيرا سيرى جسدي الماء ويطهر من عفونة الممارسات دون طهارة فنويت غُسل الجنابة وبي فرح بسيط، لكن المفاجأة ان الداعشية بدأت تلامس جسدي بقوة وعصبية مع ضرب مبرح كأنها تفتش عن شيء ضائع او مختفٍ بين أعضائي المنكمشة من البرد؛ وحين شعرت بغاياتها تجمدت أوصالي ونزّ جسدي كله عرقاً بارداً وهي تقلّبني بعنف باحثة غير متوقفة لم اسمع لها صوتا غيره نادت بلغة لا افهمها ولكن كان فيها سلاح.. فهي تفتشني قبل دخول الخليفة عليّ.. وحين انتهت وقبل ان تخرج حدث ما لم يكن في الحسبان فقتلهم من بعيد بدأ على يد القوات العراقية وهم يصرخون "الصالحي" هنا القناص الصالحي هنا فقد جعلهم اسم الصالحي وطلقاته التي لم تتوقف في رعب مميت وبسرعة البرق لبست ملابسي وجلست في مكاني أشاهد هرجهم ومرجهم من اين يخرجون والى اين يذهبون لا اعرف فقد شاهدتهم يلبسون ملابس الحشد الشعبي استعدادا للخروج من المغارة. في داخلي فرح عامر وسعادة نبض لها القلب وكأن انتقامي ازف دون تعب ففحول حشد العشائر والحشد الشعبي لا يتركون شرفهم بيد بغاة (داعش).. كان هناك كلام بالتركماني والعربي افهمه ان "الصالحي" سيقضي عليهم وان المغارة كشفت فالهروب بسرعة نجاة .. ولم اسمع بعدها صوتا فقط أصوات الرصاص وهي تقترب من المغارة، وأنا لم احرّك ساكنا في مكاني حتى وجدت على رأسي من يقول لا تخافي انت الان بأمان. وقد عرفني احد ابناء قريتي وجيراني في حي الزهراء فسترني بملابسه العسكرية وقال:

- لا تخافوا من هذه المسكينة انها أختي في الدين والمذهب والارض ومن قريتي ومصيبتها كبيرة.

وحين سمعت ان مصيبتها أكبر طافت في عقلي صور عائلتي.. فالمصيبة الكبيرة ليست أنا حتما.. فخرج صوتي بعد صمت طويل، وقلت:

- يا بن (نابش)* بحق الله وعشيرتك ما حال عائلتي.

جاءني الصوت مدوّيا كلهم في رحاب رب كريم شهداء ينعمون بنعم الله. فقد ذبحهم (داعش) بمجرد خروجهم من داركم.. صبرك الله ورحمهم الله. ولم يكتفوا بل حرقوا -حي الزهراء- جميعه ولم يعد فيه أحد. كل ما بقي بيوت محترقة وسقوف متداعية وجدران آيلة للسقوط. لقد استشهد رجال أشداء في سبيل أرضهم وعرضهم وأبوا ان يخرجوا من منازلهم فكانت بيوتهم قبورهم.. وقتها اهتزّت بعنف بين رجال الحشد الشعبي تركوني افرغ جزعي بالصوت العالي وكأنني أبكي في عزاء كبير وأغمي عليّ على صوت يروي لما حدث من فواجع ذبح أبي وأمي وأخوتي الصغار. صوت ما ظل يبدد حزني ويحثني على العودة للحياة وأصبر، ويتكرر الصوت في رأسي كأنها بنت أمنا الزهراء، لان لساني لم يقل في كل مصيبة ما اعظم صبرك يا بنت الزهراء يا جبل صبر الهاشميين.. وازدحمت في مخيلتي الرؤى فرحت أكبت كل ما عانيت بصمت وحزن.

وأنا انتظر فريستي، ووجهها القبيح، وحدي ولم يكن معي سوى انفاس عائلتي وتتبعني براكين الغضب أينما أرى ظلما او اسما داعشيا؛ أريد ان أبرهن بأني تلعفرية نقية من -حي الزهراء- اذرف الأوجاع على بوصلة الانتظار ولا اترك خضاب دم شرفي، وسأحمل في الضلوع ذاك اليقين بالله ان آخذ ثأري بيدي وان طال الزمان. فالجريمة غير مرئية لأحد تخصني وأنا شاهدت على جرائم غير مرئية سأرويها لله يوم القيامة، فهو العادل الذي سيصدقني بما راءه هو من ظلم، فتضاعف ايماني في زمن الفواجع والألآم..

...............................

• "نابش" اسم شيخ عشيرة في تلعفر هو الشيخ(محسن نابش) الذي قدم حياته قربانا لإنقاذ حي الزهراء بتلعفر.[/B]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى