عالية طالب - أمكنتي وعطري

تستقبلني أمكنتي باذرع متهالكة تشوبها الشيخوخة ، تتناثر الشوارع التي كنت أعرفها ، وتتداخل الارصفة معها فتضيع مسافاتي ، لا أجد منعطفا أسلكه، ولا أزقة تحمل ذاكرتي معها، أقترب مني وأكاد الوذ بنفسي علها توقظ في داخلي معرفتي بالمجهول الشاهق الذي يتربص بي في كل اتجاه التفت اليه،يوقفني حاجز تفتيش يتناسخ كل بضعة أمتار، يتفصد عرق وجهي ويؤلمني شعري، لا أعرف كيف يمكن ان اشعر بألم من شعري أمسك رأسي واشعر به ثقيلا يتعب رقبتي ، اعاون نفسي بحمله فوق كتفي علني أعرف أين أهتدي الى فراغات لا تطالني فيها نظرات التفتيش، والحواجز والمقتربات المتهالكة المبقعة بقناني المياه الفارغة والاكياس والاجساد المغبرة ، يسألني صوت مبلل بالتذمر…

– أتحملين سلاحا ؟

انفي بملل وعجز وكأنني أدفع عن نفسي تهمة ، لكنه يعاود تفتيش سيارتي ويسألني .

– تحملين عطرا ؟

نعم أحمله فأنا لا أستطيع تحمل كل روائح الموت والانتهاء والتوحش حولي دون أن أحاربها برائحة عطري ، أدفعه اليه ليخبئه وراء ظهره ويعاود حمل أجهزته ويفحص سيارتي ، ويعود ليسأل .

– لا زال هناك شيء ما بسيارتك ، لكن مع ذلك سادعك تمرّين .

أحرك سيارتي وازفر أنفاس عطري ، ويعود الأمر ليتكرر كل قليل ، حتى أنهي مشوار يومي الباحث عن ذاكرتي في أمكنتي ، وأعرف أن هناك يوماً أخر بانتظاري وساتحمل حبات العرق التي بدأت تؤلم شعري كثيرا وانا أحاول أن لا أدع شالي يغادرني .

اضع الشال على رأسي فأشعر بالأمان يتسللني وأستلم عشر سنوات جديدة فوق عمري ، لا أعرف وجهي ، ينفصل عني ، تشهق أمرأة أخرى أمامي تقترب من صورة أمي ، أكاد أناديها ، الا انها تسخر مني وتهرب حين ينزلق الشال عن رأسي فتختفي سنواتي المضافة واعود أكثر خوفا وارتباكا وأنا ارصد نظرات من حولي . اقف على ظل منتصف طريق كنت اعرفه يوما واتفقد نفسي فيه ، اسمع ضحكتي تأتيني من السماء وتفتح ثغرات الارض المنبجسة بثقوب المفخخات التي مرت على ارصفتي وأرى ظلال الارواح التي مرت من هنا وهي تلملم بقايا أجسادها التي نسيها عمال التنظيف بخراطيم المياه التي كنستها ، الملم معهم ظل روحي فما زال جسدي معي لكن أشلاء روحي تناثرت فوق كل أرصفة المفخخات التي حصدت أرواح من أراهم يجولون حولي .

ابحث عن صور أحبها ، أمر قرب مدرستي فلا أجدها ، تلاشى سورها القديم واحتلت ساحتها هياكل سيارات محترقة ، اتوقف أمامها وقبل أن اترجل لاقترب من رائحتها القديمة التي اشتاق اليها ، يزعق صوت صاخب ورائي بقسوة .

– تحركي لا تقفي هنا ؟

اتلفت فأرى وجها معدنيا بلا ملامح يقترب مني وهو مستمر في زعيق مزعج .

– ممنوع الوقوف في الشارع .

اعود بخذلان وابحث عن زقاق لاركن سيارتي ، الزقاق يقترب والمسافات تختفي ، يرفض كل من بالزقاق أن أترك سيارتي وتتوزع كلماتهم في الفضاء حولي .

– قد تكون مفخخة وتنفجر هنا .

– ربما فيها عبوة لاصقة وانت لا تدرين .

– هل يعرفك احد من الساكنين هنا ليضمنك .

وأكاد أصرخ كلكم تعرفونني ، كنت طالبة في مدرسة اختفت المدرسة منها ، كنت أعرفكم ، أعرف ما تطبخون حين أمر بكم ، أسمع صراخ أطفالكم ، أعرف لون أزهار حدائقكم ، فساتين زوجاتكم ، رائحة عباءة أمهاتكم التي تشبه عباءة أمي ، تعرفونني حين كنت أتابط نفسي وكتبي وأبحث عن غد يأتيني في وطني محملا بالفرح والأمل ، هل أختفيتم من ذاكرتكم أم تهت أنا من وجوهكم التي أراها قد شاخت عبر شبابيككم المغلقة بالأسيجة الخرساء ، أفتح عيني على أتساعها وكأنني أدفع عنكم ظلمة تطاردني لكن الوجوه أمامي لا تعرفني ، تنكرني وأعود لأثبت الشال فوق رأسي وأكبر عشر سنوات ، واتقهقر الى سيارتي الحزينة التي يرفضها كل من حولي ، كيف اتخلى عنك لأبقى في شارع يكاد يصبح مجهولا عني ، ستبقين معي لحمايتي ، ولا ادري ممن ستحميني ، ولا ما هي اخطاري ، ولا حجم الخوف الذي علي ان اشعر به الآن أو أتفادى الانزلاق اليه ، تتوه مشاعري وكأنني دمية تحركها نفسي أو يحركها شارع يكتظ بحياة متوقفة وليس فيها غير ضباب بلون مغبر متراكم فوق بعضه .أسمع همسهم الصاخب وراء خطواتي وكأنهم يذبحون ذاكرتي ، أعود لسيارتي وأحملها فوق خطواتي التي تقودها الى منزل ضمني ذات يوم ، أقترب من شباك يعرفني ، يعرف وجهي وصوتي ولمسة أصابعي التي فتحته في كل الصباحات القديمة التي يعرفها صوتي ، أقترب من شباكي وأطل عليه من خارج جدران تحمل ثقوبا لقذائف ورصاص متناثر كالدمامل المنفرة ، أبحث عن وجهي في ملامح أبواب موصدة لبيت كانت ضحكاتي ترن فيه وأنا أحمل حقيبتي لابدأ يوماً جديداً ، لكنني لا أجد ظل وجهي ولا بصمة أصابعي ولا صدى صوتي ، تختفي تفاصيلي مني ، أركض وراءها أسابق شوارع أعرفها وتنكرني ، أفتش في الجدران التي تحيطني عن منزلنا وظل أمي وحقائب مدرستي ، أجمع شتات بصري وأرميه وراء ظهري وأبحث دون جدوى عني .

أقود سيارتي التي تربت على ملامحي المرهقة بالاسى وتودع معي أمكنتي التي نغادرها الى الفراغ ، والوحشة تكتسحني وكأنني ظل امرأة لا اعرفها ابدا ، تبحث عني معي في أزقة وذاكرة ،وزوايا ، وأصوات مرت يوما في هذا الفضاء الذي لا فضاء فيه يكفي لاحتوائي.


* المجلة الثقافية مجلة جزائرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى